الذي يُتنخّل بعد طول النفس في استكناه الدِّلاء المنهجية والدروس الدلالية من مجموع مناهج الاستمداد من الوحي القدسي، أن هنالك تنوعا وثراء على مستوى المسالك والمدارك التي تستمدّ جماليتها من المصدر ذاته؛ لأنه ما دام الوحي يختزن عوارف المعارف وعواطف اللطائف فلن يكون السبيل أبدا في كشف يقينية الدلالة القرآنية عند مدّ يد الوصل إليها مقصورا وموقوفا على المنهج اللفظي أو النسق الآياتي، أو السياق المقامي أو التناسب المعنوي... بل وتحقيقا لإعجازه يفيض الكأس ولا زال يستهوي المدد، ولا تضيق النفس ولو طال الأمد؛ إذ لا يخلق الكتاب على كثرة الردّ مصداقا لقول الله تعالى:
"قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا" (الكهف: 104).
وما دام القرآن نورا للخلق يهديهم إلى سبيل الهدى والرشاد، فهذا يعني أنه لابد له أن يختزن المعطيات التي تعطي فيه قوة البيان والكشف عن مراد المولى -عز وجل-.
ومن ثم كان للتزكية والتصفية أبلغ الأثر في نبض معاني اللفظ القرآني، بربط الصلة بما وراء المنهج اللفظي داخل سياق النظام ذاته، مما كسى المفاهيم والمعارف المقتبسة حُلّة دلالية عميقة تستوحى عبر مقامات في فضاء الترتيل المتوازن، تقابل المعنى بالمغنى، وتلوح في أفق التفسير عصارةً جمالية لأفهام نورانية، لا تكاد تخلو من درر وجواهر، تلتف في خرز منتظم لا تتباعد خيوطه ولا تنفك شذراته.
قبس.. الإشارة
ونظرة خاطفة إلى مباحث دلالة الألفاظ نجدها تتعدى المدلول الواحد والفهم السائد، فإذا ما ألقينا عصا التسيار بفناء دلالة اللفظ عند الأصوليين تواجهنا استهلالا إشكالية دلالة الألفاظ على معانيها في مراتب الوضوح: ظاهرا ونصا ومفسرا ومحكما: فنقول هذه فحسب، بوابة فهم النص ودراية لفظه، وهي مقدمة منهجية في تنمية الوعي بأن لا يكون مكابرا بالمحسوس، ووسيلة تربوية إلى الأمانة العلمية في الفهم وعدم تحريف الكلم عن مواضعه، وبألا يُحمل الباحث النصوص ما لا تحتمل، فلا مساغ هنا للاجتهاد والتأويل... لكن، سرعان ما تنجلي هذه الحقيقة إن خفيت دلالة اللفظ، على مراتب ومستويات أقلها الخفي وأشدها المتشابه... وهنا سنرى أن الحاجة أضحت ملحة إلى جس ونبض القدرات والمهارات حيث لا يستوعب درجات دلالة الألفاظ على المعنى إلا خواص الخواص، بحسب إعمال عميق لأداة الفهم.. وقد لا يُعتمد هنا الضبط بالاقتصار على حركة الذهن والفكر دون الإلمام بشروط العدالة والتزكية، والتي قد يكون لها أبعد الأثر في إنتاج الفهم السليم، المتشرب من المعدن القويم، وراثة ووظيفية.
كذا الحال مع الكلام المحتمل لأكثر من معنى، لكم يحتاج إلى القرائن والدلائل احتياجا قسريا؟ ترنو النفس إليه بالشوق والتوق، فإذا تحصل المعنى صقل الذوق وحُلّ الطوق..
وإذا استعمل اللفظ في غير ما وضع له فالحاجة أكثر إلى مكامن البوح الصريح مبنى ومعنى، خصوصا إذا لم يكن الكلام على وتيرة واحدة، واعتمد التلوين في القول جمعا بين الحقيقة والمجاز والاستعارة والكناية والتشبيه والتمثيل، فيكون الانشداد إليه أكثر، والانتباه أدق وأقدر.
وترتبط كذلك دلالة اللفظ بتعدد ما يدل عليه عموما وخصوصا، إطلاقا وتقييدا، وما أحوج هنا كذلك إلى بنية خاصة ومناعة وقناعة، وإن تعجب فلا عجب أنه من سماحة الإسلام ويسر التشريع الإلهي مراعاة القدرات والإمكانات، والظروف والأحوال، ولذا احتوشت خطابه الأحكام الخاصة والعامة، تقابلها في درجات الفهم السعة والرحمة، والاختيار بين الأشد والأخف، والتوفيق بالأورع والأحوط، فالأصل العموم ما لم يرد دليل الخصوص، والإطلاق ما لم يرد التقييد، ولا يعمم الحكم والمقاصد متباينة مراعاة لها وللمآلات. وهكذا وهكذا..
واندرجت دلالات اللفظ تحت مسمى المنطوق والمفهوم، واقتبس من المنطوق دلالة الاقتضاء والإيماء والإشارة، ومثلوا للأخيرة بقوله تعالى: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" (البقرة: 186).
وقالوا دلت الآية بطريق المنطوق على إحلال الجماع طول ليلة الصيام، ويؤخذ منها بطريق الإشارة صحة صوم من أصبح جنبا... (فكما استخرج علماء الأصول والفقه من ألفاظ القرآن والسنة بطريق الإشارة أحكاما تشريعية، كذلك استخرج الصوفية بطريقها علوما ربانية[1]).
فهذي القبسات الأصولية في دلالة الألفاظ على معانيها تشدّنا إلى معقولية النص القرآني الذي لا سبيل إلى الاستمداد من أبحر معانيه إلا بخوض هذا الغمار وقرع باب المسالك الدلالية كلها لفظا ومعنى، واعتماد الوسيلة التربوية والتزكية والتصفية. فانظر كيف تباينت المشارب وتعددت المناهج وتمايزت الوسائل إلى أشرف المقاصد.
فالمراد والمقصود بيان معاني كلام الله تعالى الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، فلم، إذن، الاعتماد على منهج واحد ما دامت الطرق تفضي إلى نفس المقصود؟
فإذا نحن سلمنا بمبادئ وقواعد وبنيات المنهج اللفظي في وحدة القرآن البنائية والأمر محتم جاوزنا القنطرة لأول وهْلة؛ "لأن دلالات اللفظ القرآني تسقط على كافة توظيفاته واستخداماته في القرآن، فالإعجاز ليس بلاغيا فقط؛ إذ قصره على هذا الجانب انتحاء به منحى التقنين، والتقنين لا يصدر إلا عن إحاطة، والإحاطة في حق الكتاب مستحيلة... ولكنه من لم يدرك بنائية القرآن ووحدة ألفاظه العضوية، يمكن أن يقع في تعضية وتمزيع خطيرين بإدخاله فيه من خارجه مدلولات ألفاظ لا تمتّ؛ (أي المدلولات) إليه بصلة، ممّا من شأنه أن يحول دون الاستهداء به نحو التي هي أقوم... [2]".
الضابط التجريدي في الترتيل
ثم لو عضدنا ذلك بالوحدة البنائية في نسق مفهومي منقطع النظير، وعرّجنا على خصوصيات فقه التدبر بآليات وموازين متناسقة لابد وأن ننتج بعد الجمع بين هذا التآلف النوراني معنى جديدا لكلام الله تعالى نسميه حينذاك إشارة أو إيماء... لا مشاحّة في الاصطلاح. ولكن المدار هنا ليس على البناء ولا على المفهومية بقدر ما هو مرتبط بأصول التدبر المؤتم بالربانية سلوكا وطهارة، وترتيلا وتبيينا، ولذا أود إضافة ضابط آخر إلى ضوابط الترتيل وهو: الضابط التجريدي[3] ويتفاوت حسب درجات الاستيعاب بالتدبر والتبصر، بدءاً من الجانب الصوتي في الترتيل "إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة" إلى الجانب السلوكي في التدبر والتحبير مع الجمع بين الاستقامة في كليهما.
"تدبّر على حساب صفاء الجنان، فبقدر ما يتطهر القلب من حب الدنيا والهوى تتجلى فيه أسرار كلام المولى، وبقدر ما يتراكم في مرآة قلبه من صور الأكوان، يتحجب عن أسرار معاني القرآن، ولو كان من أكابر علماء اللسان. فلما كان القرآن هو دواء لمرض القلوب، أمر الله المنافقين بالتدبر في معانيه، لعل ذلك المرض ينقلع عن قلوبهم، لكن الأقفال التي على القلوب منعت القلوب من فهم كلام علاّم الغيوب، فحلاوة كلام الله لا يذوقها إلا أهل التجريد، الخائضون في تيار بحار التوحيد، الذين صفت قلوبهم من الأغيار، وتطهرت من الأكدار، يتمتعون أولا بحلاوة الكلام، ثم يتمتعون ثانيا بحلاوة وشهود المتكلم. والله تعالى أعلم[4]".
ويكفي هنا أن يؤتى البيت من بابه "وءاتوا البيوت من أبوابها"، وأن يعتمد في المنهج على لبابه، ومن ثم يسلس الارتشاف من نور لا تطفأ مصابيحه، وسراج لا يخبو توقّده، وبحر لا يدرك قعره، وفرقان لا يخمد برهانه، أكرم به ريا لعطش العلماء، وربيعا لقلوب الفقهاء، وفجاجا لطرق الصلحاء...
من هنا فقط تدرك أنه بقدر ما يقربك روحيا من الله تعالى ينفك لك الملغّز، وتستقي من معانيه ما تصير به نعم المُميّز، باعتباره أساس الفكر والروح، منه نبع التصور عن الله تعالى، وعن الوجود والحياة والمجتمع والناس، ودساتير التشريع الإلهي للإنسان، ومقاصد الخلق ودلالات لا تعد ولا تحصى وهي أكثر من أن تستقصى.
فهذه الموارد يا ترى تُكسب القاريء المتدبر والمفسر المقتدر خصّيصة معرفية بعد المعايشة والمخالطة اللامتناهية لكتاب الله، عز وجل، وما أروع أن يكون القرآن سليقة المؤمن، وذوقا له، حتى يصير مُسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقّادها، يقظان النفس، درّاكا للمحة وإن لطف شأنها، منتبها على الرّمزة وإن خفي مكانها.
"من لم يكن هكذا كان حظّه من التفسير القشر الظاهر، أما لبّ القرآن فلا يشم له رائحة لأن معاني القرآن لا تنكشف إلا لقلب صفت مرآته من الصدأ[5]."
فإن سَلّمنا بذلك وأدركنا ما سقناه هنالك من تنوع المهارات واختلاف المشارب والمدارك، فقد نصّ العلم المحمدي على أن هناك انشراحا وانفساحا لتلقي العلوم وإدراك الفهوم، قيل: "يا رسول الله أينشرح الصدر؟ قال نعم، وينفسح[6]".
وهذه معان متقاربة لا يدرك كنهها إلا بالذوق، ومعنى الشرح المفاتحة أو المبادأة، كما الفتح هو الشروع والبدء. والمعنى كما قال الشيخ زروق -رحمه الله-: مبادأة العبد بما هو فيه على بساط الضراعة وبث الشكوى والمناجاة فيباديه مولاه بمعاني أسمائه وصفاته وعظمة ذاته، ليرتاح لذلك وينسى كل شيء به اهـ[7].
وهذا مرتع خصب للمبتدئ في نشدان فضل الله عسى أن يجعله الله من أهل القبول، فلابد من المبادأة أو المفاتحة كأساس، و ليس المعنى هنا البدء أو الفتح بالمعنى المادي الحسي ولكن فتحا ربانيا يشرف على قلب العبد فيكون أول ما يفتتح به في هذا البحر الخضم التصديق والتسليم، والاعتراف بالعجز والتقصير، هذه فاتحة المريد الذي يرجو رضى الله عز وجل، إذ معرفته دوما قاصرة عن إدراك كنه الأمور وحقيقة المسطور والمقدور، لذا فهو أبدا في حاجة وافتقار إلى مولاه، هو في حاجة إلى المفاتحة بالضراعة في عبادته: وهذا مقصد تشريع النية في كل ما يقدم عليه العبد من أعمال كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى) حتى يربط كل عمل بالمقصود، إذ الأمور بمقاصدها، ولا يسلم العمل كعمل إلا إذا كان عين مقصوده رضى الله عز وجل، بأن ينشد العبد فيه الإخلاص والإخبات "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين" (البينة: 5)، ويبغي به القرب ليرقى أسمى المقامات، فإذا افتتحت العبادة بهذا القصد بادأك الحق سبحانه بفتح في معرفة معاني أسمائه وصفاته وعظمة ذاته وألبسك حلة القبول وقشيب الاجتباء وعباءة الاصطفاء، فيأتي بعد المفاتحة بالضراعة والتسليم الفتح المبين والمقام المكين والأمان يوم الدين.
ثم إن العبد في حاجة إلى المفاتحة بالمناجاة في صلاته وهذا سر الافتتاح بالفاتحة وقد صرح به الحق سبحانه في الحديث القدسي الذي يرويه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي..." والفاتحة مفتاح الخير كله ولذا شرفت بافتتاحها أشرف العبادات، ولا تقبل الصلاة بدونها فمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصلاته خداج.
ولا يقبل عند أهل الله الدخول إلى حمى الرحمان والولوج إلى حضرته دون استئذان ولا تأدب ولا تجرد من علياء النفس وكبرياء الإرادة الإنسانية ليرتبط الأمر بإرادة الله، عز وجل، الذي وضع مقادير الأمور فأحسن تدبيرها وتسييرها: "إياك نعبد وإياك نستعين" (الفاتحة: 4).
ويلقي العبد مناط التكليف بيد الله، وهذا عين الوصول المتحقق بالأدب في حضرة الله عز وجل عند افتتاح كل أمر ذي بال بفاتحة تتجلى فيها معاني الحمد والضراعة والاستكانة وتمام الحاجة إلى غنى المولى سبحانه بالدعاء والابتهال....
ومن ثم فإن العلوم الشرعية على كثرتها وتنوعها وخصوصا علم التفسير وبيان معاني كلام الله يحكمها تيار خفي وهاجس نوراني من المنطق التشريعي الرباني، لُبابه الإيمان، حيث يكون قصد المفسر في التبيين مباشرا لقصد الله في التنزيل، قياسا على كون قصد المكلف في الفعل موافقا لقصد الله في التشريع.
" فإذا بلغ الإنسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي، صلى الله عليه وسلم، في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله.[8]"
حتى لقد وقع الفصل على إثر ذلك بين مسميات الذكر الحكيم، لما يختص به كل اسم من معنى يناسب أهله وأصحابه على مستوى نظرهم وإدراكهم لمعانيه، فـ"كثيرا ما يطلقون القرآن على العلم اللدني الإجمالي الجامع للحقائق كلها، والفرقان على العلم التفصيلي الفارق بين الحق والباطل، وكتاب الله تعالى جامع لذلك كله كما لا يخفى على أهله[9]".
وهذا ما مايز أيضا بين طبقة قرائه ومتدبريه بله مفسريه والمشتغلين ببيانه، حسب مراعاة الضابط التجريدي قصد تجلية الأسرار، "وفي الناس طبقة ترتقي كفاءتها إلى درجة تخولها التصرف في جمع كلام المفسرين وترتيبه واختصاره. والواجب على كل راغب في التحلي بذلك أن يدقق النظر في ميزان نفسه ليقف عند الحد الذي يثق به عندها حتى لا يختلط الخاثر بالزباد، ولا يكون كحاطب في حالك سواد...[10]".
فالصوت القرآني المقروء والمبثوث في هذا النطاق له الهيمنة التامة على مجاوراته إلى حين يتم تأويله؛ إذ يترتب كذلك على هذا الاعتقاد أنه كلما زادت قراءة القرآن، وهي متجسدة بفعل يتبع، في أجواء الكون كله، ازداد التطهير الصوتي لها من الشياطين وشوائب الدنيا، وهذا ما يثبت بلا أدنى شك قدرة القرآن الصوتية المعجزة حال كونه مقروءا قبل أن يكون مدونا[11].
لكم هي الحاجة مُلحة إلى نبض المعاني في الكتاب، ارتقاء بمعناه وتحقيقا لإعجازه. وإنما عولت على الضابط التجريدي لما يشتمل عليه القرآن من قواعد تربوية سامية، وحقائق للتصفية والتربية، وعَرفا ونورا جماليا "لن يكون إلا وليد النور الإلهي، النور الذي يشرق في قلوب المؤمنين بالخير والجمال، بما يسكبه القرآن في وجدانهم، من معاني الحق والعدل والحرية، ودون ذلك معركة يخوضها القرآن بكلماته ضد كلمات الشيطان وإلا بقيت البشرية اليوم تغص حلاقيمها بفاكهة آدم إلى يوم الدين، والقرآن وحده يكشف شجرة النار ويتلف فاكهتها الملعونة[12]".
وهذا لعمري يقترن بالمثال الكامل للمعاني القرآنية، مَنْ خُلقه القرآن، صلى الله عليه وسلم، كما ورد في حديث عائشة الصحيح، "فإن الأمة كانت تتخلق شيئا فشيئا بخلق القرآن على طريقة تجعل المعاني القرآنية منطبعة فيها انطباع الملكات، فليست متلقية لتعاليم الدين وعقائده وآدابه وشرائعه تلقي التلقين ولا التعليم، ولكنها كانت تتلقاها تلقي التربية، وكانت الطريقة التي تطبع المعاني القرآنية والملكات المعنوية المستمدة من معاني القرآن، إنما هي طريقة التربية التي تجعل الأمر خلقا راسخا مبنيّا على توجيه الغريزة الإنسانية وجْهة الارتباط والامتزاج بتلك المعاني السامية حتى تصبح جبلية بمنزلة الغرائز؛ لأن الغرائز إنما تصرفت بالاتصال بها والانسجام معها. فالسلوك العملي للجيل الأول إنما كان يعتبر كذلك انطباعا مثاليا من الناحيتين النفسية والعقلية، حتى إن الصوفية الذين يعتبرون أن الغاية التي يسعون إليها من جعل الإنسان بطريقة التربية أو الرياضة أو غيرها من الطرائق التي يسلكها الصوفية واصلا إلى درجة التخلق بآداب الشريعة وأحكامها بصورة تجعله منطبعا عليها انطباعا كاملا، إنما يصرحون بأن مثالهم الذي يضعونه لذلك إنما هو تخلق الجيل الأول من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، بالخلق القرآني على نحو من الاقتداء بالمثال الكامل، وهو الذي كان خلقه القرآن صلى الله عليه وسلم[13]".
فلربما قد ترشد بعض القواعد المستقاة إلى درك ما خفي معناه من لطائف وإشارات من بحر أسرار كلام المولى سبحانه، نجعلها ونسبكها في قلادة السلوك مبتغين التجديد في التجريد.
أحقية الطهارة في نبض العبارة
قال تعالى: "لا يمسه إلا المطهرون" كأول شرط حصل فيه الخلاف بين الفقهاء، فأجاز البعض الترتيل بطهارة ومنعه آخرون، وإنما القصد هنا التصفية الحسية لمقابلة معان لا تنفذ إلا لمن صفا مشربه وزان ظاهره، وتهيأ نفْسا ونفَسا للنهل من حقائق ثابتة ومعان سامية، وصار أهلا لتحمُّل القول الثقيل؛ إذ بقدر ما يتطهر القلب من حب الدنيا والهوى تتجلى فيه أسرار كلام المولى، وعلى هذا القول شاهد ومشهود.
أي نعم، لنقتبس ذلك من سيرة الكمال التي صاحب فيها التجريد صاحب الرسالة، عليه الصلاة والسلام، وهو يتطهر بشتى الوسائل، بل فتح الله، عز وجل، له دورة تربوية روحية شاقة قصد الطهارة ليس إلا، واقرأ إن شئت قول الله عز وجل: "يأيها المزمل قم اليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، اَو زد عليه ورتل القرءان ترتيلا، اِنا سنلقي عليك قولا ثقيلا، اِن ناشئة اليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا، اِن لك في النهار سبحا طويلا، واذكر اسم ربك وتبتل اِليه تبتيلا" (المزمل: 1-7).
جعلُ الطّهارة مقدمة منهجية تربوية لدرك المعاني وطلب الفتح الرباني هو السبيل الوحيد لصلاح الفرد والمجتمع والأمة، في سياق تلقيها عن أقدس مصادرها، والاستمداد من أنفس مراجعها كتاب الله تعالى، سواء أقصدت علوم التسيير أم التسخير، فبقدر سمو المعاني يُحتاج إلى كدّ ونصب في سبيل جنيها وقطفها من علياء تطول المسافة بيننا وبينه كلما خلينا بيننا وبين الطهارة والصفاء.
وإن ركوب متن المخالفة حاجز وحائل دون تحقيق هذه الطِّلبة، إذ لا يستقيم أن تأتي باب السمو والجلالة بخرق وأسمال بالية، أفلا تدرك ذلك في وصية القرآن الجمالية: "خذوا زينتكم عند كل مسجد" ( الأعراف: 29)، فذاك بيت الله وهذا كتاب الله، والكل من عند الله.
وإن تحقيق الطهارة لَمن مناشئ التربية الإيمانية والتصفية الحسية حتى يحصل التوافق والتآلف مع الحروف والكلمات والمعاني القرآنية النورانية، "اعتبارا أن الله تعالى بذاته الجليلة هو الذي يعتبر المتكلم بالكلمة القرآنية على حسب ما صيغت عليه التراكيب القرآنية في أسلوبها، فالله تعالى يعتبر معاد ضمير المتكلم في القرآن العظيم، سواء أكان ضمير المتكلم العادي أم كان ضمير المتكلم العظيم "أنا أو نحن". والله تعالى هو الذي تضاف الأشياء -من المعاني والأحداث التي يتكلم عليها القرآن- إلى ذاته العلية باعتبار كونها صادرة عنه وباعتبار كونه متكلما بها...[14]" ليبقى وصف الاحتياج محيطا بالقارئ والمتدبر الذي لا يملك سوى الافتقار والتذلل بالتجرد عن غبش الحياة وسفاسف الأمور ثم الاتصال بالله لتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه، والخلوة إليه، والله وحده هو الذي سمى خلقه في الكتاب بوصف ما كان ينبغي لأحد في العالم أبدا أن يسمي به الناس عن حق، وهو وصف "عبادي"، فيقول سبحانه وتعالى: "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم" (الحجر: 49)، ويقول سبحانه: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" (الزمر: 50).
فلتتحقق معاني العبودية إذا أردنا الفهم عن الله تعالى في مُحكم كتابه، ومُسايرة الواقع بسند روحي جمالي مدخله الطهارة، قصد الاستمداد من الوحي علميا وعمليا. وهذا ما يُرى أشرف الوسائل إلى أشرف المقاصد استرجاعا لما اغتُصب من حق الجمال بعد سطو الحضارة وهيمنة المادة على النفس الأمّارة.
الخلوة.. مع القرآن
تأخذ الخلوة هنا معنى مغايرا للمعهود، ليس الاعتزال وركوب الفيافي والقفار، والرباط دون المعاشرة والاختلاط، ولكن القصد الخلوة إلى الله تعالى بمخالطة كتابه وتدبّر معانيه في الليل البهيم الطويل، فهي ساعة السكون التي ترتقي فيها المعاني وتتحصل فيها الأماني:
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننــا *** سر أرق من النسيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أمّــلتهــا *** فغدوت معروفـا وكنت منكرا
فهي ساعة الوصل، أقرب ما يكون فيها الرب من العبد، يتنزل فيها المدد، ولا يستقيم الحال حينها إلا في "ترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لغط بشري ولا عبارة، واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي.. إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل، وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافّة بهذا الطريق المنير[15]".
ذاك هو المنهج الثاني في التجريد بطرح اللهو والعبث على التأبيد، ولقد كان الصحب الكرام رضي الله عنهم أضبط الناس في تمثله والمداومة عليه، خلاصا من زحمة الحياة، وتفرّغا لموحيات الكون جمعا بين المسطور والمنظور، واقتباسا منه لعلوم التيسير والتسخير، وسباحة في بحر معارف القرآن، لذا قام هؤلاء الرجال الكمّل بعد أن نزلت أوائل سورة المزمل ــ الليل سنة كاملة. وقيل عشر سنين حتى تورّمت سوقهم وأقدامهم فنزل التخفيف في آخر السورة: "اِن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي اليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر اليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرءان علم أن سيكون منكم مرضى وءاخرون يضربون في الاَرض يبتغون من فضل الله وءاخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة.." (المزمل: 18).
فإن قيل كيف يتم الربط بين جانب السلوك والمعرفة؟ وللبحث آليات وضوابط منهجية في التحمل والأداء؟ لا غنى عنها ولا فهم للمقصود دونها؟
كان الجواب بديهة أن هنالك حركة باطنية تنير مدارك الأفهام، كلما تجردت عما يحول بينها وبين الفهم السليم؛ إذ الحائل غالبا ما كان من جنس الاشتغال بالتوافه دون كسب المدد التعبدي تصفية وتزكية ووظيفية، ولذا كانت أسلم المناهج إلى هذا التحصيل المعرفي الممكن في كل وقت وحين، هو تحديد وظيفة تجريدية يتحمل فيها المكلف قارئا ومتدبرا ومُفسّرا عبء موادها وتنوع مواردها، رغبة في استكمال الدور المنوط بتبيين كتاب لا يمسه إلا المطهرون، الذكر المبارك، الذي لا تصحبُ معانيه إلا من بُورك صباحه ومساؤه بترتيله، آناء الليل وأطراف النهار، حتى يسير في إشراقة نور كمشكاة فيها مصباح.
وإن هذا المنهج المبارك لمّا تعدّاه الفرد والأمة وتجاوزه، بل تناساه -إن صح التعبير- أحدقت بفهمه الظنون، وببصيرته المنون، فأشكل عليه مسايرة الواقع وقرع باب الاجتهاد وأضحى حائرا يدور في بحر لجي متلاطم الأمواج، وصار عنده التقليد مكسبا والتبعية مشربا، وما التحرر إلا في التجريد كأشرف المسالك يقيه في طريقه المهالك، ومن هنا يَدري العارف مدى الترابط في المعرفة بينها وبين فتْح رباني لتسديد الوجهة، وفي نظري القاصر ليس هنالك من مستودع للحقائق غير القرآن نفسه كما سبق وأشرت، فجولة مع تمعُّن في أدعية الأنبياء في القرآن تدري لم كان طلب المدد في مهمة الرسالة ومقاليد الحوار؟ في قول الله تعالى على لسان موسى عليه الصلاة والسلام: "رب اشرح لي صدري.." وقد يبين ذلك جلاء ووضوحا في المنهج الموالي:
الوصل بين الذكر والفكر
" إن في خلق السموات والاَرض واختلاف اليل والنهار ءلايات لأولي الاَلباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والاَرض" (ءال عمران: 190-191).
الذكر ما تبتهل به الألسن وتفيض به الأرواح ويحصل به الأنس وهتك الهوى الفضاح، والذكر ربط الصلة بالمدد الإلهي والفيض الرحماني حتى لا ينقطع الوصل فيحصل الفصل، الذي يفضي إلى تشنج الجوارح ومرض القلوب.
ليس هنالك أجمل من أن ينبض القلب بذكر الله تعالى مستحضرا الخشية والرهبة، والطمع في رحمته والرغبة، وليس هنالك أكمل من أن تنبس الشفتان في كل يوم وليلة بأوراد واستغفار وقرآن ودعاء، فلو تعود المرء على ذلك ما كان للمكروه أبدا أن يُحدق به، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يذكر الله على كل أحيانه، ولا يفوته اليوم دون أن يستغفر الله مائة مرة، صلى الله عليه وآله وسلم، وشرف وكرم وعظم، وهو المقصود في الآية المتقدمة بذكر الله قياما وقعودا وماشيا ومهرولا ونائما ومستيقظا، وفي كل الأحوال والأوقات.
والذكر وصله الله سبحانه بالفكر وما كان لمومن أن يفصل بين معنيين زكاهما ووصل بينهما الحق سبحانه ولهذا قال عز من قائل: "ويتفكرون في خلق السموات والاَرض".
وقيل: الذكر هجّيرا[16] ألسن المحبين وسلم الواصلين من السالكين إلى حضرة رب العالمين، وهو العبادة التي ظاهرها أجور وباطنها حضور وباطن باطنها نور على نور، يحرس الجوارح ويحفظ الوقت ويشرد اللغو ويفتح باب الأنس ويضمن الخير بكل حال.
وللفكر في كتاب الله المنظور: -أي ملكه وخلقه- بعد الذكر في كتابه المسطور، جمال ما بعده جمال، وبغفلة الإنسان عن ذلك ينطفيء في روحه جوهر الفكر الموصل إلى حقيقة الوجود وصدق التوكل وحصول الرجاء والخوف، والارتواء بعد الظمأ والأمن من الخوف والمطعم بعد الجوع.
وهذا أطيب ما ينشده الإنسان في واقع التيه والحيرة:
أطيب ما هي أوقاتــــي*** حين أكون مجموع مع ذاتــي
حين أكون مع ذاتي مجموع *** ترى شمسي منـــي تطــلع
ويــجيء فقري مطبــوع
الوجود قد بان *** وترى الإنســــان
جميع الأكوان *** كلها من جزئياتي
حين أكون مجموع مع ذاتي
يقول الإمام عبد القادر الجيلاني رحمه الله ورضي عنه: "يا غلام، إذا صحت خلوتك مع الله عز وجل، دهش سرك وصفا قلبك، يصير نظرك عبرا، وقلبك ذكرا، وروحك ومعناك إلى الحق -عز وجل- واصلا. التفكر في الدنيا عقوبة وحجاب، والتفكر في الآخرة علم وحياة للقلب، وما أعطي عبد التفكر إلا أعطي العلم بأحوال الدنيا والآخرة."
"ادن قلبك من الذكر وذكره يوم النشور، تفكر في القبور الدوارس، تفكر كيف يحشر الحق عز وجل جميع الخلق ويقيمهم بين يديه، إذا دمت على هذا التفكر زالت قساوة قلبك وصفا من كدره، إذا كان البناء على أساس ثبت ورسخ، وإذا لم يكن على أساس تعجل وقوعه..[17]."
تحقيق الوظيفية مطلب في التجريد سواء كان بالتحديد الزماني وهو الأفضل؛ إذ ينبغي لكل إنسان أن يكون له هجّيرا يناسب مقامه ويوافق حاله وإن لم يكن به يوم الجمعة عارض من العوارض فليكن هجيراه التصلية، ومما تخيرته هجّيراي في الدنيا والآخرة: الاسترجاع والحسبلة حتى نذوق الموت[18].
أو مجردا عن الوقت، وقد سارع أهل العلم المعتبرين إلى الاعتناء بذلك في قالب قواعد ومبادئ منها مثلا: "من لم يتمكن من تعمير كافة الأوقات، فليجتهد في تعمير الأوقات الفاضلة[19]".
يمكن أن نسم ذلك بالمنهج أو المسلك أو المقام... ذاك مهم، ولكنا ننشد الأهم في ثمرته وما يجنيه لمريديه من مدد معرفي لا زلنا نغترف من بحاره، وفق الله للكشف عنه في مدارك استمدادهم من الوحي قرآنا وسنة، على حد اعتبارهم له غاية لا وسيلة، ومقصدا لا ذريعة.
الهوامش
1. الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري، بدع التفاسير، الدار البيضاء: دار الرشاد الحديثة، ط2، 1986. ص51.
2. أحمد عبادي، نظرية الترتيل في القرآن المجيد (دراسة في المفهوم والمستويات)، دورية رسالة القرآن عدد2 (1426ﻫ/2005م)، ص 65-68.
3. الضابط التجريدي: وهو ضابط يفرض ضبط مدارك النفس والسلوك ويعصم من مهاوي الانزلاق أصالة لتتوافق مع هدي القرآن شريطة المجاهدة والاستقامة والمكابدة. وذا الأمر حاضر في مجالات العلوم كلها، وقد تأكد حضوره في مناهج المفسرين والمحدثين والفقهاء والأصوليين... فهو ضبط الصدر والعدالة والأمانة في الرواية، وهو التعقل والاستقامة في الدراية، ويبقى من الوسائل المفضية إلى المعنى والحقائق الكامنة فيه.
4. ابن عجيبة الحسني، البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، بيروت: دار الكتب العلمية، د. ت، 2/75-76.
5. ابن عجيبة، تفسير الفاتحة الكبير، مخطوط خاص، ص58.
6. رواه أحمد عن ابن عباس.
7. الحكم العطائية بشرح الشيخ زروق، تحقيق رمضان البدري، بيروت: دار الكتب العلمية، د. ت: 234.
8. الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، المجلد2، ج4، شرح وتحقيق: عبد الله دراز ومحمد عبد الله دراز. بيروت: دار الكتب العلمية. د. ت، 77.
9. أبو الفضل محمود الألوسي البغدادي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، ضبط وتصحيح علي عبد الباري عطية، ط2، دار الكتب العلمية، (1426ﻫ/2005م)، 1/11.
10. الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة، دار سحنون تونس/ دار السلام، ط 2007، ص8.
11. د. مشكور العوادي المنهاج، النظرية الإعجازية للتنزيل، عدد 47 خريف (1428ﻫ/2007م).
12. الدكتور فريد الأنصاري، القرآن العظيم في معركة السلام، مدخل إلى تأسيس القضية، عن مجلة رسالة القرآن، ص9.
13. الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور، ومضات فكر، تونس: الدار العربية للكتاب، 1982، ص26.
14. المرجع السابق، ص15.
15. سيد قطب، في ظلال القرآن، 8/341.
16. والهجّير: الدأب والعادة، وكذلك الهجّيرا يقال ما زال ذلك هجّيراه: أي دأبه وعادته.
17. الفتح الرباني، بيروت: دار الكتب العلمية، د. ت. ص184.
18. المواق الغرناطي، سنن المهتدين في مقامات الدين، تحقيق: محمدن سيدي محمد ولد حمينا، مطبعة بني يزناسن سلا، ط1، 2002، ص354.
19. المرجع السابق، ص314.