
كان معاصرو سيبويه على قِسمَيْن؛ منهم مَن كان يُناصبُه العَداءَ ويَعُدّه أعجمياً لا يحقّ له الكلام في اللسان العربيّ، وهؤلاء ذَهَبَ ريحُهم وفَشِلَت نَزعتُهم. وقسمٌ كانَ أصحابُه يَرون فيه إماماً في العلم، والسبب في ذلك أنه جاء بعلم مُنظم تنظيما جيدا مُحكَما، وأنه بنى علمَه على روايات صحيحَة عن السابقين كالخليل والأخفَش وعيسى ابنِ عُمَرَ، وغيرهم... رَوَى عنهم لأنهم حَمَلَةُ موادَّ لغويةٍ، فسيبويْه ظاهرة مركَّبَة لا بسيطَة، ولم يبتكر علمَه بالاقتباس من يونان أو الرومان أو الفُرس، كما زَعَمَ المُستكثرونَ عليه، بل ترَكَ ثقافَتَه الفارسيةَ وراء ظهره، وأبدَعَ بلغة عربية وتفكير عربي، ولكن شخصيتَه وذكاءَه أعطى الإبداعَ ذوقاً خاصاً.
أمّا القولُ إنّه لم يَكنْ لسيبويه من أصحابٍ إلا الأخفش، وهو رأس المخالفين له وإمامُهم بعد وفاة صاحب الكتاب، الذي جمع فيه روايات شيوخه. فالجوابُ عنه:
أن يُرجَعَ إلى كتب الطبقات والرجال في اللغة والنحو والأدب (مجالس العلماء، بُغية الوُعاة إنباه الرواة، نزهة الألبّاء، وطبقات الزُّبَيْدي، وتهذيب التهذيب، ومراتب النحويين.......) فسَنَرى أنّ سيبويه تَلْمَذَ على حمّاد بن سَلَمَة البصري، والأخفش الأكبر أبي الخَطّاب، وعيسى بن عُمَرَ، ويونس بن حَبيب، والخليل بن أحمد، وأبي زيد الأنصاري، وهارون بن موسى النحويّ، وأبي عَمْرو بنِ العلاء، وعبدالله ابن أبي إسحاق الحضرمي، والرؤاسي... أخذ عن هؤلاءِ الأعلامِ على تفاوت، ورَوى عنهم، وأكثَرَ من الروايَة عن الخليل.
أمّا المشهورُ عن الأخفشِ أبي الحَسَن الأوسط فقد كان يقولُ: "إن سيبويه إذا وضعَ شيئا في كتابِه عَرَضَه عليّ وهو يَرى أني أعلم منه (وهذا تواضع من سيبويه) وكانَ أعلَمَ مني (وهذا تواضع من أبي سُلَيْمان) ..."
نعم أُسندَ الكتابُ إلى سيبويه بطريق الأخفَش كما قال صاحبُ نزهة الألبّاء، لسبب واضح وهو أنّ سيبويه كان يَعرضُه عليه، فحسب، ويُقرّ الأخفشُ أنّ سيبويه كان أعلَمَ منه.
أمّا ما يُروى من أنّ ابنَ تيميّةَ خطّأ سيبويْه في ثَمانين مسألةً، فالقصّةُ أنّ أبا حيّان النّحويّ الأندلسيّ اجتَمَع بابنِ تيميّةَ، ودار كلام بينهما، فجرى ذكر سيبويه فذكَرَ ابنُ تيميةَ أنّ سيبويْه أخطأ في ثمانينَ موضِعاً من مواضعِ كتابه، فنفر عن ذلك أبو حيان ولم يلتمس له العذر، ثم عاد أبو حيّانَ ذامّاً ابنَ تيميّةَ في مجالسه وفي كتبه.
والرّوايَةُ الوارِدَة لهذا الخَبَر هي أنّ ابنَ تيميّةَ، رحمهم الله جميعاً قال لأبي حيّان: «ما كان سيبويه نبيَّ النحو ولا كان معصوماً بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعاً ما تفهمها أنت. فكان ذلك سببَ مقاطعته إياه وذكره في تفسيره البحر بكل سوء».
والخَبرُ ذَكَرَه ابنُ حجرٍ العسقلانيّ في “الدّررِ الكامنة في أعيانِ المائة الثّامنة” [باب ذِكْرِ مَن اسمه أحمد]، بَل ذَكَر ابنُ حجر في الدّرر أيضا، في باب ذكْر مَن اسمُه محمّد: أنّ محمدَ بن إدريسَ القضاعيَّ أبا بكر القلَلَوْسيَّ، الإمامَ في العربية والعَروض، كان شديدَ التعصب لسيبويه مع خفة فيه، وأنّه وردَ على القاضي أبي عمرو وكان شديدَ المهابة فتكلم في مسألة في العربية نقلها عن سيبويه، فقال له القاضي: أخطأ سيبويه فكاد القلَلَوْسيّ يُجَنّ ولم يقدر على جوابه لمكان منصبه. فجعل يدور في المسجد ودموعُه تنحدر وهو يقول: أخطأ من خطَّأه ولا يزيد عليها.
وأما هذه الأخطاءُ المَزعومَة فَلَم يَردْ لها ذكْرٌ في المَصادر التي نَقَلَت الخبَر، والظّاهرُ أنّ ابنَ تيميةَ رحمه الله إنّما أرادَ بذلك أنّه يُخالفُ سيبَويْه في مذهبه النّحويّ في مسائلَ كثيرةٍ، ولا يقصدُ أنّه أخطأ بالمَعْنى المَألوف، وأمّا دلالة الثمانينَ فليسَت على الحقيقَة وإنّما جاءَت كنايةً عن الكثرة فحسبُ، وهذا مَعهودٌ من شيخ الإسلام رحمه الله الذي عُرِفَت عنه حدّةٌ في المزاج وسرعةٌ في الجوابِ، ولكنّ ذلك كلّه لا ينفي ولا ينقص من مشيخته في علوم العربية والشريعة، بل العلوم العقلية والمنطقية نفسها، ومؤلفاته الكثيرة وما فيها من علم واسع ومناقشات وتحليل وتعليل تشهدُ له بالإمامَة والمشيخة في العلم.
ــــــــــــــ
هوامش:
الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني ضبطه وصححه الشيخ عبد الوارث محمد علي دار الكتب العلمية-بيروت، 1998م.
وجاءَت القصةُ أيضاً في كتاب "البدر الطالع بمحاسن مَن بَعد القرن السابع"، لمحمد بن علي الشوكاني
وكتاب "الرد الوافر"، لمحمد بن أبي بكر بن ناصر الدين الدمشقي، تحقيق: زهير الشاويش، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، ط.1، 1393 هـ.
وكتاب "الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية"، مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي، تحقيق نجم عبد الرحمن خلف نشر دار الفرقان مؤسسة الرسالة، بيروت، ط.1، 1404 هـ.