مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

قراءة في كتاب “المدخل إلى كتابي عبد القاهر الجرجاني” للدكتور محمد محمد أبو موسى

تمهيد:
يعد عبد القاهر الجرجاني أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي، وإمام البلاغة والنقد في الأدب العربي، فهو مؤسس علم البلاغة وواضعُ أصولها، ويعد كتاباه ” أسرار البلاغة ” و”دلائل الإعجاز” من أبرز مؤلفاته وأشهرها في هذا المجال، فمن خلالهما أرسى دعائم ” نظرية النظم”، وتمثل هذه النظرية ذروة ما وصل إليه البحث البلاغي خلال القرن الخامس، فبعدما كانت البلاغة قبله عبارة عن كلام غامض في أوصاف الشعر وبلاغة الكلام الذي جرى على لسان الكتاب وحذاق الشعراء والعلماء والبلغاء من طبقة الجاحظ، جاءت مرحلة عبد القاهر الجرجاني الذي مثل وحده جيلا وعصرا ومرحلة، و استطاع أن يجمع بحذق بين كلام البلغاء الذي يمثل الجاحظ قمته وعلم معاني النحو الذي يمثل سيبويه قمته أيضا، فكان بذلك أن جمع بين علمين شامخين استخرج منهما مادته التي أسس عليها علم البلاغة.
وقد اكتست نظرية النظم أهمية كبرى في تاريخ البحث البلاغي على مر العصور، واكتسبت كتب عبد القاهر الجرجاني شهرة واسعة في هذا المجال لاسيما كتابا ” أسرار البلاغة ” و”دلائل الإعجاز” اللذان أودعهما جل مجهوده الفكري والعلمي، ” ويترجح أن هذا الكتاب [أي الأسرار] بمثابة المقدمة لكتاب دلائل الإعجاز الذي عقده للبحث عن الشيء الذي تجدد بالقرآن فبان به وبهر وقهر وقطع الأطماع، وهذا لا يمكن أن يعرفَ إلا إذا أحكمنا الأصل الذي قام عليه كتاب أسرار البلاغة، وهو معرفة الأصل الذي به يفضل كلام كلاما ووازنا ذلك بالقسطاس كما قال الشيخ، ولا يستطيع أحد أن يدرك شيئا من إعجاز القرآن ما دام قد فَقَدَ القدرة على تمييز الكلام ومعرفة فاضله وأفضله”. 

 

تمهيد:

يعد عبد القاهر الجرجاني أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي، وإمام البلاغة والنقد في الأدب العربي، فهو مؤسس علم البلاغة وواضعُ أصولها، ويعد كتاباه ” أسرار البلاغة ” و”دلائل الإعجاز” من أبرز مؤلفاته وأشهرها في هذا المجال، فمن خلالهما أرسى دعائم ” نظرية النظم”، وتمثل هذه النظرية ذروة ما وصل إليه البحث البلاغي خلال القرن الخامس، فبعدما كانت البلاغة قبله عبارة عن كلام غامض في أوصاف الشعر وبلاغة الكلام الذي جرى على لسان الكتاب وحذاق الشعراء والعلماء والبلغاء من طبقة الجاحظ، جاءت مرحلة عبد القاهر الجرجاني الذي مثل وحده جيلا وعصرا ومرحلة، و استطاع أن يجمع بحذق بين كلام البلغاء الذي يمثل الجاحظ قمته وعلم معاني النحو الذي يمثل سيبويه قمته أيضا، فكان بذلك أن جمع بين علمين شامخين استخرج منهما مادته التي أسس عليها علم البلاغة.

وقد اكتست نظرية النظم أهمية كبرى في تاريخ البحث البلاغي على مر العصور، واكتسبت كتب عبد القاهر الجرجاني شهرة واسعة في هذا المجال لاسيما كتابا ” أسرار البلاغة ” و”دلائل الإعجاز” اللذان أودعهما جل مجهوده الفكري والعلمي، ” ويترجح أن هذا الكتاب [أي الأسرار] بمثابة المقدمة لكتاب دلائل الإعجاز الذي عقده للبحث عن الشيء الذي تجدد بالقرآن فبان به وبهر وقهر وقطع الأطماع، وهذا لا يمكن أن يعرفَ إلا إذا أحكمنا الأصل الذي قام عليه كتاب أسرار البلاغة، وهو معرفة الأصل الذي به يفضل كلام كلاما ووازنا ذلك بالقسطاس كما قال الشيخ، ولا يستطيع أحد أن يدرك شيئا من إعجاز القرآن ما دام قد فَقَدَ القدرة على تمييز الكلام ومعرفة فاضله وأفضله”. 

وقد شَكَّلَ هذان الكتابان المصدر أو الأصل الذي انبثقت منه الشروح والحواشي في محاولة لتذليل الصعوبات وحل الإشكالات التي تواجه الدارسين أثناء قراءة هذين الكتابين والتي تقف عائقا أمام الكشف عن جوهر نظرية عبد القاهر والاستفادة منها في علوم البلاغة العربية، ومن أبرز الكتب التي تطرقت لهذه المسألة كتاب ” المدخل إلى كتابي عبد القاهر” للدكتور محمد محمد أبي موسى، ويعتبر هذا الكتاب من الكتب النافعة في هذا الميدان، فقد أخذ المؤلف على عاتقه مهمة الكشف عن المؤاخذات والانتقادات حول الكتابين ورد الفاسد منها وتأييد الصالح منها، كما عَمل على شرح بعض المسائل البلاغية الغامضة في الكتابين في محاولة لتقريبها من القارئ، فضلا عن بيان منهج عبد القاهر ومصادره التي استخرج منها علمه، وكذلك الكشفُ عن جوهر فكرته البلاغية التي استنبط منها نظرية النظم والتي كان الهدف منها بيان وجه الإعجاز في القرآن والشيء الذي يُرَدُّ إليه هذا الإعجاز.

وصف أبواب الكتاب:

أدار المؤلف موضوع هذه الدراسة، التي كان هدفها البحث في جوهر الدراسة البلاغية عند عبد القاهر من خلال كتابيه ” أسرار البلاغة ” و “دلائل الإعجاز” حول عشرة مباحث متفاوتة الحجم. وعند النظر والتأمل يمكن تقسيم هذه المباحث أو الفصول إلى ثلاثة أقسام كبرى ، أولها القسم المخصص للمسائل المنهجية ويشمل المبحث الأول المعنون بـ “عبد القاهر و الشيخان الجاحظ و سيبويه ” ، والقسم الثاني المخصص للمسائل الشكلية ويشمل المبحث الثالث المعنون ب ” الترتيب والنظام في الكتابين ” ويدرس في هذا المبحث مدى مراعاة عبد القاهر للترتيب والنظام في الفصول والأبواب ، أما القسم الثالث فهو المخصص للمسائل المعرفية وهو الأوفر حظا من بين الأقسام الأخرى، ويشمل جميع الأقسام الأخرى المتبقية. 

   وقد صدَّر المؤلف كتابه بمقدمة هادفة اشتملت كغيرها من مقدمات الدكتور محمد محمد أبي موسى على أهداف معرفية كالكشف عن غرضه من الكتاب المدروس حيث قال :” إنني أردت أن أكتب في هذا الكتاب شرحا لمسائل لم يدخلها المتأخرون في فنون البلاغة “، كما كَشَفَ عن الطريق المؤدي إلى تجديد الدرس البلاغي والذي ربطه بكشف أصول منهج عبد القاهر، بالإضافة إلى تحديده لتاريخ البلاغة ومؤسسها وما دار في هذا التاريخ، إلى جانب أهداف فكرية وإنسانية حيث نبه إلى إشكالية جهل المسلمين لمناهجهم المؤسَّسَة على الاجتهاد والاستنباط والمؤسِّسة للمعرفة الحقة، هذا الجهل الذي يترتب عليه دخول العقل العربي في سرداب ضيق وعفن ناتج عن تتبع مناهج الغربيين وطرقهم، وتغييب علوم الإسلام و آداب العرب ومناهجهم، لكنه في المقابل يحيلنا على الطريق الذي منه الخلاص وهو الصبر وطول المراجعة وشدة اليقظة وتكرار النظر مما ينتج عنه توسيع آفاق المعرفة في محاولة لتوعية هذا الجيل الجديد.

وقد خَصَّ المؤلف المبحث الأول من مباحث الكتاب بتحديد المصادر التي كونت البناء العلمي لعبد القاهر، بالإضافة إلى تحديد القناعات التي انطلق منها في تحديده لهذه المصادر والمسلك الذي سلكه الشيخ في طريق الكشف عن الغموض وتفسير المبهمات التي واجهته وهو يتلمس طريقه في خدمة العلم مع بيان فضله وعلمه وعطائه بأن نَقَلَ علم البلاغة من حيز الإبهام والرمز والغموض إلى حيز المعرفة المضبوطة والقواعد المحكمة.

 وفي المبحث الثاني شرح المؤلف أهمية مقدمات الكتب وما تنطوي عليه من مقاصد، وكذلك شرح منهج عبد القاهر في تحليل لغة المعرفة وأصل هذا المنهج، كما قام بتحديد حقيقة الإبانة عن المعاني وكذلك حقيقة البيان الذي كان عبد القاهر كَلفاً بمعرفة حقيقته وكنهه وأسراره ودقائقه والشيء الذي يرجع إليه جوهر البيان، وقد بسط المؤلف حديثه في هذا الفصل أيضا عن الألفاظ وما يراد بها ومعناها وترتيبها.

أما في المبحث الثالث فقد قام المؤلف بإبطال الفكرة القائلة بعدم مراعاة عبد القاهر للترتيب والنظام في الكتابين مستعرضا النصوص القاطعة بحرصه على ذلك، كما أشار إلى الباب الذي فتحه عبد القاهر وهو باب السرقات الشعرية حيثُ أولاه الشيخ عناية مميزة عن سابقيه.

 وفي المبحث الرابع يعود المؤلف من جديد ليثير مسألة اللفظ في أسرار البلاغة والذي قام فيه الشيخ بنقض وبيان فساد القول بمرجع المزية في بلاغة الكلام إلى مجرد اللفظ، كما قام المؤلف بتحديد جذور النغم إلى ما قبل الجناس الاصطلاحي وعمل على استخلاص القيمة البلاغية للسجع وشروط استحسانه، وختم هذا المبحث بحديثه عن الحرية باعتبارها جزءا من فطرة الأشياء والتي تنعكس على أدب الإنسان وعلمه وفكره.

وبعدما فرغ المؤلف من ذلك انتقل في المبحث الخامس إلى الحديث عن مسائل أسرار البلاغة؛ كالحديث مثلا عن وجه ترتيب هذه المسائل ودفع شبهات التعارض عن كلام الشيخ كما أشار إلى القضية الأساسية والموحدة في الكتابين الشيء الذي يفسر التشابه الكبير بينهما من ناحية البناء، وهي قضية إسقاط القول برجوع المزية إلى اللفظ . كما عمل المؤلف على تحديد منهج الشيخ في تحليل النصوص وعنايته الشديدة بضبطه وفي هذا السياق نَبَّهَ على ضرورة إحكام هذا المنهج. مع عَرْض الغرض الأساس للشيخ من الكتاب والذي من أجله وضعه، وفي هذا المبحث أكثر المؤلف من الحديث عن التشبيه باعتباره بابا من أبواب دراسة المعاني عند عبد القاهر، وقد أشار أيضا إلى عنايته بدراسة باب السرقات، ويختم هذا المبحث بمراجعته لتقسيم عبد القاهر للمعاني إلى عقلية وتخييلية وانتقاده لهذا التقسيم.

ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى المبحث السادس المعنون بـ” عبد القاهر يستكشف جوهر البلاغة” حيث عمل على تحليل بعض الآيات القرآنية التي أكدت على أن الإعجاز في القرآن إنما هو قائم بالمعاني وأن تصفية لغة النقد الأدبي من الغموض كان من أهداف الشيخ – رحمه الله -، كما حدد مرادَ الشيخ بخالص علم الإعراب ومراده أيضا بفقه المطابقة الذي اعتبره الشيخ أصل الكلام كله وعموده، كما سعى إلى تحليل كلام الشيخ في جوهر البلاغة ومحاولته فهم الجهة التي هي أصح لتأدية المعنى.

أما المبحث السابع الذي خصه المؤلف بوشائج الكلام وصنعة الشعر فقد بَيَّنَ فيه المؤلف عناية عبد القاهر ببيان أصل الكلام وروابطه وعلاقاته ووشائج كلماته وطريقة عبد القاهر في معالجة مسائل علم البلاغة، وكذلك وجوبُ معرفة المادة التي يقوم عليها الدرس والدراسة البلاغية التي تحْدُثُ فيها صنعة الشعر والبيان، وقد عَمل المؤلف أيضا على تحديد أبكار المعاني أي صورها وهيآتها وأشكالها.

وقد انصَبَّ حديث المؤلف في الفصل التاسع على المعنى؛ من تحقيق القول في هذه الكلمة والزيادات التي تحصل في أصول المعاني وهيآتها وصورها وخصوصياتها مع بيان ذلك في نماذج من شعر الشعراء كزهير وأبي تمام.

وقد أفرد المؤلف للتمثيل مبحثا خاصا به وهو المبحث العاشر من مباحث الكتاب؛ بَيَّنَ فيه أساس التمثيل ووجه الشبه فيه، مع تحديده أيضا لتقسيمات عبد القاهر في التمثيل وبيان أثره في النفس وفي المعنى نفسه، أي بيان قيمته البلاغية وقيمته في الأداء الأدبي وكذلك بيان أسباب هذا التأثير.

مضمون الكتاب: 

يبدأُ المؤلف كتابَه ببيان أهمية معرفة مصادر المادة العلمية، إذْ تضيف إلى متعة الفهم ومتابعة حركة عقل المؤلف شيئا جديدا هو كيفية تعامل هذا العقل مع المادة العلمية أو البناء الفكري الذي عاش فيه، كما أن معرفة هذه المصادر تمنح القارئ فهما آخر للكتاب وتذوقا آخر لمادته، وهو أمر يهدي إلى التعرف على طريقة فهم المؤلف للكتب التي كان يطلع عليها، والتي أمدته بالأفكار والخواطر.

وقد ذكر المؤلف أن الشيخين الجاحظ وسيبويه كانا من أصحاب البيان الذي يُعتَدُّ به، ولم ينتفع عبد القاهر بالجاحظ وسيبويه في الجزئيات فحسب، وإنما دخلا عنده في صلب مادته العلمية، هذه المادة القائمة على النحو والشعر، وهما العلمان اللذان استخرج منهما علم البيان، لأن الشعر – كما قال – هو معدن البلاغة، والنحوَ هو الناسب لها الذي ينميها إلى أصولها ، وقد أشار عبد القاهر إلى هذه الرابطة التي تجمع الشعر بالنحو وأن البلاغة نتاج ما بينهما. 

ومما أعان عبد القاهر على تفجير هذا العلم – حسب المؤلف –  التأمل والصبر والمراجعة لأوصاف أهل البيان للشعر، وأبرزهم الجاحظ الذي كان له أثر واضح في تنوير طريق عبد القاهر الذي سلكه وفتح به باب علم شريف. وقد عانى عبد القاهر وهو يتلمس طريقه في هذا العلم مشكلة غموض المصطلح، غير أنه سلك طريقه في كشف هذا الغموض مسلكا دقيقا، مع العلم بأن الذي شرحه الشيخ لم يكن قائما في نفوس العلماء والبلغاء الذين صاغوا هذه اللغة الرمزية الخاصة بهم.

وقد انتقل المؤلف بعد ذلك إلى بيان أهمية مقدمات الكتب؛ لأنها تشرح قضية الكتاب والقصد الذي يقصد إليه صاحب الكتاب، ثمّ أشارَ إلى المنهج الذي وضعه عبد القاهر لتحليل المعرفة وأصل هذا المنهج الذي يقوم على تحليل لغة هذه المعرفة، كما حدد الغاية من البلاغة، وهي البحث عن المعاني وأسرارها وصورها وسبر أغوارها. وقد جعل الإبانة عن المعاني مقياس الكلام وميزانه الذي يوزن به، لأنها ما دامت غاية وجود البيان فيجب أن تكون قياس فضله، وهي جوهر الشعر والأدب وقياس الشعر وعيار تقديره كما قال. ويرى المؤلف أن دراسة عبد القاهر في كتابيه ليست إلا تحليلا للإبانة، وإذا كانت هذه الأخيرة هي جوهر الشعر فإن العلاقات والروابط بين الكلمات هي التي يرجع إليها جوهر البيان وليس الألفاظ؛ لأن هذه الأخيرة حسب المؤلف مشتركة بين أهل اللغة جميعا، ويحيلنا المؤلف إلى أهمية معرفة الأفكار التي صاحبت الشيخ منذ بدأ في خدمة العلم كوجوب الانتقال من نظم اللفظ إلى نظم المعنى، أو بصيغة أخرى الانتقال من الألفاظ المرتبة في النطق إلى جذورها وأصولها وهو ترتيب المعاني في النفس على قضية العقل.

 كما نَبَّهَ إلى أن عبد القاهر أنكر تكلف الأحوال الإيقاعية ولم ينكرها أساسا، لأن الكلام المطبوع الذي تجري فيه هذه العناصر الصوتية على طبيعتها فهو حَسَنٌ عنده ولم ينكره، وأشار المؤلف أيضا إلى مراد الشيخ بجوهر العمل البلاغي وهو التركيب والصياغة والنظم، وهذه التراكيب هي التي تتأسس منها صور المعاني وهيآتها وأشكالها، وهذه الأخيرة هي الأصل الذي يرجع إليه هذا الإعجاز في كلام الله سبحانه، واللفظ عند عبد القاهر يراد به صور المعاني وسُمّي بذلك لكي لا يختلط بالمعنى الأم، كما أن وصف اللفظ بالفصاحة مصروف إلى الحالة التي إذا كان اللفظ عليها دل على المزية وهذه الحالة هي علاقته وروابطه بالكلام حوله.

وقد تناولَ المؤلف بالبحث أيضا الصورة التي قام عليها الكتابان والتي كانت عند بعض النقاد صورة غير مرتبة وغير منظمة، ومن أجل رد هذه الانتقادات عَرَضَ الدكتور محمد محمد أبو موسى بعض النصوص القاطعة في مراعاة الشيخ للترتيب والنظام والدالة على شدة حرصه على ضبط منهجه وترتيب مسائله وعقد فصوله على وجه من التنظيم  والترتيب، كما قام بتحديد عدد صفحات الكتاب وإلى ما أضافه الشيخ محمود محمد شاكر من رسائل وتعقيبات، وفي هذا السياق أشار إلى الباب الذي فتحه عبد القاهر وهو باب السرقات الشعرية، وهو باب علم شريف في نظر المؤلف من صميم صنعة الشعر.

وقد وضح المؤلف كيف شُغلَ عبد القاهر في “دلائل الإعجاز” بالرد على القائلين بأن بلاغة الكلام ترجع إلى لفظه، وقد جعل الشيخ تفكيك الروابط اللغوية وإعادة تركيبها سبيلا إلى الكشف عن المخبآت البيانية والشعرية التي تكمن وراء حجب هذا التركيب ووراء هذا البناء، ووضح أن عبد القاهر بنى كتابه “أسرار البلاغة” على بيان فساد القول بأن التباين في الفضيلة والتباعد عنها إلى ما ينافيها من الرذيلة راجع إلى مجرد اللفظ، وهذا قاطع في أن كتاب الأسرار إنما كُتب لتصحيح الخطأ الدائر زمن الشيخ في الحياة الفكرية، وهو القول بأن فضيلة الكلام راجعة إلى مجرد اللفظ.

وكان هدف الشيخ من الكتابين أيضا الكشف عن غموض المصطلحات كالجرس والرنين مثلا، وهي مصطلحات غامضة أشد الغموض، لأنها ليست من العناصر ذات الدلالات العقلية؛ وإنما هي أصوات منتزعة من الكلمات، كما قام بتحديد جذور النغم فيما قبل الجناس الاصطلاحي والكشف عن غزارته إلى جانب السجع، وهو إيقاع صرف ونغم بحت وموسيقى خالصة، وقد جعل المؤلف العبارة عن العلم الشريف جزءا من جوهر العلم.

كما عَمل المؤلف على بيان وجه ترتيب مسائل أسرار البلاغة، وأشار أيضا إلى القضية الأساسية والموحدة في الكتابين وهي إسقاط القول برجوع المزية إلى اللفظ، مما يفسر التشابه الكبير في خط سَير الكتابين، وكذلك بَيَّنَ منهج الشيخ في تحليل النصوص والذي يَنْصَبُّ أولا على المعنى، وقد نص عبد القاهر على أن التشبيه باب من أبواب دراسة المعاني لا يجب تركه إلا بعد استنباط المعاني والدلالات من صوره. وكلام عبد القاهر في التشبيه هو تحليل للمعاني وبيان صورها ودرجاتها في القرب والبعد. وتدور دراسة عبد القاهر للمعاني حول أمرين : المعاني العقلية والتخييلية، فالأولى الإبداع فيها صعب أما الاتساع فإنما يكون في المعاني التخييلية وهي معدن من معادن صنعة الشعر، وقد انتقد المؤلف تقسيم عبد القاهر المعاني إلى عقلية وتخييلية، لأنه يشق على القارئ في نظره أن يدخل كل الشعر في واحد من هذين الصنفين.

وقد حاول عبد القاهر الوقوف عند البناء البياني لمعاني القرآن ووصفِ مزاياه وصفا حسنا ليدرك أن الإعجاز فيه قائم بالمعاني، وكان لا بد من تفسير هذه المزايا المنوطة بالنظم وهذه الخصائص المتعلقة بسياق اللفظ أمام هذا الغموض والإبهام في كشف حقائق هذه المعرفة، فرجَعَ بالقضية إلى أصلها ومنبتها في أشعار العرب، وتتبع كلامَها واستقرَى بيانها ونظر فيها حتى ينكشف له معنى مزايا النظم وخصائص سياق اللفظ، وكتاب “دلائل الإعجاز” يدور كله حول هذه المسألة. 

ويرى المؤلف أن انتقاء خالص علم الإعراب وأخذ أَنَاسي علومه هو مادة علم المعاني وهذا الأخير هو رأس البلاغة وأصل علمي البيان والبديع، كما أن فقه المطابقة أصل وعمود البلاغة والبيان و الشعر والكلام كله، وحسب عبد القاهر يجب أن تكون القسمة عادلة بين شقَّي البلاغة وهما المطابقة والمعنى إذ يجب أن ندرس المعاني كما نشغل بأحوال اللفظ وهذه الأحوال ليس لها قيمة إلا من حيث هي مستوعبة للمعاني، وقد قام تعريف البلاغة عند الشيخ على حُسْن الدلالة ووفائها وعلى اتساع المعاني وغزارتها في النفوس الحية التي تتخلق فيها الأفكار وتتزاحم فيها الخواطر.

ينتقل حديث المؤلف بعد ذلك إلى بيان عناية الشيخ عبد القاهر الشديدة ببيان أصل الكلام وروابطه وعلاقاته ووشائج كلماته، هذه الوشائج التي تتخفى بين عناصر القصيدة وهي من أهم مظاهر الإحكام والتثقيف، وأن جوهر النص ليس هو الألفاظ وإن كانت منه، وإنما هو الروابط التي يصير بها الكلام شكلا لغويا وهي البلاغة والبيان. ويحيلنا الشيخ على أن معرفة حقيقة النظم تكون داخل النفس التي علمها خالقها البيان وليس في الكتب، والنظم عنده هو رأس البلاغة وعمودها الذي عليه الاستقرار وقطبها الذي عليه المدار، والمعاني عنده هي التي تقع فيها ضروب الصنعة من غير عمل في الألفاظ، وعبد القاهر يقول إذا كان النظم الذي هو جذر الدراسة البلاغية، إنما هو عمل في المعاني فلا يجوز أن نخرج عن هذه الدائرة ونحن ندرس النظم الذي هو البلاغة وما يدخل فيه من أبكار المعاني وهي صورها وهيآتها وأشكالها وكذلك الأفكار والخواطر الجزئية.

وقد تناول المؤلف أيضا أدق مباحث لغة الشعر والأدب عند عبد القاهر وهو باب النظر في علاقات المعاني وطرائق تكوينها، فالمعاني التي يبنى بعضها على بعض ويتفرع بعضها من بعض هو النمط العالي والباب الأعظم، ويرى المؤلف أن هناك كرائم معاني ولكنها مفردات ليس فيها التشابك وهو صنعة النظم، ويستقي ضروبا من تشابك المعاني في كلام رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ومن كلام الحكماء، ويرى أيضا أن بحث الأدب والشعر في هذا الجانب يتسع جدا لأن المعاني في ترابطها أو استقلالها أحوالا لا تحصى وضروبا لا تستقصى، أو بصيغة أخرى فإن ضروب تشابك المعاني واتحاد أجزائها ودخول بعضها في بعض وشدة ارتباط ثان منها بأول يجيء في الكلام على وجوه شتى وأنحاء مختلفة وليس له حد يحصره ولا قانون يحيط به. وقد حرص المؤلف على ذكر مراجع حسن الكلام عند عبد القاهر، إذ إنَّ من الكلام ما حَسُن لنظمه، ومنه ما حَسُن للفظه، ومنه ما قَرَى الحسنَ من الجهتين، والمراد باللفظ هنا الاستعارة والتمثيل والكناية.

وحسب المؤلف فقد نَفَذَ عبد القاهر إلى أدق أبواب صنعة الشعر وهو قدرة الشاعر على أن يعمل في المعاني ويبدع فيها، ولا معنى للمعاني الشعرية أو المعاني في الشعر إلا هذه الصنعة التي يحدثها الشاعر ويصوغ بها صورا وأحوالا ومشاعر، ولا معنى لها أيضا إلا هذه النفثات التي ينفثها الشاعر في اللغة فيحولها من لغة عامة إلى شعر خاص، والكشف عن هذا هو جوهر البلاغة وجوهر الشعر. وقد عمل المؤلف على تلخيص كلام الباقلاني في هذا الشأن وأشار إلى أنه فَطنَ إلى عنصر ثالث أو باب من أبواب علم الأدب هو ما  سماه “النمط”، وهو طريقة بناء الكلام وهو الأسلوب والمذهب والمنهاج، ويدلنا أيضا على معاني الشعر عند عبد القاهر، وهي دقائق صَوْغِه ولطيف صُنْعِه وبارع صُوره وخيالاته، وكذلك فالمعاني الجزئية هي هيآت المعاني وخصوصياتها والزيادات التي تحصل فيها من الوشي والديباجة والسبك والنظم مشيرا إلى صعوبة استخراج علاقات الصور والرموز والعناصر المكونة للنص علما بأنها من مباحث البلاغة.

ومن الحقائق التي أقرها المؤلف في هذا الكتاب أن عبد القاهر هو أول من أفرد التمثيل من التشبيه وجعله قسما منه ومَازَهُ عن التشبيه الصريح، وإنما سمي التمثيلُ تمثيلا لأنه يمثل الأمور المعقولة ويجعلها شاخصة ماثلة في صور مادية محسوسة، والتمثيل هو ما كان الوجه فيه متأولا؛ لأن الوجه الحسي لا يقوم في المشبه إلا على وجه التأول. وقد قامت دراسة التمثيل عند عبد القاهر على هذا التأول، كما أشار المؤلف إلى تأكيد عبد القاهر على وجوب تقسيم التشبيه إلى تمثيل وغير تمثيل، لأن الخلط بين هذين القسمين في نظره يجافي روح العلم وروح المنهج مع ذكر الأصل الذي بني عليه هذا التقسيم وهو أن الوجه حسي في كل صور التمثيل، ويرى أيضا أن كثرة الأجزاء المكونة للصورة تمنحها غزارة وتنوعا ووفرة وسخاءاً فيكونُ تمثيلها للمعنى أوفى وأوفر، وحسب عبد القاهر فإن هذا الضرب هو الجدير باسم التمثيل، ويعود المؤلف مرة أخرى ليؤكد على أن الشيخ كان ينتقل درسه من مسألة إلى مسألة في تتابع ذكي واستقصاء دقيق كل ذلك في وعي منهجي بالغ الضبط.

ومن أهم آثار التمثيل في المعنى نفسه رفع قدر المعنى حتى يصير بالتمثيل شريفا، أما بالنسبة لأثره في النفس فالتمثيل ينفذ إلى أقاصي الأفئدة ويداخل سرائر القلوب ويحرك ما قرَّ في قرار النفس. وباب آخر من أسرار استحسان التشبيه وأسباب جودته هو أن المعاني التي لا تنكشف إلا بعد طول عناء يكون لها من حسن الأثر ما لا يكون لو أنك حصلتها من غير عناء بشرط أن يكون المعنى كريما.

ويختم المؤلفُ كتابَه بتأكيد حرص عبد القاهر على توثيق الأصول البلاغية التي كان يقررها وأهم ما يوثق هذه الأصول هو ربطها بالطباع وفطرة النفوس، وأن تكون الفكرة البلاغية موسومة بوسم الروح الإنسانية.

المنهج:

اتبع المؤلف في كتابه هذا منهجا علميا دقيقا مكنه من استيعاب جميع المسائل التي تطرق لها وهو المنهج الاستنباطي، هذا المنهج الذي يطغى على أغلبية الكتب النقدية؛ إذ نجد المؤلف يبدأ من العام إلى الخاص أو من الكليات إلى الجزئيات وهذا ما نلمحه في المبحث الأول من مباحث الكتاب، على سبيل المثال، والمعنون بـ ” عبد القاهر والشيخان الجاحظ وسيبويه ” حيث انطلق من بيان أهمية معرفة مصادر المادة العلمية بصفة عامة وأصولها التي بنيت عليها ومدى حضور هذه المصادر عند المؤلف وهو يعالج أصول بناءه العلمي حيث قال: “إنك لا تستطيع أن تتعرف على عقل الكاتب إلا إذا حلَّلت مادته في ضوء المعرفة الواعية بمصادره التي كونت بناءه العلمي وكيف كانت المادة العلمية التي انتخبها من هذه المصادر”، لينتقل بعد ذلك إلى تخصيص الحديث ببيان إفادة عبد القاهر من رجلين أو مصدرين مهمين هما الجاحظ وسيبويه، كما عَمل على تحديد ما استنبطه عبد القاهر من كل منهما، ومن الأقوى أثرا وحضورا من الآخر عند الشيخ في كتابيه حيث يقول  : ” لهذا نؤكد أن الجاحظ كان له أثر واضح في تنوير طريق عبد القاهر الذي سلكه وفتح به باب علم شريف، وأنه كان في هذا لا ينافسه سيبويه، مع أن المشهور عند الدارسين أن سيبويه له الأثر الأكبر في بناء عبد القاهر لعلمه، والصحيح أن هذا الأثر الأكبر للجاحظ”، وبذلك يكون المؤلف قد انتقل من الكل إلى الجزء، أو بصيغة أخرى فقد انتقل من فكرة عامة مستنبطة من قناعاته الشخصية لينتقل بعد ذلك إلى التفصيل والتحليل وإبراز مدى ثبوت هذه الفكرة وأحقيتها، ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن هذا المنهج يصدق على جميع مباحث الكتاب.

وقد كان هَمُّ المؤلف منذ بداية الكتاب هو الكشف عن جوهر الفكرة البلاغية عند عبد القاهر وبيان حقيقتها، لذلك سلك مسلكا دقيقا في طريقه إلى هذا الكشف، وهو الاستشهاد فالتعليق ثم الشرح والمناقشة بوصفها خطوة أخيرة ليؤكد بها مدى أحقية فكرته التي يدافع عنها؛ إذ كان من أظهر أغراضه في هذا الكتاب أن يضع من الشعر والأدب ما يعينُ قارئَ الكتابين على معرفة جوهر أقاويل عبد القاهر في أحوال البيان وأن يَدُلَّ على منهجه ويَذْكُر شواهده.

وقد كان المؤلف حريصا على بيان خطوات عبد القاهر أثناء تحليله لفكرته البلاغية في كتابيه ووصفها والتعليق عليها، وفي هذا التعليق يكمن جوهر تحليل الدكتور محمد محمد أبو موسى لكتابي عبد القاهر؛ إذ غالبا ما يدعو القارئ إلى التأمل و إثارة التساؤل وإقامة الدليل على صحة ما قاله عبد القاهر في كتابيه أو خطئه ، ولعل هذا ما جعله يقيم موازنات كبيرة بين الكتابين حول بعض المسائل المشتركة بينهما، بالإضافة إلى موازنته لتحليل الشيخ لبعض الأبيات في الأسرار بتحليله لها في الدلائل، وموازنته بين الفصول، يقول في موضع آخر من الكتاب ” ومما يجب التنبيه إليه هنا، أن باب الفصل والوصل مع سعته وعمقه وكثرة فوائده لم يكن بابا كالتقديم والحذف وفروق الخبر عند عبد القاهر”، ولعل هذا الطريق هو الذي هَدَى المؤلف إلى معرفة أي الكتابين أسبق إلى الوجود من الآخر، هذا الأمر الذي استعصى على الكثير من علماء البلاغة، كما حَدَّدَ ما أخذه العلماء بعد عبد القاهر من كتابيه وما تركوه كابن الخطيب والسكاكي ومؤاخذاته على ذلك، وهو أمر يدل على عُمْق استيعاب الدكتور محمد محمد أبو موسى لكلام الشيخ، بل لدقائق هذا الكلام وأموره الخفية نفسها. 

وكان عبد القاهر يختصر في الغالب التعليق على شواهده اختصارا يبهمها، ومن أجل ذلك دَعَّمَ الدكتور محمد محمد أبي موسى هذه الدراسة بمجموعة من الشواهد الأخرى التي انصبت على تحليل بعض القصائد والأبيات الشعرية واستنطاق أبنيتها النحوية، لأن طريقته في هذا الكتاب – وقد صرح بها – هي شرح كلام الشيخ بنصوص الأدباء وليس بنصوص العلماء. 

ولدفع الشبهات والتعارض والانتقادات الخاطئة في نظر المؤلف حول الكتابين اللذين دافع عنهما عمل على عرض النصوص القاطعة بخلاف ذلك، وإن أبرزَ هذه الانتقادات مسألةُ النظام والترتيب في الكتابين، وقد أفرد لها المؤلف مبحثا خاصا بها ضمنه كل الحجج القاطعة على مراعاة عبد القاهر وعنايته وحرصه الشديد على هذه المسألة.

هذا ومن أهم ما يميز منهج عبد القاهر في هذا الكتاب تتبعه لحركة عقل عبد القاهر في كتابيه أثناء محاولة تكشف المسألة البلاغية، وكذلك تتبع نمو الفكرة وتطورها في كتابات الشيخ الإمام، ولا يبخل أيضا بالتماس العذر للشيخ في بعض المسائل التي لم يودعها حقها من البحث والتحليل، لكنه في المقابل ينتقد عبد القاهر في المواضع التي هي أصحُّ للانتقاد في نظره، وهذا أهم ما يميز منهج الدكتور محمد محمد أبو موسى في كتابه.

خاتمة: 

بناء على ما سبق يمكن القول إنه إذا كانا كتابا عبد القاهر “دلائل الإعجاز” و “أسرار البلاغة” يعدان أساسين من أسس البلاغة العربية، فإن كتاب ” المدخل إلى كتابي عبد القاهر” يعد العتبة الأولى لدخول هذه البلاغة، وبدون هذه العتبة لا يمكن الولوج إلى ما بعدها وإلى ما هو أعمق منها ألا وهو الكشف عن جوهر الفكرة البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني والتي مهد لها الدكتور محمد محمد أبو موسى في كتابه هذا أحسن تمهيد.

ـــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش: 


1- المدخل إلى كتابي عبد القاهر ص: 56.

2- المدخل إلى كتابي عبد القاهر ص:13.

3- المدخل إلى كتابي عبد القاهر ص:23.

4- المدخل إلى كتابي عبد القاهر ص:34.

5- المدخل إلى كتابي عبد القاهر ص:96.

 

*****


المراجع:

–  المدخل إلى كتابي عبد القاهر الجرجاني، للدكتور محمد محمد أبو موسى، الطبعة الأولى 1418هـ/ 1998م، منشورات مكتبة وهبة، القاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق