مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

لسان الدين ابن الخطيب: الكاتب الساخر

 بقلم: عبد الله كنون

  العدد الثاني من مجلة البحث العلمي ذو الحجة/ ربيع الأول1384-ماي/غشت1964

  تكلم الناس عن لسان الدين ابن الخطيب وزير غرناطة الداهية، وأديب الأندلس الكبير بما لا مزيد عليه، فمنهم من خص ناحية من نواحي شخصيته المتعددة، ومنهم من عم كالحافظ المقري صاحب نفح الطيب الذي هو من أكبر الكتب المعروفة التي وضعت في ترجمة شخص معين، وعلى كثرة ما تناول الباحثون هذه الشخصية الفذة وأدبها الخصب بالدرس والتحليل وكان حريا أن يحظى باهتمامهم هو عنصر السخرية في كتابته والأدب العربي إن كان يحفل بصور ونماذج بديعة جدا من السخرية في هذا الشعر الذي نسميه شعر الهجاء من لدن العصر الجاهلي إلى العصر الحديث فإنه في النثر يقل أن يتخذ أسلوب الفكاهة وسيلة للتعبير وهو أدنى مراتب الأدب الساخر ولذلك بقيت رسالة التربيع والتدوير للجاحظ والرسالة الهزلية لابن زيدون علمين في هذا الباب في الأدب العربي كله.

  وقد ظهر في العصر الحديث كتاب نزعوا في أعمالهم الأدبية إلى الطريقة الهزلية كالمويلحي والبشري والمازني ولكن الإنصاف يقتضينا أن نحكم بأن الجاحظ ما يزال أمام هذه الطريقة، وبذلك نعلم أن أدبنا العربي فقير في هذا الفن وأن سمته الغالبة عليه هي الجدية التي تبلغ أحيانا إلى حد التزمت ولا أدل على ذلك من أن آثار لسان الدين ابن الخطيب التي تكتسي صبغة الهزل لم تكن من الآثار التي عني بها المترجمون له والتي ظفرت بتنويههم، مجاراة للتيار العام الذي ابتعد بالأعمال الأدبية عن معاني اللهو والتسلية.

  إن الحياة ذات وجهين، وجه متجهم عابس باسر، ووجه طلق ضاحك مستبشر، ولتصويرها وحكايتها على الأقل يجب أن يكون الأدب معبرا عن الحالتين ومتملحا لكلا الوجهين، كيف وأن ما تطالعنا به يوميا من مآس، وما تغرقنا فيه من أحزان، يدعونا إلى أن نقاوم جدها بالهزل، وأن نغمر أفراحها وأتراحها بأسباب المرح والحبور؟ ولقد أدرك اليونان ثم الرومان هذه الحقيقة فمثلوا الحياة بمآسيها ومهازلها في أدب حي لم يفتأ الغربيون في نهضتهم الحديثة أن نسجوا على منواله فبلغوا به قيمة الإبداع الفني ولم يغفلوا قط عن أن يراوحوا فيه بين الجد والهزل والمأساة والملهاة، ويعادلوا بين الكفتين إن لم يرجحوا الثانية على الأولى، وذلك ما يشعر به تقسيمهم الرواية التمثيلية إلى الدرام والميلودرام والكوميدي.

  ونحن أمام ما يتطلبه منا أدبنا الحديث، من ملافاة هذا النقص، نشعر بمزيد من الغبطة والسرور حينما نعثر على أثر أدبي من هذا القبيل لاسيما إن كان من صنع علم من أعلام الأدب كصاحبنا لسان الدين، فإن ذلك مما يجعله في نهاية الجودة ويضمن له الخلود.

  ولسان الدين، الذي يلقب بذي الوزارتين، هو كما نعلم رجل الحكم والسياسة والإدارة في دولة الأندلس المتداعية، كان بمثابة الوزير الأول أو رئيس الحكومة في الدول العصرية بل كان أكثر من ذلك الشخص الوحيد الذي يشرف على تصريف شؤون الدولة المدنية والعسكرية في مملكة غرناطة في القرن الثامن الهجري ”الرابع عشر الميلادي” أي في الوقت الذي كانت دولة العرب في الأندلس تترنح للسقوط فكيف تأتي له أمام مشاغله العديدة والمشاكل المعقدة التي تواجهه كل يوم، أن يفرغ للأدب، وللأدب الساخر بالخصوص؟

  والجواب أن لسان الدين هو إحدى معجزات الدهر، فإن أعماله الأدبية بلغت من الكثرة والجودة ما لو قسم على أيام حياته لزاد عليها، والسر في ذلك أنه كان مبتلي بالأرق، فبعد أن يطوي صفحة النهار في تدبير أمور الدولة، ينشر صفحة الليل للإنتاج الأدبي، ومن ثم لقب بذي العمرين أيضا، ولكن هذا إن فسر سبب إقباله على الأدب ووفرة تصانيفه، فإنه لا يفسر علة نزوعه إلى السخرية وأخذه بها نفسه في بعض كتاباته الأدبية، بل هو حريّ أن يكون صارفا له عن كل ما هو من عبث الحياة ولهوها بسبيل، فإن الأرق داء ولا تسلية مع الداء غير أن من عرف طبيعة الحياة اللاهية في الأندلس، وما لأهلها من قدوة على إغراق أحزانهم في بحر من المرح والسرور، لا يستغرب أن يقابل لسان الدين حياة البلاط الجادة بوجه متهلل بشوش وأن يمزح والبساط أبعد ما يكون عن المزاح ويضحك في حين أنه أحق بالبكاء إنها الحقيقة فلسفة من اكتنه باطن الحياة واستكشف سرها فاستوى عنده البؤس والنعيم والوجد والفقد والإقبال والإدبار، فلم يحزن؟ وعلام ييأس؟ أليس خيرا له أن يهزل ويسخر.

  وإذن فإن لسان الدين كان يستمد عنصر السخرية في كتابته من طبيعته الأندلسية المغراة بالنكتة والفكاهة والتي لا تحتمل الحياة على أنها جد كلها فتسوغها بالبسط والانشراح، ولكن الذي ينبغي أن نرده إلى هذه الطبيعة من آثاره الأدبية هو ما تتجلى فيه روح الدعابة والنكتة البريئة البعيدة من الأذى والإيلام، فإنه الذي يمثل رح الأندلسيين ولطف شمائلهم، وهو جانب من أدب لسان الدين الساخر، يملك على القارئ لبه بما فيه من متعة النفس والقلب والتسرية عنما، وهناك جانب آخر من هذا الأدب غلبت عليه صفة الهزء والهمز واللمز، فتجسمت فيه السخرية بمعناها الكامل، ولم يقف عند حد من التنقيص والتحقير، فبأدنى تأمل يحكم الناقد أنه صادر عن روح التشفي والانتقام وحالة الغضب التي سيطرت على الكاتب فلم يملك معها زمام نفسه حتى قال ما قال.

  وهذا اللون من أدبه الساخر كل السخرية، هو أكثر من اللون الآخر الذي إنما يميل إلى الدعابة والنكتة البريئة، ذلك أن الدوافع إليه كانت كثيرة، فالرجل في منصبه وجاهه وفضائله، مني بحسد الحاسدين ودس الدائسين، وحينما كان في إقبال من دولته، كان الناس يتهافتون على القرب منه والتودد إليه، فلما تنكر له الدهر أعرضوا عنه وائتمروا به، وكان أشدهم سعيا في ذلك من يعدون من ضائعه وغرس نعمته، ثم رمت به الأقدار إلى حيث جهل قدره وعومل معاملة سيئة، فكان ذلك مما أثار ثائرته وأشعل نار غيظه فجرى قلمه بما ذب به عن عرضه وانتقم لنفسه من خصوم لم يكونوا شرفاء.

  وهكذا نجد له في هذا الصدد تآليف قائمة بذاتها مثل كتاب خلع الرسن في التعريف بأحوال ابن الحسن وكتاب مثلى الطريقة في ذم الوثيقة ورسالة المفاضلة بين مالقة وسلا، فضلا عن ترجمة القاضي ابن الحسن في الكتيبة الكامنة وترجمة ابن زمرك فيها أيضا وغير ذلك، في حين أننا لا نجد له إلا موضوعات قليلة نحي فيها منحى اللهو البرئ والمزاح الخفيف، على أن من تآلفه ما يجمع بين الخطتين كمعيار الاختيار بين المعاهد والديار، فإنه فيه يجرح ويأسو، ويلين ويقسو بحسب المقامات وماتمليه عليه نزعاته النفسية.

  وابن الحسن الذي ألف فيه كتاب خلع الرسن هو القاضي أبو الحسن بن عبد الله النباهي المالقي، قاضي غرناطة الذي أبدأ وأعاد في التحريض على لسان الدين إقامة الحجج والبينات على كفره وزندقته توصلا لاستحلال دمه وإزهاق روحه لما خانته دولته ولجأ إلى المغرب فارا بنفسه من غضب السلطان وانتقامه، وذلك بعد ما كان من خاصة أودائه وخلاصة أصدقائه، ولقد هم بالقدوم إلى المغرب لإقامة دعوى الإلحاد عليه لولا أن الدولة في المغرب حمت نزيلها وردت كيد أعدائه في نحورهم قائلة لماذا لم تقوموا بهذه الحملة عليه لما كان بين ظهرانيكم فخسوا وذلوا، وكان من النتائج الطبيعية لهذا الموقف المخزي من القاضي ابن لحسن أن يؤلف لسان الدين كتابه خلع الرسن في بيان مساوي هذا القاضي ويرفعه للسلطان أبي فارس المريني ملك المغرب الذي حماه ودفع عنه.

  ويقول ابن الخطيب في كتابه هذا: «أنه لا شيء فوقه في الظرف والاستظراف يسلي الثكلى ونستغفر الله تعالى».

  أما كتاب مثلى الطريقة فكان الذي دعاه لوضعه هو سوء تفاهم وقع له مع بعض الأفاضل المتعاطين لصناعة التأثيق، وكان هو بحالة من الغربة وإدبار الدولة جعلته يتوجس من كل قول وعمل يواجه به، إهانة له واستخافا بقدره، فكتب هذه الرسالة في ذم الوثيقة والموثقين والتشهير بهم والتشنيع عليهم، وما كان ذنب صاحبه إلا أنه لم يجبه دعوة له مع الاعتذار عن ذلك.

  ومن هذا الباب أيضا مقامته في المفاضلة بين مدينتي مالقة وسلا، إن سلا كانت مهوى فؤاد لسان الدين في هجرته إلى المغرب ومحل إقامته في تلك المدة معززا مكرما من أهلها ومن السلطان، فما حدا به إلى الزراية عليها بذلك الشكل الذي ضمنه تلك المقامة الأهاجس من هواجس الحالة النفسية القلقة التي كان عليها كاتبنا إذ ذاك.

  والقول في ابن زمرك وما ترجم له به في الكتيبة الكامنة هو مثل القول في القاضي ابن الحسن، فقد كان هذا الأديب من تلامذة لسان الدين وممن درج بين يديه في مناصب الدولة، وهو يعتبر في الحقيقة ربيب نعمته، لكنه لم يحفظ له عهدا ولا ودا ولا راعى فيه إلا ولا ذمة، وكان هو العامل الأساسي في نكبته وقدم بنفسه إلى فاس لما خلا الجو لخصوم ابن الخطيب فلم يقصر في انتقاصه وامتحانه ولم يرجع إلى الأندلس حتى قتل رحمه الله، فلسان الدين إنما كان ينفس عن موجدته بما كتب في حق خلفه على وزارة غرناطة الذي لم يقنع بأن يرثه في مجده ومنصبه بل سعى في إتلاف نفسه ومضايقته في منفاه البعيد.

  ونحن في هذا البحث القصير لا نستطيع أن نستوعب كل ما كتبه لسان الدين على هذا النحو من أدب ساخر، ولا حتى أن نلم به إلماما خفيفا، ولذلك فإننا سنقتصر على إيراد نموذجين منه فقط، إحداهما مما سلك فيه مسلك الدعابة والاحماض، والثاني مما ضرب فيه على وتر السخرية اللاذعة والتعريض الفاضح، وهما نموذجان كافيان في نظرنا لإبراز هذا العنصر الفني من كتابة ابن الخطيب ولفت أنظار الباحثين إليه، ولا سيما مؤرخي الأدب منهم.

  فالنموذج الأول رسالة كتبها إلى الشيخ أبي عبد الله محمد بن علي العبدري المالقي المعروف باليتيم من أهل مالقة، وكان من أهل العلم والفضل والدين والأدب، احترف التوثيق والتكتيب، وكان يقرئ الحديث والتفسير وكتب الرقائق للعامة بإبداع نغمة، دام على ذلك أكثر من ثلاثين سنة، وجاء في رسالة ابن الخطيب إليه مما يتعلق بحرفة التكتيب قوله، نقلا عن الجزء الثامن من كتاب الإحاطة له، مخطوط الاسكوريال:

  «وتعرفت ما كان من مراجعة سيدي لحرفة التكتيب والتعليم. والحنين إلى العهد القديم، فسررت باستقامة حاله، وفضل مآله، وإن لاحظ الملاحظ ما قال الجاحظ، فاعتراض لا يرد، وقياس لا يطرد، حبذا والله عيش أهل التأديب، فلا بالضنك ولا بالجديب، معاهدة الإحسان، ومشاهدة الصور الحسان، يمينا أن المعلمين، لسادة المسلمين، وإني لأنظر منهم كلما خطرت على المكاتب، أمراء فوق المراتب، من كل مسطر الدرة، متقطب الأسرة، متنمر للوارد تنمر الهرة، يغدو إلى مكتبه، كالأمير في موكبه، حتى إذا استقل في فرشه، واستولى على عرشه، وترنم بتلاوة قالونه وورشه[قالون وورش هما راويا نافع المدني أحد القراء السبعة الذي يأخذ أهل المغرب بقراءته] أظهر للخلق احتقارا، وأزرى بالجبال وقارا، ورفعت إليه الخصوم، ووقف بين يديه الظالم والمظلوم، فتقول كسرى في إيوانه، والرشيد في زمانه، والحجاج بين أعوانه، فإذا استولى على البدر السرار، وتبين للشهر الفرار، تحرك إلى الخرج، تحرك القرد إلى الفرج[هو من قولهم في المثل: أزرني من قرد ويراد به رجل يسمى قرد بن معاوية]

  استغفر الله مما يشق على سيدي سماعه، وتشمئز من ذكره طباعه، شيم اللسان، خلط الإساءة بالإحسان، والغفلة من صفات الإنسان، فأي عيش كهذا العيش، وكيف حال أمير هذا الجيش، طاعة معروفة، ووجوه إليه مصروفة، فإن أشار بالإنصات، لتحقيق القصات، فكأنما طمس الأفواه، ولاءم بين الشفاه، وإن أمر بالإفصاح، وتلاوة الألواح، علا الضجيج والعجيج، وحف به كما حف بالبيت الحجيج، وكم بين ذلك من رشوة تدس، وغمزة لا تحسن، ووعد يستنجز، وحاجة تعجل وتحفز هنأ الله سيدي ما خوله، وأنساه بطيب آخره أوله، وقد بعثت بدعابتي هذه مع إجلال قدره، والثقة بسعة صدره، فليتلقها بيمينه، ويفسح لها في المرتبة بينه وبين خدينه، ويفرغ لمراجعتها وقتا من أوقاته بمقتضى دينه، وفضل يقينه، والسلام».

  إن في هذا النموذج الطريف من مداعبة لسان الدين الحلوة، ومباسطته لصديقه المكتب، لفنونا من البلاغة وضروبا من البيان تجعله من أرقى النماذج الكتابية على الطريقة الهزلية، وهو مما تبدو فيه نفس الكاتب على سجيتها، فلا حقد ولا موجدة، إلا الأحماض ومفاكهة المخاطب، وقضية التندر بالمعلمين شهيرة، وما للجاحظ فيهم من مقال وما يحكيه عنهم من مغربات الأخبار، هو مما لم يفت صاحبنا لسان الدين، إلا أنه استثنى صديقه من ذلك وجعل الاعتراض عليه بأمرهم غير وارد، والقياس بالنسبة إليه غير مطرد، وفي ذلك من المجاملة لهذا الصديق ما لا يخفى ثم أتى بفقرات في منتهى الحسن يقرظ بها المعلمين ويطري أحوالهم: «حبذا والله عيش أهل التأديب، فلا بالضنك ولا بالجديب، معاهدة الإحسان ومشاهدة الصور الحسان، يمينا أن المعلمين، لسادة المسلمين» وهذه العبارة الأخيرة أشبه ما تكون بقول شوقي في التنويه بشأن رجال التعليم:

  قف للمعلم وفيه التبجيلا    كاد المعلم أن يكون رسولا

  إن ابن الخطيب سبق شوقي إلى الاعتراف بجميل هذه الطائفة من الناس بعدة قرون وفي الوقت الذي كان أهل الأدب يزرون عليهم ويجعلون رأي الجاحظ فيهم هو الحكم الفاصل، لكن هذا المدح البالغ لم يمنع الكاتب من أن يعقب عليه بوصف بارع لحياة الكتاب والمكتب والأطفال، وتاة مشاهد ولقطات أضيف إليها من سحر الكلمة وسر الحرف ما أبرز جمالها وحيويتها بشكل آسر أخاذ واعد إن شئت قراءة قوله: وإني لأنظر منهم كلما خطرت على المكاتب الخ. وقوله: وكيف حال أمير هذا الجيش الخ. ولعل من الإنصاف القول بأن السجع هنا قد زاد الوصف رونقا وجمالا، لانسجامه وعدم تكلفه، والسجعة الوحيدة التي دعا إليها الأحماض وبدت كأنها نابية عن الذوق، قد اعتذر عنها الكاتب بعدة سجعات.

  وقد اخترنا هذا النموذج من بين نظائر له، كهذه الرسالة التي يخاطب بها أحد أصدقائه حين ولى الحسبة قائلا فيها: «اهنيك، ببلوغ تمنيك، وأحذرك من طمع نفس بالغرور تمنيك» الخ. وهذا الوصف الذي عرف به أحد الولاة، «رجل غليظ الحاشية، معدود في جنس السائمة والماشية، تليت على العمال به سورة الغاشية» الخ. لأنه تميز دونها بلطف المأخذ وسلامة القصد فلم يقع فيه تجريح ولا تهزيئ وسلم بذلك لغرض المباسطة والفكاهة.

  وأما النموذج الثاني وهو مما ذهب طرفا في السخرية ولم يقف عند حد من التهكم فقد رأينا أن تكون هذه الترجمة التي كتبها ابن الخطيب في الكتيبة الكامنة للقاضي النباهي وهي منقولة من مخطوطة خاصة لهذا الكتاب:

  «القاضي علي بن عبد الله بن الحسن النباهي البني المدعو بجعسوس[الجعسوس في اللغة: القمئ الدميم] أطروفة الزمن، التي تجل غرائبها عن الثمن، وقرد شارف من قرود اليمن، ذنبا وإحداقا، وقروة وإشراقا، وإشارة واصطلاحا، وخبثا وسلاحا، لا فرق بينهما في الشكل، وقرب الغائط من الأكل، تشغل به الصبيان إذا بكت، وتتملح بذكره الزهاد بعد ما نكست، وعن كل شيء أمسكت، إلا أن خلقه بالنسبة إلى هذا الخلق، والوجه الطلق، حسنة جميلة، وأوصاف لومه، بالنسبة إلى معارفه وعلومه، أوصاف ابن قاضي ميلة[أبو عبد الله بن قاضي ميلة من أدباء الجزائر، معروف برقة الشعر] عند ذكر الآداب المستميلة، ومثله ولا مثل له، لمن نفض الوجود وتخلله، لا يجلب لأدب يرسم، ولاحظ من حسن الذكر يقسم ولا لظرف يتنسم، ولا لبركة تتوسم، إثما جنب حماره في القياد، لحمل أوزار هذه الجياد، وأطرف بزرافته الخارقة حجاب الاعتياد، في مثل هذه المواسم الأدبية والأعياد[كانت العادة في المغرب استعراض الحيوانات الغربية كالزرافة في الأعياد، ولهذا يشير ابن الخطيب]، ومما يعاب به الزين، كيلا يصيب العين، ويعلو على البيوت تميمة، وإن كانت الأوضاع ذميمة، من حوته، ورصاصة منحوتة، ومرارة ثور، وطرف ذنب سنور[عدد ابن الخطيب الأشياء التي يستظهر بها لدفع العين، ولعل ذلك مما كان شائعا بين العامة في الأندلس. أما في المغرب فأكثر هذه الأشياء لا تستعمل في هذا الغرض]، وأحماضا في المرعى الخصيب، وإيثارا للفكاهة بنصيب، وكان لأبيه ببلده درجة الأمير، من مولدي الحمير، ينظف بيده أرحامها، بعد أن يحكم بالدهن أقحامها، ويستنطق بوحي بنانه الصابئة الجاحدة، وينزى العير الحصور فيحبل الاتان بواحدة، وكانت أمه أم جعسوس قابلة ذلك الوضع، ومقدرة الفطام والرضع، تولول عند الخلاص، وتعوذ المولود بسورة الإخلاص، وتقطع سرة اليعفور[اليعفور: الغزال وربما أطلق على الحمار، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حمار يسمى ليعفور] بالأظفور، وتعلق عينه باللسان، وتبارك يعد طهوره برهن البلسان[دهن عطر الرائحة يستخرج من زهر شجر يحمل هذا الاسم] ولما ترعرع ترعر غصن السدر، من تحت القدر، وتخلت محاسن نفسه النفيسة من خلال ذلك الخدر، تحرف ببيع الحروز[جمع حرز وهو ما يعلق على الصبيان والمرضى للحفظ والاشتشفاء] وحلق[يعني عقد حلقة في الأسواق للعموم وهو ما يفعله اهل التهريج والشعوذة] في محافل البروز، وتحدى بإخراج الكنوز، بذبائح العنوز[من عادة السحرة والمشعوذين الذبح على الأماكن المخوفة ومظان استخراج الكنوز ويشترطون في الذبيحة أن تكون عنزا] وادعى أنه يعقد اللسان، ويكيف الإنسان، وغرم الإتاوة التي يغرمها بنو ساسان[بنو ساسان كناية عن الشحاذين ويظهر أنهم كانوا يؤدون غرامة للدولة وهذا من ابن الخطيب إغراق في التشهير بصاحبه] ثم نعرف إلى السلطان في حكاية، وقدمه قاضيا في سبيل يمين شاردة ونكاية، [يعني أن السلطان ولاه القضاء ليمين فرطت منه في تولية أخس الناس نكاية بالعلماء والقضاة الذين سبق أن حكموا بعزله وأفتوا بخلعه] وجعله للفقهاء ببلده عقابا، وارذالا أخضع به رقابا، وكشف عن وجه الانتقام نقابا، لما آسفوه يجب طلعه، وأفتوا من بعد قلعه، بوجوب خلعه، ثم أعاده الله إلى ملكة رقابهم، وحكمه في مجازاة احتقابهم والدنيا قد أرملت، وما حملت من الضيم حملت، فجاءت سيره في الأحكام، سمر الندام، ونقل أولى المدام، وشاهد خسة الدنيا على مملك الأقدام والموجد بعد الإعدام حدث من يوثق به من العدول قال جرى بين يديه الحديث الشهير الجاري بمجلس القضاء«البيعان بالخيار ما لم يفترقا» فقال لي سبحان الله يا فقيه كانوا في القديم مثلنا في البادية يتبايعون بالخيار والفواكه كما نتبايع بالحبوب من القمح والشعير. فضحكت وقلت لا ينكر أن يتصارف الناس بما يقلب عندهم اتخاذه ويكثر وجوده، وقال آخر منهم نظر إلينا وقد نزلنا من المأذنة عن ارتقاب بعض الأهلة ونحن أولو عد وشارة، فأعجبناه، فقال يا أصحاب، عذرت الليلة فيكم عمر رضي الله عنه في قوله: لا يسر أحد في الإسلام بغير العدول. فقلنا بارك الله في سيدنا القاضي. تسر بنا ونسر بك إن شاء الله، قال المخبر: نعني مجرورا برجلك عن مجلس القضاء إلى مصب الرحضاء ثن قال بعضنا لبعض: ياترى ما الذي أراد هذا المحروم؟ فقال فاضل منهم: صحف قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول، يريد الأسر بالشهادة، وقال بعض فضلائهم: سمعته يقول: تنكرون على ما يكثر تردده في كلامي من لفظ جعسوس كأنه ليس من كلام العرب، بل ول من ألفاظ القرآن فقلنا له أما في كلام العرب قربما وأما في القرآن فلا نعرفه. فضحك وقال: سبحان الله. أعيدوا النظر فقلنا والله ما نعرفه. فقال: ألم يقل الله في القرآن: ولا تجعسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا، فقلنا والله ماقال الله ذلك قط، إنما قال تجسسوا قال فاسترجع، وقال يا فقيه حفظ الصغر، وقد الف من مثل هذا جزء وسمي بتنبيه الساهي على طرف النباهي، وهذا الشيخ ممن زين له سوء قوله وحبب إليه شم خرءه واستعذاب بوله، فيكتب ويشعر، ويكلب ويسعر، وهو لا يفطن بالهزء به ولا يشعر، فمما ينسب إليه مما كان يهذر به على الحروز إذا عقدها، واتبع النفث عقدها، يرفع بها الصوت ويجهر، ويؤنب من يتشاغل عنه بالحديث ويبهر، وكان به مخيلا وعلى الجنس من النوارية بخيلا، إلى أن شورك فيه بحكم الانجرار، وحفظ لكثرة التكرار قوله وهو أشف من معتاده وأعلى من عتاده، فالله أعلم بصحة إسناده، وجهة استناده:

  أعوذ من أمسي عليه معلقا     حجابي بطه أو بياسين والخمس

  من الجن والعمار[العمار يراد بهم الحيات وما إليها من الحشرات المؤذية التي تسكن البيوت وتختفي في مخابئها وأما أم ملدم فقد فسرها بعد] أوام ملدم

  وتلك هي الحمى ووسوسة النفس. الخ

  لعلنا في غير حاجة إلى الإشارة لما في هذا النموذج من سخرية جارحة وتهزيئ فاضح، وما اتركب ابن الخطيب فيه من أساليب القول للنيل من هذا الرجل، فمن تشويه لخلقته أشبه ما يكون بهذا الفن الذي يدعى «الكاريكاتور» إلى ذم لأخلاقه والتشكيك في كفاءته العلمية، إلى نبش عن الماضي بما فيه من أصل وفصل، إلى ذكر علاقات الرجل بمن إلى نظره من شهور العدل وكيف ولى منصبه الخطير وما كان في ذلك من إزراء على أهل العلم والفضل ببلده، إى غير ذلك من ضروب الإهانة والتحقير مما يلوح جليا لكل ذي عينين، ولولا أننا نعلم الباعث على ذلك من الخصومة الحادة التي كانت بين الرجلين، ونعلم كذلك ما كتب ابن الخطيب عن خصمه في كتاب الإحاطة قبل أن يفسد ما بينهما من ترجمة حافلة بذكر فضله ونبله، لداخلنا ريب في هوية الرجل وتفاهة شخصيته، ولكنا بصدد إبراز هذا اللون من كتابة صاحبنا وتفننه فيه، فلا يهمنا من تقوله على خصمه وطعنه فيه إلا طريقة ذلك التقول وأسلوب الأداء الذي تمثل فيه قول ابن الرومي أصدق تمثيل:

في زخرف القول تزيين لباطله  والحق د يعتريه سوء تعبير

تقول هذا مجاج النحل تمدحة   وإم ذممت فقل خرء الزنابير

مدح زذم وذات الشيء واحدة    إن البيان يرى الظلماء كالنور

  حقا إنه البيان والاقتدار والتصرف في وجوه الكلام وملكة التعبير التي أوتي منها لسان الدين حظا كبيرا، هي التي فتقت لسانه وأطلقت قلمه بهذه الحمم النارية والكلم الجهنمية، ومكنته من إلباسها ثوب الهزء والسخرية، بحيث يظنها الظان هزلا وهي جد الجد، ويحملها القارئ والسامع على إرادة المزح. تأبى إلا أن تعبر عن سوء القصد، ومن ذلك يعلم أن هذا الفن من القول لا يحسنه إلا أئمة البيان وأعلام البلغاء، ناهيك أننا لا نعد منهم إلا قلة من كتابنا الكبار كالجاحظ وابن زيدون وصاحبنا لسان الدين.

  ويلوح لنا في الفرق بين الجاخظ ولسان الدين أن الأول أوسع أفقا وأبعد مرمى لأنه يتناول معانيه من تراث العربية العام في حين أن الثاني يغلب عليه لطابع الإقليمي فيتناول معانيه من الصعيد المحلي، وإن كان لا يغفل الرصيد الأدبي المشاع بين العرب كلهم، ولعل هذا هو السبب في شهرة الجاحظ وذيوع آثاره في هذا الفن، مع تقدمه ورسوخ قدمه في كل فن من فنون العلم، والأدب العربي، وترسله في كتابته مما يوافق ذوق العصر وأساليب الكتاب المحدثين.

  إعداد: ذة. نادية الصغير.

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق