مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةقراءة في كتاب

قراءة في كتاب المقنع لأبي عمروالداني

                                               الكتاب و النسبة :

        إن من أقعد القواعد في صرح التأليف في الرسم القرآني، كتاب المقنع للإمام أبي عمرو الداني444هـ -الحجة والعمدة لكل الدارسين بعده- فهو حلقة متينة في سلسلة التصانيف في هذا العلم، لايسع الدارس التحدث عن الرسم القرآني أوالبحث فيه بمعزل عن كتاب أبي عمرو ، وقد أجمعت كتب الفهارس على صحة نسبة الكتاب لمؤلفه. ينظر كشف الظنون:3/360-361

    مقنع أبي عمرو لبنة في مشيد المؤلفات التي عنيت بالرسم القرآني، وهي مؤلفات كثيرة، أفاد من بعضها أبوعمرو في جمع مادته العلمية، منها: مرسوم الخط ليحي بن يعمر 90هـ. وكتاب الهجاء، وكتاب مقطوع القرآن، وكتاب اختلاف مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة، لأبي الحسن علي بن حمزة الكسائي 189هـ. وكتاب الرد على من خالف مصحف عثمان، وكتاب مرسوم الخط، وكتاب الهجاء، وكتاب المقطوع والموصول، لأبي بكر محمد الأنباري 327هـ. وهجاء مصاحف الأمصار لأبي العباس المهدوي440هـ. وهجاء المصاحف لمكي بن أبي طالب 437هـ.

وغيرها من المصادر التي كانت معين أبي عمرو في ترصيف وجمع مباحث هذا العلم.

 استوعب أبو عمرو ما خطه السابقون، مستصحبا ما حباه الله به من سعة اطلاع، وجودة حفظ، وسرعة استحضار، وقوة نقد، وسداد ترجيح، ليتمخض عن ذلك كله ما أودعه مقنعه.

 وقد سلك فيه المؤلف رحمة الله عليه مسلك الإيجاز و الاختصار ، فأبان عن منهجيته فيه إذ يقول صدر كتابه: “هذا كتاب أذكر فيه إن شاء الله ما سمعته من مشيختي، ورويته عن أيمتي من مرسوم خطوط مصاحف أهل الأمصار… أخليه من بسط العلل، وشرح المعاني، لكي يقرب حفظه ويخف متناوله على من التمس معرفته من طالبي القراءة وكاتبي المصاحف وغيرهم ممن قد أهمل ذلك وأضرب عن روايته…”

مضامين الكتاب :

   قسم أبو عمرو كتابه إلى اثنين وعشرين بابا :

     فعقد الباب الأول لملابسات جمع القرآن،وتهيب الصحابة لنسخه، ثم ما كان من إجماعهم على ذلك وإرسال كل نسخة منه لمصر من الأمصار، وذلك في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان.

لينتقل للحديث عن موضوع الكتاب، فبسط محاور علم الرسم الخمسة –الحذف، والزيادة،وصور رسم الهمز، والفصل والوصل، وهاء التأنيث- في سبعة عشر بابا ، وأفرد الأربعة الباقية لذكر توافق او اختلاف مصاحف الأمصار في بعض الكلمات القرآنية.

والمنهج الذي ارتضاه أبو عمرو في جمع هذه المادة القرائية؛ استقراءالأشباه والنظائر في أول موضع ذكرت فيه اللفظة؛ ولم يلتزم ترتيب المصحف، معتمدا في ذلك ذكر سنده عن مشيخته، وقد يشفع ذلك بذكر ما حصل بين يديه من عتق المصاحف، كما في حديثه عن حذف الألف اختصارا قال:” وحدثني أبو الحسن بن غلبون قراءة مني عليه قال حدثنا…قال أبو عمرو: ورأيت عامة الحروف المذكورة في مصاحف أهل العراق وغيرها على نحو ما رويناه عن مصاحف أهل المدينة”  [المقنع:15]

 ويرجح عند الاختلاف في رسم بعض الكلمات القرآنية ما رسم في مصحف الإمام –يعنون به مصحف عثمان بن عفان-ويضعف الرواية الأخرى وربما يغلطها، فعند حديثه عن قوله تعالى: “تشتهيه الانفس”:قال وفيها في مصاحف أهل المدينة والشام “ما تشتهيه الأنفس ” بهائين ورأيت بعض شيوخنا يقول إن ذلك كذلك في مصاحف أهل الكوفة ، وهو غلط قال أبو عبيد : وبهائين رأيته في الإمام وفي سائر المصاحف، تشتهي بهاء واحدة [المقنع:114]

  والشيخ رحمة الله عليه بماآتاه الله من تمكن وسعة اطلاع في هذا العلم، لا يكتفي بمجرد النقل الجامد فحسب، بل إنه يتعقب ويستدرك على أعلام هذا العلم، و ربما يضيف ما أغفلوه منه، فعند عقده بابا لعد ما حذفت منه الياء اجتزاء بكسر ما قبلها، وبالسند المتصل إلى ابن الأنباري قال:” وقد أغفل ابن الأنباري من الياآت المحذوفة في الرسم خمسة مواضع فلم يذكرها مع نظائرها فأولها…” المقنع :35.

وعمدة أبي عمرو إذ يحصي ويعلل ويوجه ويجيب الإسناد والرواية، والفهم السديد لما ينقله عن مشيخته، فيما يعرف عندهم بالدراية، ويشن حربا هوجاء على من عدل عن هذا السَّنن في نقل العلم، فالإسناد عندهم من الدين وإليه المفِزع في تبيُّن المنقول في رسم الكتاب المبين.

 يقول رحمة الله عليه” وإنما بينت هذا الفصل ونبهت عليه، لأني رأيت بعض من أشار إلى جمع شيء من هجاء المصاحف من منتحلي القراءة من أهل عصرنا، قد قصد هذا المعنى وجعله أصلا، فأضاف بذلك ما قرأ به كل واحد من الأئمة من الزيادة والنقصان في الحروف المتقدمة وغيرها إلى مصاحف أهل بلده، وذلك من الخطأ الذي يقود إليه إهمال الرواية، وإفراط الغباوة ،وقلة التحصيل، إذ غير جائز القطع على كيفية ذلك إلا بخبر منقول عن الأئمة السالفين، ورواية صحيحة عن العلماء المختصين بعلم ذلك، المؤتمنين على نقله وإيراده” [ المقنع:122] وما بعدها.

وجلى الإشكال بالجابة على أسئلة تعترض الدارس في هذا العلم لماذا الاختلاف في الرسم؟ وما وجه الجمع بينه وبين القول بتوقيفه؟ ثم لماذا وقع الاختيار في جمع القرآن على زيد بن ثابت دون غيره من الصحابة من ذوي السبق والضبط؟ كعبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، ونحو ذلك من التساؤلات التي تحتاج إلى فسر وبيان.

 ثناء بعض العلماء عليه واعتناؤهم به :

وعموما فكتاب المقنع لأبي عمرو، كتاب فريد في بابه، جامع في موضوعه، ملخص في فحواه ومضمونه، خطه الإمام على طريقة المحدّثين المبرّزين، فكان خليقا أن يحتفي به الحذاق من أهل هذا الشأن، درسا وشرحا، وتحقيقا ونظما.

يقول عنه السخاوي:” وقد صنف الناس في هجاء المصاحف كتبا، وكتاب أبي عمرو من أجمعها وأحسنها وأبلغها” [الوسيلة: 11]

ويقول عنه الخراز : ” وهو كتاب مفيد عظيم في الرسم، عليه اعتمد كثير ممن اعتنى بعلم القرآن.” 

 وكذلك كان، فكل من ألف في الرسم إلا وهو عالة على أبي عمرو، منه يصدر وإليه يرجع، وممن تأثر بالمقنع  تأثرا واضحا تلميذه ابن معاذ الجهني في كتابه البديع في رسم مصحف عثمان إذ سار على وزانه في الترتيب والتبويب، وكذا فعل الإمام أبو داوود سليمان بن نجاح- أخص تلامذة أبي عمرو الذين حملوا علمه ونقلوا كتبه- في كتابه مختصر التبين في هجاء التنزيل وإن خالفه في الخطة والترتيب، والجنوح إلى  البسط والتحليل.

والمقنع رابع أربعة كتب اعتمدها الخراز في مورده، وهي المقنع، وهجاء التنزيل، والعقيلة، والمنصف،يقول عنه :

                                 ووضع الناس عليه كتبا                كل يُبين عنه كيف كتبا

                                 أجلها فاعلم كتاب المقنع            فقد أتى فيه بنص مقنع

ومن أعلام هذا العلم الأساطين الذين اعتنوا بكتاب المقنع؛ الإمام العلَم، فريد دهره، ووحيد زمانه، وحجة الله على خلقه، الإمام الشاطبي رحمة الله عليه، إذ نظم مسائل المقنع في رائيته الشهيرة،المسماة ب: “عقيلة أتراب القصائد”، التي طارت بها الركبان،وعكف عليها النحارير فنصوها مجلوة للعرسان، ومن أنفس الشروح عليها شرح أبي الحسن السخاوي 643هـ المسمى ب ,الوسيلة على كشف العقيلة، وشرح برهان الدين الجعبري 732هـ جميلة أرباب المراصد في أسنى المقاصد

والدرة الصقيلة في شرح أبيات العقيلة لأبي بكر المشهور باللبيب.وتلخيص الفوائد وتقريب المتباعد لابن القاصح.

     فهذا غيض من فيض من حر الأعمال التي حظي بها كتاب المقنع، وقد بقي الكتاب ردحا من الزمن حكرا على المهتمين من أهل الاختصاص، يتداول بينهم عن طريق الاستنساخ، إلى أن أشرفت على طبعه أول مرة جمعية المستشرقين الألمانية فنشر في الأوتوبرتزل سنة 1932م ثم طبع بدمشق بتحقيق محمد أحمد سنة 1940م فتوالت عليه بعد ذلك التحقيقات والأعمال الأكاديمية، كتحقيق الدكتور حاتم الضامن، وأطروحة نورة بنت حسن لنيل درجة الدكتورة، وقد طبعتها دار التدمرية بالرياض سنة 2010م

     وأخيرا فالمقنع لأبي عمرو درة من درر علماء الغرب الإسلامي في علم الرسم والضبط، وحق لهم الإشادة بذلك، فهم أهله وذووه، بهم قعد وأصل، وعليهم فيه المعول، خصوا بمعرفته وتحقيقه، وشرفوا بالوقوف على حكمه وأسراره، وقد شهد لهم العلامة ابن خلدون بالسبق والريادة فيه، يقول في المقدمة رحمة الله عليه ” فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله … فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم.”

الهامش

[ مقدمة ابن خلدون] :3/1116 عناية د. علي عبد الواحد وافي ضمن  سلسلة الثرات مكتبة الأسرة 2006.

[ المقنع في رسم مصاحف الأمصار ] لأبي عمرو الداني إعتناء أوتبرتزل المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، مؤسسة الريان 2009.

[الوسيلة ] للسخاوي ، تحقيق د/ مولاي محمد الإدريسي الطاهري.ط2 مكتبة الرشد ناشرون 2003.

[كشف الظنون عن أسمامي الفنون] ج 3، ط 1 دار الكتب العلمية 2008.

 

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق