مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةقراءة في كتاب

قراءة في كتاب “نحو منهجية علمية إسلامية: توطين العلم في ثقافتنا

قراءة في كتاب “نحو منهجية علمية إسلامية:

توطين العلم في ثقافتنا”[1]

عبد العزيز النقر

مركز ابن البنا المراكشي

 

 

عنوان الكتاب: نحو منهجية علمية إسلامية: توطين العلم في ثقافتنا.

المؤلفة: أ. د. يُمنى طريف الخولي.

الناشر: المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 2017.

عدد الصفحات: 263.

 

 

يندرج كتاب الأستاذة د. يُمنى طريف الخولي ضمن سياق مجموعة من الاجتهادات النظرية الرامية إلى استقصاء سبُلٍ وطرائقَ قمينة بإخراج الثقافة العربية من وهدة التخلف والتقليد، وذلك من خلال التركيز على المكانة الأساسية التي يحتلها الفكر العلمي في كل تطور حضاري. لذا، يمكن القول إن هذا الكتاب ليس بِدْعًا داخل الثقافة العربية الإسلامية، إذ سبقته اجتهاداتنظرية أخرى تتوخى الهدف ذاته. لكن ما يُميز هذا العمل قياسا إلى تلك الاجتهادات هو أن المؤلفة قد يَمَّمَتْ وجهها شَطْرَ بُعدٍ قلما يُلتفت إليه، والمقصود هنا هوالبعد المنهجي الذي ترى فيه الكاتبة حَجَرَ الأساس الذي يجب أن يَسْنِدَ كل بحث يهدف إلى إرساء الأسس الخاصة بكل نهضةٍ حضاريةٍ منشودة. لكن، لا يجب أن يَحْمِلَنَا هذاالأمر على الاعتقاد بأن الكتاب يهدف إلى اعتماد منهج، أو مناهج معينة، قصد مقاربة النصوص التراثية. كما لا يمكن النظر إلى هذا العمل كمجرد تساؤل إبستمولوجي حول المناهج وما تثيره من إشكالات ذات طابع فلسفي؛ بل إن ما تسعى المؤلفةإلى إنجازه هو استثمار المكتسبات المنهجية التي حققها الدرس الإبستمولوجي المعاصر من جهة، والاستفادة من الخصائص والمميزات المنهجية التي طبعت الحضارة العربية الإسلامية من جهة أخرى، قَصْدَ الوصول إلى “نموذج إرشادي إسلامي”[2] يكفل لنا توطين العلم داخل ثقافتنا. وتبقى هذه العملية، في نظر الكاتبة، هي أولى الأولويات وكُبْرَى التحديات، حيث تقول منذ الأسطر الأولى إن عملية “توطين العلم وتبيئة البحث العلمي في حضارتنا هدف الأهداف الذي لا يختلف عليه اثنان[3].

سنقدم فيما يلي عرضا لأهم الأفكار والرؤى التي عملت الكاتبة على استشكالها والاستدلال عليها متبعين نفس التقسيم الهندسي الذي وضعته المؤلفة لكتابها. حيث وَزَّعَت أفكارها على أربع فصول كبرى، وجاءت هذه الفصول معنونة على الشكل التالي: الفصل الأول: ما قبل المنهج وما حوله: مقدمات راسمة، الفصل الثاني: العلم والمنهج، الفصل الثالث: التأصيل المنهجي: علم أصول الفقه معاصرا، الفصل الرابع: النموذج الإرشادي الإسلامي نحو المستقبل. أما فيما يخص خاتمة الكتاب فقد ضمنتها المؤلفة أهم الخلاصات التي انطوى عليها هذا العمل.

عملت الأستاذة الباحثة في توطئة الكتاب على رسم الخطوط العامة التي ستتولى الفصول التالية تفصيل القول فيها، مشيرة إلى ضرورة تضافر “الجهود الفلسفية والعقلية والفكرية والعقائدية” في سبيل إيجاد الأمة العربية الإسلامية لقدمٍ راسخةٍ داخل ميدان “العلم والبحث العلمي” باعتباره أهم وأسمى “الفعاليات الإنسانية”. وللوصول إلى هذا المُرام ــ توطين العلم في ثقافتنا ــ لا بد من “نموذج إرشادي إسلامي” يستثمر المقومات الحضارية للهوية العربية الإسلامية وخصوصياتها الثقافية والقيمية …أو بتعبير آخر، إنه “لا توطين للحركة العلمية ولا تأصيل لها في ثقافتنا إلا إذا كان لدينا أصول للمنهجية العلمية كامنة في خصوصيتنا الثقافية، لنقوم بتطويرها في طريقنا لاستيعاب الآليات المنهجية المعاصرة، في إطار نموذج علمي إرشادي إسلامي متجه صوب المستقبل[4]. أي أنه رغم ما يوفره لنا علم المناهج وفلسفة العلوم من مكتسبات منهجية ثمينة، إلا أن استيعابنا واستفادتنا من هذه المكتسبات حق الاستفادة يبقى رهينا باستثمار الخصائص المنهجية الكامنة داخل ثقافتنا.

خصصت المؤلفة الفصل الأول للحديث عن بعض التحولات الجوهرية التي شهدتها فلسفة العلوم المعاصرة. إذ ذهب بعض فلاسفة العلم المعاصرين إلى أن المعرفة العلمية “ظاهرة من الظواهر الإنسانية” التي لا يمكنها أن تنشأ في فراغ تام، بل لابد لها من إطار حضاري يحتضنها ويسهم في نموها وتطورها. بالتالي، فليس في مُستطاعهذه المعرفةأن تبقى بمنأى عن التأثربباقي المكونات القيمية والثقافية والمؤسساتية، وكذا التأثير فيها (أي في هذه المكونات) في إطار نوع من التفاعل الجدلي. لقد عملهؤلاء الفلاسفة من خلال أطروحتهم تلك على مجابهة بعض التصورات الوضعانيةالتي أسهمت بشكل كبير في تجريد “ظاهرة العلم من أي أبعاد حضارية أو ثقافية أو اجتماعية أو قيمية[5]. وكان من نتائج هذا التجريد أن أصبح العقل العلمي متعاليا عن الزمان والمكان، وأضحى معه “العلم الغربي” هو العلم الوحيد والنموذج الأوحد الذي يجب أن تقاس عليه باقي الإسهامات المعرفية، فغدَا العلم هو الحضارة الغربية والغرب هو الحضارة العلمية[6] . ولا يخفى ما نتج عن هذا التصور من هيمنة فكرية مثلت “النزعة المركزية الغربية” أبرز صورها، وصارت معه الحضارة الغربية هي المعيار والمحك الذي يُقاس عليه تقدم أو تخلف باقي الحضارات، فما وافق هذا النموذج فُرِضَ وحُفِظَ، وما خالفه رُفِضَ ولُفِظَ !

سيعرف هذا التصور العلموي الوضعيهجوما وانتقادات من داخل الثقافة الغربية نفسها، كانتقادات كارل بوبر Karl Popper الذي يرى أنه لا يمكننا اختزال فلسفة العلم في مجرد تحليلات منطقية، بل يجب النظر إليها باعتبارها “فلسفة الفعالية الحية والهَمّ المعرفي للإنسان”. كما سيمثل صدور كتاب توماس كون Thomas Kuhn”بنية الثورات العلمية“منعطفا نوعياداخل فلسفة العلوم، حيث قدَّم فيه مفهوم “الباراديغم” (النموذج القياسي الإرشادي بتعبير المؤلِّفة) الذي تخطَّت أهميته الإجرائية ووظيفته المعرفية حقل فلسفة العلوم وتاريخها، إذ سيستثمره العديد من الباحثين في مجالات علمية مختلفة. وكان من النتائج الإيجابية والحاسمة لعمل كُون أن “حدث أخيرا تآخي العلم مع الظواهر الحضارية الأخرى،لأنه مثلها لا يُفهَم إلا في ضوء تطوره عبر التاريخ[7]. أشارت الباحثة أيضا إلى بعض الفلاسفة الآخرينكفيرابند Paul Feyerabend الذي يذهب إلى أن العلم لا يمكن أن يتطور وينمو إلا داخل “الأنظمة المعرفية الأخرى”، داعيا إلى عدم اتخاذ العلم “ذريعة” لفرض النموذج الحضاري الغربي وتهميش الثقافات الأخرى.

لم يعد يُنظر للعلم من لَدُنِ العديد من الباحثين كظاهرة مستقلة بنفسها عن باقي المكونات الثقافية، بل صار غير منفصل عن تاريخه وعن الأطر الحضارية والقيمية التي يتطور وينمو داخلها أو في عملية تفاعل معها.كان من نتائج هذا التصور ظهور مجموعة من المباحث العلمية التي تولي هذه الأبعاد أهمية خاصة، كمبحثي سوسيولوجيا العلوم وسيكولوجيتها، إضافة إلى الاهتمام بالجانب الاقتصادي في علاقته بظاهرة “العلم”… أما فيما يخص النتائج التي أسفرت عنها هذه التصورات غير الوضعانية داخل الفلسفة عامة، وفلسفة العلوم خاصة، فتمثلت في التخلي عن “النزعة الأُسسية” (Foundationalism)، التي تؤمن بضرورة تأسيس مبادئ أولية يقينية تشكل أساسا للمعرفة بصفة عامة، لصالح “نظرة بنائية اجتماعية”(social constructivism) تعزو للقيم الاجتماعية والثقافية داخل المعرفة العلمية أهمية بالغة، وبالتالي فهي “تؤكد تعددية الأنساق المعرفية، وقيمة التعددية الثقافية (multiculturalism) ودورها في الممارسة العلمية”[8]. وبذلك فقد غدت المعرفة مع هذا التصور معرفة نسبوية relativism. لكن، لا يعني هذا أن المعرفة صارت تنحو صوب ضرب من العدمية والفوضوية، إذ لا تتوخىهذه النظرة التفريط في شرط “الموضوعية” بقدر ما تبتغي تقدير هذه “الموضوعية” حق قدرها، وذلك من خلال التأكيد على “أن الموضوعية الحقيقية تقتضي أن نأخذ بعين الاعتبار العوامل التاريخية والمجتمعية والحضارية والتعددية الثقافية[9].

ترى المؤلفة أن هذا التصور الآخذ بفكرة التعددية يعد مكسبا مهما بالنسبة للثقافة العربية الإسلامية، ذلك أنه يوفر لها فرصة ثمينة يمكن أن تستثمرهافي سبيل الإسهام الفعَّال في الحضارة الإنسانية المعاصرة عن طريق تأسيس نموذج إرشادي إسلامي يستمد أصوله المنهجية من داخل الثقافة العربية الإسلامية. أو بتعبير آخر، لابد من إرساء قواعد “منهجية إسلامية” تمثل نظرة شاملة تستوعب كل المناحي المعرفية والقيمية للأمة العربية الإسلامية. وغني عن البيان أن المنهجية تُعبِّر – في نظر المؤلفة – عن معنى أوسع وأعمق من “مجرد مناهج معينة”، حيث ينحصر دور هذه الأخيرة في الوسائل والإجراءات التي يقتفيها الباحث قصد الوصول إلى نتائج معينة انطلاقا من مقدمات محددة، أما المنهجية “فتضم المناهج نفسها وتتجاوزها إلى نموذج إرشادي شامل يمثل القيم والمحددات والمنطلقات الموجهة لثقافة أو حضارة ما[10]. يمكن القول إجمالا أن طبيعة المناهج تتميز بنوع من الاستقرار والثبات باعتبارها أصولا وقواعد منطقية، بينما تتميز”المنهجية” بطابع التطور والتصحيح والتجديد.بالتالي، فهي عبارة عن اجتهادات مرهونة بالظروف والشروط التاريخية.

من هنا، يصير من حق الأمة العربية الإسلامية أن تجتهد في اجتراح “منهجيتها” الخاصة التي تمثلها خير تمثيل. تقول الباحثة موضحة طبيعة هذه المنهجية: إنه لن “يتأتى نقل هذا عن الغرب، ولن يكون معطى جاهزا في التراث يراد فرضه على الواقع، يمكن أن تكون أصوله مستوحاة من الوحي ومستلهمة من التراث في عملية اجتهادية، هي ككل اجتهاد إنساني ليست معصومة من الخطأ، ومعرض دائما للتصويب والتعديل والتطوير. إنه اجتهاد يفتح الباب لاجتهاد متواصل في تفعيل الفكر وتوطين البحث العلمي[11]. ومن مميزات هذا الاجتهاد أنه لا يقوم على أساس رؤية – أو قراءة- أحادية تفاضلية تولي أهمية قصوى “لكتاب الطبيعة” وإقصاء ما عداه، وإنما تتوخى المنهجية الإسلامية قراءة “تكاملية” تنضح من معين الكتاب المسطور، أي الوحي، والكتاب المنظور، أي الطبيعة. وطالما أنه لا إمكان لقيام حضارةٍ أو عمرانٍ، مَعْرفةٍ أو قِيَمٍ، دون وجود تصور عام يمثل دعامة وأساسا تستند إليه رؤية تلك الحضارة للكون وللحياة وللإنسان، فإن قراءة الكتاب المسطور، في سياق الحضارة العربية الإسلامية، تغدو هي الأرضية التي تنبني عليها مجمل التصورات الشاملة التي تؤطر عملية قراءة الكتاب المنظور من خلال ما توفره من خصائص وقيم خاصة بالهوية العربية الإسلامية.ومن النتائج الإيجابية المهمة لمسألة التأطير تلك أنها تسهم بفعالية في عصمة عملية القراءة من أي منزلقات غير أخلاقية.

تجمل الأستاذة الباحثة الخصائص الأساسية للهوية العربية الإسلامية في أربعة مفاهيم أساسية.هناك مفهوم مركزي، هو مفهوم “التوحيد”، تنتظم حوله باقي المفاهيم، ولا يمثل هذا المفهوم (أي مفهوم التوحيد) مجرد مبدأ ميتافيزيقي يوفر شرطا من شروط اقتحام عالم الطبيعة، حيث إنه يضفي نوعا من النظام على الكون، بل يُعَبِّرُ أيضا عن مبدأ قيمي يُصْبِغُ على البحث العلمي مجموعة من المعايير والضوابط الأخلاقية. ويشكل مفهوم “التوحيد” نواةً تنتظم حولها المنظومة القيمية الإسلامية التي تتجسد بدورها في ثلاث مفاهيم، هي: مفهوم “الاستخلاف” ومفهوم “التزكية” ومفهوم “العمران”.

يُعَبِّر مفهوم الاستخلاف عن المكانة المتميزة التي يحتلها الإنسان قياسيا إلى باقي الكائنات نظرا لما يتميز به من “عقلٍ” ونشاط معرفي. بالتالي، فهو وحده الحَقِيقُ بـ”الاستخلاف” في الأرض. وبما أنه وحده “المُسْتَخْلَفُ” فهو الوحيد الذي أُنِيطَتْ به مهمة إعمار الأرض، أي وظيفة “العمران”. يكون عمران الأرض من خلال توظيف جل الطاقات المعنوية والمادية في سبيل خدمة حياة البشر والارتقاء بها والمساهمة في ازدهار الحضارة الإنسانية، أو لنقل باختصار العملُ على “تزكيتها، من حيث إن التزكية هي التطهير والترقية والتنمية، للنفس وللواقع وللعلاقات الاجتماعية، وهذا هدف العمران ووسيلته. ولا يعدو أن يكون تطويرا للهدف المجمع عليه من كل الأطراف، شرقية وغربية، إسلامية وغير إسلامية، أي التنمية[12]. وبالاستناد إلى هذه الركائز التي توفرها الثقافة العربية الإسلامية، واستثمار مكتسبات الدرس االمنهجي (الميثودولوجي) المعاصر، يمكن بناء نموذج إرشادي إسلامي.لكن، لا يمكن إرساء تصور واضح وشامل “لمنهجية إسلامية” دون توضيحٍ وتحديدٍ للدَّلالات التي ينطوي عليه مفهوم “المنهج العلمي”،وهذا الغرض هو ما خصَّصت له المؤلفة الفصل المُعنون بـ”العلم والمنهج“.

بعد أن عَرَّجَتِ الكاتبة على بعض تعريفات مفردة “العِلم” وكذا التطرق إلى أهم خصائصه التي حصرتها في أربع (وهي الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة) نراها تتجه صوب تقديم بعض التعاريف اللغوية لمفردة “المنهج” في اللغة العربية. لتنتقل بعد ذلك إلى التأكيد على الأهمية البالغة التي حظي بها الجانب المنهجي داخل التراث العربي الإسلامي، ويكفي دلالة على ذلك أن مجموعة من المتون العلمية قد ضَمَّت مُفردة “المنهج” كمكون أساسي ضمن عناوينها، ككتاب “مناهج الأدلة في عقائد الملة” لابن رشد وكتاب ابن تيمية “منهج السنة النبوية في نقد كلام الشيعة والقدرية”…كما يقدم لنا علم أصول الفقه، الذي يقع وسطا بين العلوم العقلية والعلوم النقلية، مثالا لا غُبار عليه للمكانة الجليلة التي حظي بها الجانب المنهجي داخل ثقافتنا. إذ لم يشكل هذا الجانب مُعطى عرضيا من إسهامات علماء الإسلام، بل إنه “لا مبالغة في القول إن أهم إنجازات تراثنا تأتت في مجال المنهج والدراسات المنهجية[13].

أخذت المؤلفة بعد ذلك في الحديث عن علم مناهج البحث (Methodology) والأهمية التي يضطلع بها هذا العلم في أي نموذج قياسي إرشادي علمي. تتبدى فائدته في مستوين اثنين على الأقل: أ- فائدته للعلوم التي تتوخى دراسة الكون في جُلِّ جوانبهوتمظهراته، سواء كانت ظواهر طبيعية أو إنسانية. ب- تنعكس أهميته كذلك على “البنية الحضارية” من حيث إنه يعبر عن “بلورة لأساليب التفكير المثمرة السديدة، ولوسيلة فعالة امتلكها الإنسان لمواجهة الواقع والوقائع[14]. كما أشارت الأستاذة الباحثة إلى أن جوهر “الميثودولوجيا” يقوم على نوع من التقابل والتقاطع، أوالافتراق والالتقاء، بين منهجين: منهج صوري يخص علم المنطق والرياضيات ولا يلتفت للواقع، ومنهج تجريبيي يُمثل منهج العلوم “الإخبارية”، أي العلوم الفيزيائية والكيميائية… لكن، لا يعني هذا أن البحث العلمي ينبني على أحد هذين المنهجين دون الآخر، بل إن المعرفة العلمية هيعبارة عن عملية تفاعل بين آليات منطقية رياضية ومعطيات واقعية، أي مع وقائع تجريبية.

     انتقلت المؤلفة في ما يلي ذلك إلى الحديث عن العلائق والروابط التي جمعت المنهج التجريبي بالحداثة الأوربية، مُؤكدةً أنه لا يمكن النظر إلى “التجريبية” داخل الحداثة الأوربية كمجرد آلية أو منهجية للبحث المعرفي، بل إنها مَثَّلَتْ إيديولوجيا طبعت جُلَّ العصر الحديث وعبَّرَت (التجريبية) عن روحهوقيمه وعن الآفاق التي كان يستشرفها. لذا، فلا غَرْوَ أن نجد من الفلاسفة مَن حاول آنذاك البحث عن نهج يوافق الروح الجديدة ويستجيب لمتطلبات ذلك العصر[15].

نرى بعد ذلك المؤلِفةَ وقد عادت بالتاريخ إلى الخلف في محاولة منها لرصد وتَتَبُّع أهم الخصائص والمراحل التاريخية التي مرَّ منها سؤال “المنهج”. فنجدها تبتدئ بالحضارات القديمة، كالحضارة البابلية والحضارة الفرعونية والحضارة الإغريقية،منتقلةً بعد ذلك إلى الحضارة العربية الإسلامية ومشيرةً إلى العديد من الإنجازات العلمية التي خلفتها هذه الحضارة. يأتي في مقدمة هذه الإسهامات تأسيس علم الجبر الذي مثل – في رأي المؤلفة – تأسيسا لنموذج إرشادي ثوري في مجال المعرفة، حيث يمكن اعتباره فاتحة لـ”ميلاد عقلانية علمية جديدة جبرية وتجريبية… [و] أتاح نشأة استراتيجيات ذهنية جديدة تأدت للعقلانية الجديدة، التي كانت مقدمة شرطية لما سمّي بعقلانية العلم الحديث[16]. لكن، رغم وجود هذا الوعي المنهجي الرفيع داخل تراثنا وما رافقه من اجتراح لآليات منهجية وإسهامات معرفيةقيّمة، فإنه لا يمكننا  – ولا يفيدنا – مجرد العودة إلى تلك الإجراءات قصد تطويرها أوتفعيلها. بلإن المطلوب شيءٌ أعمق وأشمل من هذه العملية بكثير، فالأمر يتعلق هنابالبحث عمَّا إذا كانت الثقافة العربية الإسلامية قد توفرت على “روح منهجية” أم لا.ترى الكاتبة أن الجواب عن هذا السؤال “بالإيجاب شرط ضروري لأي محاولة لتوطين المنهجية العلمية …لتشييد نموذج إرشادي علمي إسلامي مستقبلي[17]. فهل شهدت الحضارة العربية الإسلامية “روحا منهجية” من هذا القبيل؟ وأين تجلى ذلك بالضبط؟ تجيب المؤلفة أن علم أصول الفقه هوالعِلم الذي عبَّر عن هذه الروح خير تعبير. لهذا، فقد خَصَّصَت الفصل الثالث من كتابها لإبراز الخصائص المنهجية التي طبعت هذا العِلم.

يشكل علم أصول الفقه، في نظر الباحثة، عِمَاد عملية توطين المنهجية العلمية وتأسيس “النموذج الإرشادي الإسلامي”. إذ مثل اجتهادات منهجية ناضجة تمحورت حول الوحي، وذلك قصد الوصول إلى القواعد العامة التي تُسْتَنْبَطُ بها الأحكام الشرعية ودلائل هذه الأحكام. كما جَسَّدهذا العِلم، إلى جانب علم أصول الدين، الخصائصَ النظرية والمنهجية للعقلية الإسلامية، حيث كانا استجابة لمجموعة من الظروف والمتطلبات التي وجدت الحضارة الإسلامية نفسها آنذاك تجاهها. عملت الكاتبة على “استخلاص الجواهر المنهجية” لهذا العِلم من داخل ذلك الكم الكبير من القضايا الجزئية والتفصيلية الخاصة بمجموعة من المسائل الفقهية، كما عملِت أيضا على تحرير وتخليص هذه “المنهجيات” من بعض ما عَلِقَ بها “من الجدليات والخلافات والمناظرات بينهم (أي الفقهاء) في الأصول وفي الفروع، فلا يبقى إلا المنهجيات بالمفهوم الشامل للمنهاج والمنهجية التي تبدو لنا عند الله وعند الناس خيرًا وأبقى[18].

بعد حديث المؤلفة عن البدايات الأولى لعلم أصول الفقه داخل الحضارة العربية الإسلامية والروابط التي جمعته بالمنطق، انتقلت إلى استجلاء الخصائص المتعلقة بالمصادر المنهجية الأصولية، وهي القرآن والسنة، والإجماع والقياس. ولئن كان الأصل الأول يمثل “المدار والمركز”، فإن السنة عبارة عن تفسير وشرح لهذا المركز، تقول المؤلفة عن هذين الأصلين: إن “القرآن والسنة هما الثَّقلان: المصدران الأعظمان لعلم أصول الفقه[19]. أما المصدر الثالث، الإجماع، فالمقصود به “اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة واتفاق المجتهدين” على مسألة معينةغير قطعية، لأنه لا إجماع فيالقطعي الذي يجد “أسسه في النص أو في بداهة العقل وشهادة الواقع”.أَوْلَت الأستاذة الباحثةللمصدر الرابع، أي الاجتهاد والقياس، عناية وحيزا أكبر من باقي الأصول، حيث ترى فيه “صلب ميدان الآليات المنهجية المنوط بها الفعالية المستدامة، في القراءتين معًا[20]، أي قراءة الكتاب المسطور والكتاب المنظور.

تطرقت بعد ذلك إلى أركان القياس (الأصل، والفرع والعلة، وحكم الأصل)، لكنها لمتُفَصِّل كثيرا في كل هذه الأركان بقدر ما اتجهت صوب تفصيل القول في ركن “العلّة” نظرا لأهميته الميثودولجية. ويكفي دلالة على أهميته القصوى “أن الأصوليين… سمّوا الحكمة من التشريع المعين: علّة التشريع، مصدّقين على أن التعليل دائما تعقّل[21].عملت المؤلفة بعد ذلك على رصد طرائق الاستدلال التي يتبعها الأصوليون وصولا إلى العلة (طرق الاستدلال على العلة والوصول إليها)، وهذه المسالك هي: الطرد والانعكاس والسبر والتقسيم والمناسبة. كما قدَّمت شرحا لهذه المسالك مع العمل على إعطاء ما يُشاكلها ويماثلها من آليات المنهج العلمي التجريبي.

أشارت أيضا إلى ما يَطْبَع “القياس الأصولي” من مرونة وارتباط بالواقع، عكس القياس الأرسطي الذي هو منطق ثنائي القيمة وذو طبيعة صورية محضة. لذلك، يمكن القول إن علم أصول الفقه قد نشأ “كعقلية منهجية استنباطية، لكنه تميز أيضا بشكل من أشكال التعامل الحي مع الواقع، فحمل بذورا تجريبية تفتقت عن شجيرات ودوحات منهجية تلاقى في ظلالها عمادا الميثودولوجيا العلمية: الاستنباط والتجريب[22].كما ترى الكاتبةأن أصول الفقه ما فتئ يقدم لنا درسا مهما في كيفية الاستفادة من المكتسبات العلمية والمنهجية ودمجها في ثقافتنا خدمة لنموذج إرشادي إسلامي يعبر عن روح الأمة العربية الإسلامية، حيث استطاع هذا العلم الأصيل أن يستثمر العدة المنطقية الوافدة من الثقافة اليونانية ليعمل على سبك وتقوية عدته المنهجية.مُقدِّما لنا بذلك كيفية مشخصة لعملية الجمع بين “الموروث والوافد”، وإذا كان الأمر كذلك – تقول المؤلفة –“فلماذا لا يتكرر هذا بشكل جديد، فتجمع على أسسه المنهجية محصلات الإيجابيات الوافدة من التطورات المعاصرة في الميثودولجيا العلمية، وتشغيلها في إطار نموذج إٍرشادي إسلامي ينبع من عالمنا ويمثل روح حضارتنا؟[23] ستكون خصائص هذا النموذج الإرشادي الإسلامي هي مدار حديث المؤلفة في الفصل الأخير (الرابع) من هذا الكتاب.

سبق أن ألمحنا إلى أنالأستاذة الباحثة تُرجعمهمة هذا النموذج الإرشادي إلى علم أصول الفقه نظرا لما تَميَّز به من غنى منهجي، لكن ما يجب الإشارة إليه أيضا، هو أنهاتشدد في الآن نفسه علىأنه لا ينبغي النظر إلى هذا العلم في حد ذاته كنموذج إرشادي؛ إذ المطلوب هو “استغلال المنهجية الماثلة فيه كتأصيل لنموذج إرشادي علمي إسلامي، وتفعيله داخل منطلقات الروح المنهجية لهذا النموذج[24].من جهة أخرى، نشير إلى أنه رغم المكانة الأساسية التي يحتلها علم أصول الفقه في عملية التأسيس تلك، إلا أنه ليس المُعْتَمَدَ الوحيد، حيث تؤكد المؤلفة على الأهمية التي يضطلع بها علم الكلام داخل هذه العملية. مشيرةفي الآن نفسه إلى ضرورة “تكاثف” هذين العِلْمين، ذلك أن “أصول الدين باشتباكه مع العقائد والتصورات، يتصل بتصور حدود حلبة عالم العلم، بأنطولوجيا العلم وإبستمولوجيته، فيشتبك بفلسفة الطبيعة، مقابل اشتباك أصول الفقه بفلسفة المنهج أو الميثودولوجيا[25].ستعملالمؤلفة أيضا في هذا السياق على دفع بعض الاعتراضات التييمكن أن تقول بتباينٍ بين مجالي علم الكلام وفلسفة الطبيعة.مُعتبِرةً أنه بالرغم من أن الطبيعيات لم تكن من المشكلات الأساسية لعلم الكلام، إلا أن هذا لا يعني أنها كانت منقطعة الصلة به؛ ذلك أنه (علم الكلام) أولاها اهتماما في ما يُسمى بمبحث “اللطائف”، أي الطبيعيات. يهتم هذا المبحث بالكون الفيزيقي، أي بموضوعات الأجسام المادية والحركةوالزمانوالمكان…لكن استثمار هذا المبحث (الطبيعيات/اللطائف) لا يعني بالضرورة استرجاع تلك الإشكاليات أو الطرائق والسبل التي اعتمدها في مقاربة موضوعاته، فهذا أمر متعذر وغير معقول أصلا، بل إن المطلوب في مقابل هذا الأمر هو إحداث “قطع معرفي” مع علم الكلام الذي نظر إلى الطبيعةكمشكلة أنطولوجية، والنظر إليها بدل ذلك باعتبارها مشكلة إبستمولوجية. أي إنه يجب علينا تحويل الطبيعة إلى موضوع للبحث والدراسة، وبذلك تتمحور المهمة الجديدة لعلم الكلام في “تنضيد العقائد الدافعة إلى قراءة كتاب الطبيعة[26].

     أما فيما يتعلق بخصائص هذا النموذج الإرشادي الإسلامي فتحصرها المؤلفة في ثلاث دعائم أساسية: الوحي والعقل والطبيعة. حيث يُحدِّد “الوحي القرآني” معالم منهجية معينة من خلال حثه على النظر العقلي في الكون والإنسان، أي استثمار العقل الإنساني في فهم وتدبر الطبيعة. كما حددت العناصر الفاعلة لهذا النموذج في ثلاثةعناصر: “الرصد العلمي العالمي والنظريات المعمول بها في المجال المعني”، و”التفكير وآلياته وإجراءات البحث وخطواته”، و”قيم الممارسة العلمية أو السلوك العلمي”.تعزو المؤلفة إلى العنصر الثالث قيمة خاصة، إذترى فيه تجسيدا للخصوصية الحضارية الإسلامية معتبِرة أن من الخصائص المميزة للنموذج الإسلامي إعطاء أسبقية وأهمية كبرى للجانب القيمي الأخلاقي. لكن، هل تعني الدعوة إلى نموذج إرشادي إسلامي نوعا من القطيعة مع الآخر/الغرب والتقوقع على الذات؟ ترد الكاتبة بكل حزم ووضوح أنه لا يمكن مطلقا أن يكون النموذج الإرشادي الإسلامي “دعوة للانعزال أو الانغلاق المستحيلين، فضلاً عن أن يكونا مجديين، بل هو دعوة لتوطين العلم وللتمكن المنهجي من أجل الرعاية المعمقة لفاعليات البحث العلمي ونمائها في أجواء أليفة غير مغتربة، ثم استدامة وتجويد الحصائل المعرفية[27].

     أشارت المؤلفة لبعض المحاولات الجادة التي تشترك مع هذا الكتاب في نفس الغاية. وتتميز المشاريع الفكرية التي أومأت إليها الباحثة بكونها تنتمي لحقول معرفية مختلفة،كالفلسفة وأصول الفقه والعلوم الاجتماعية والتاريخ والعلاقات الدولية والعلوم السياسية… كما قامت أيضا بعرض بعض هذه الاجتهادات بشيء من التفصيل،وترى فيها تميزامن حيث جدَّتها وجدِّيتها. منها مثلا، أعمال مؤرخ العلوم رشدي راشد التي تهدف إلى توطين العلم والبحث العلمي بناء على استثمار المكتسبات التي تم تحقيقها في مجال تاريخ العلوم العربية.

تطرَّقت الكاتبة بعد ذلك إلى”مشروع المنهجية الإسلامية” الذي تبناه المعهد العالمي للفكر الإسلامي منذ سنة 1977. مُشيرةً إلى التقارب الكبير بين هذا المشروع وبين “النموذج الإرشادي العلمي الإسلامي”.كماأشارتإلى بعض الدراسات التي انشغلت بـ”المنهجية الإسلامية” داخل العلوم الإنسانية، كمحاولة الدكتور عماد الدين خليل في مجال التاريخ، والدكتور علي ليلة في العلوم الاجتماعية. أما في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية، فقد أكدت على مكانة وأهمية المدرسة التي أُسست بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وقد ركزت هذه المدرسة جهودها على “تأسيس علم سياسي وفق نموذج إرشادي إسلامي”. لذا، يمكن القول عموما إن جل مجهودات هذه المدرسة تتمحور حول مفهوم مركزي هو “المنظور الحضاري الإسلامي”. بعد حديثِ المؤلفة عن إحدى الباحثات البارزات داخل هذه المدرسة، وهي الدكتورة نادية مصطفى، خَصَّصَتْ ما تبقى من هذا الفصل للحديث – بنوع من التفصيل- عن الدكتورة منى أبو الفضل التيترى فيها تتويجا لـ”مدرسة المنظور الحضاري الإسلامي”.ذلك أنالدكتورة منى أبو الفضل قد عملت على اجتراح منهجية إسلامية يَنطلق فيها الباحث من مكتسبات حقله التخصصي من جهة، ومن ثقافته الإسلامية، وفق “رؤية إسلامية سوية تمثل قاعدة معرفية”[28]، من جهة أخرى.

أما عن خاتمة الكتاب، فقد عملت فيها المؤلفة على استخلاص الخطوط العريضة التي تضمنها هذا العمل مُجْمِلَةً إياها في اثني عشر نقطة. ويصعب التطرق هنا إلى مضامين هذه الخلاصات نظرا لما يطبعها هي نفسها من تركيز واختصار واقتضاب، لذا يُستحسن أن تُؤخذ من مظانّها.

 

 

[1]– سبق أن نُشرت هذه القراءة على الموقع الإلكتروني لـ”مركز نهوض للدراسات والبحوث”.

[2]– تستعمل المؤلفة عبارة “النموذج الإرشادي” كمقابل للكلمة الإنجليزية Paradigm.

[3]-يُمنى طريف الخولي، نحو منهجية علمية إسلامية: توطين العلم في ثقافتنا، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 2017 .ص 15.

[4]– نفسه، ص 18.

[5]– نفسه، ص 27.

[6]– نفسه، ص27.

[7]– نفسه، ص 29.

[8]– نفسه، ص 33.

[9]– نفسه، ص 36.

[10]– نفسه، ص 44-45.

[11]– نفسه، ص 46.

[12]– نفسه، ص 61.

[13]– نفسه، 87.

[14]– نفسه، ص 93.

[15]– نفسه، 101-102.

[16]– نفسه، 121.

[17]-نفسه، ص 129.

[18]– نفسه، ص 137.

[19]– نفسه، 150.

[20]– نفسه، ص 153.

[21]– نفسه، ص 160.

[22]–  نفسه، ص 175.

[23]– نفسه، ص182-183.

[24]– نفسه، ص 190.

[25]– نفسه، ص 191.

[26]– نفسه، ص 195.

[27]– نفسه، ص 205.

[28]– نفسه، ص 229.

 قراءة في كتاب "نحو منهجية علمية إسلامية: توطين العلم في ثقافتنا"

Science

الاستاذ عبد العزيز النقر

باحث بمركز ابن البنا المراكشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق