مركز الدراسات القرآنيةدراسات محكمة

قبسات من الوحي (9): مستويات منهجية القرآن المعرفية (2)

حين نتحدث عن منهجية القرآن المعرفية نستحضر مستويات هذه المنهجية، ومحدداتها، وقد عرضنا في الحلقة الثامنة، مستويين، ونستكمل في هذه الحلقة باقي المستويات الأخرى، وهي كالآتي:

المستوى الثالث: هو المستوى الذي سماه الله عز وجل ترتيلا، والترتيل هو النضد، وهو الصفّ، وهو التنسيق في كل المستويات. والفم الرّتِل، هو الفم الذي قد انتضدت أسنانه. والترتيل لا ينحصر فقط في المستوى الصوتي، بل ينتقل إلى المستوى المفاهيمي، وإلى المستوى المرجعي النسقي، ثم إلى المستوى التنزيلي، ثم إلى المستوى التقويمي، هذه المستويات يُسلم بعضها إلى بعض فإذا لم ترتل صوتا، لن تستبين ما هو الترتيل لفظا، والترتيل لفظا له مناهجه من دراسات مصطلحية ومفاهيمية وغيرها، دراسة للكلمة في بيئتها، وفي سياقها مع استحضار لضمائمها، ومشتقاتها، والتصنيف، وغير ذلك من الأمور التي تعطيك في النهاية فهما أقرب إلى الصواب للمصطلح القرآني، وهذا بدوره روض أنف، لم تطأه الأقدام الكافية وقد وجب !

المستوى الرابع: وهو المستوى النسقي، (أو الأطر المرجعية)، ويجدر التنبيه إلا أن هذا المستوى يُتوخى به أمر في غاية الأهمية، وهو شأن قد انتبه إليه علامة باكستان فضل الرحمن، حين تساءل قائلا: “لماذا لم نستطع في الفضاء الإسلامي أن ننتج وأن نبلور شيئا اسمه الكسمولوجيا، أو الرؤية الكلية، أو كما يقول الألمان فيلتون شونغ، أي التصور الكلي، والرؤية الكلية، التي قد يطلق عليها البعض: المنظومة الرؤيوية الفلسفية في الإسلام، يقول: لا المتكلمون، ولا الفلاسفة، ولا الفقهاء، ولا الأصوليون اهتموا بأن يقدموا الرؤية الكلية والتي لا شك تبقى فيها الفُرَج النسبية، والتي يمكن أن تستكمل عبر الزمن، وهذا الأمر كان ينبغي أن يشغَل علماء العقيدة، وعلماء التصوف..” بحيث إن العقيدة لا ينبغي أن نقبل بحال أن تكون شيئا يستظهر فقط، إذ العقيدة تأطير للإنسان في هذه الحياة لكي يكسب في إيمانه خيرا ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ (الأنعام: 159).

ولكي أكسب في إيماني خيرا لا بد من الصوى، ولا بد من المعالم التي أهتدي بها في هذه الحياة، وعلم العقيدة، كان هو المحضن الطبيعي لهذه الرؤية الكلية، والتصور الكلي، فهي تنبؤنا عمن هو الإنسان في القرآن، وتجدر الإشارة إلى أن ثمة أبحاثا لعلمائنا في هذا الباب، كالذي دبّجه أبو الحسن الحرالي المراكشي(638 هـ) في “مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل” وغيره، غير أن هذه الأبحاث لم تشكل الكتلة الحرجة المتوخاة.

فعلم العقيدة كان ينبغي أن يكون، هو المحضن الطبيعي للبحث في هذه الأطر المرجعية، والأنساق القياسية، التي حين تُستجمع بشأن المواضيع المختلفة؛ (الإنسان، الحياة، المجتمع، الآخرة، الدنيا، المال، الفتنة، الهدى، الضلال، الجود، الأنساق المعرفية، التكتلات البشرية، الحركية بين الأمم تداخلا، تناقضا، تنافرا، تواؤما، تواشجا دون ذلك، فوق ذلك) هذه الأطر المرجعية تشكل المفردات التي حين تُؤثَّل، وحين تُجمع، يمكن أن تُحرر لنا طلائع هذه الرؤية الكلية والشمولية، التي يحتاج إليها المسلمون اليوم؛ لأن الفاعلية الحضارية تنطلق من امتلاك رؤية ناظمة عن الوجود، والحياة، والأحياء.

ولا يخفى أن الذين يمتلكون الفاعلية في دنيا الناس إنما يمتلكونها لاستبطانهم رؤية معينة، فمثلا حين تنظر إلى الحضارة الغربية الراهنة، تجد أن عندها دافعية، وإن كانت دافعية نحو مآلات لا يمكن أن نطمئن إليها جميعها، ولكنها دافعية على كل حال، وهي دافعية تأتي من كونهم قد استكملوا رؤية معينة، وتصورات كسمولوجية معينة، مثلا نجد باحثين من أمثال فيبر، ومن أمثال ديدرو، ومن أمثال ماركس، ومن أمثال نيتشه، قد بحثوا في هذه الجوانب التصورية، وتكامل هذه الأبحاث أعطى ما يسمى مركزية الإنسان، ومركزية الإنسان نسق قياسي، وإطار مرجعي يمكن أن يكون مدخلا للتعامل مع علوم السياسة، فيصبح الإنسان لمركزيته، هو مدار العلوم السياسية، ومدار كل ما جاء بعد ذلك من حقوق الإنسان، ومن حريات، وغير ذلك، مما نروج وسطه اليوم في عالمنا، مما هو منفرج، وخارج.

وهذه الرؤية –أي مركزية الإنسان-، التي نحن إن رجعنا بها إلى القرآن المجيد سوف نجد بينها وبين الرؤية التي في القرآن المجيد جملة تفاوتات. وهذه التفاوتات وجب أن يتم ضبطها، وهذا الضبط ينبغي أن يكون تعارفيا، وهذا هو بعض ما يمكن أن يفهم من قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13)؛ لأن الحكمة المتعالية الكاملة، منال لا يمكن الاقتراب منه إلا بالتكامل، كما أن الكعبة لا يمكن النظر إليها من أوجهها كاملة ثم السقف، إلا لمن نظر إليها من مختلف الزوايا، وكذا الحكمة فإن لها هذه الأوجه كلها، وقد فُرض الطواف في الحج، وفي العمرة، لكي تتعلم أن الطواف هو وحده الذي يمكن أن يُطلعنا على الحكمة من مختلف الزوايا، علما أنها مستويات لا تزال أيضا بدورها تحتاج إلى جهود مستأنفة.

المستوى الخامس: هو المستوى التنزيلي الذي استرعى اهتمام مجموعة من العلماء وخاصة العاملين منهم المكابدين، ففصلوا في كيفيات التنزيل، وفرعوا القول في شروطه ومناطات -تخريجا وتحقيقا وتنقيحا- ومقاصده ومآلاته..

وتجدر الإشارة أن ثمة مجموعة من التطبيقات أنجزت بهذا الصدد، والتي يغلب على الظن أن الدافع فيها كان هو الإخلاص، ولكن الإخلاص لم يكن الإحسان مفارقا له في بعض الأحيان، ولله درّ الفضيل بن عياض (ت 187 هـ) حين قال في حق قول الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ (الملك: 2) قال: “أحسنُ العمل: أخلصه وأصوبه”.

فإذن المستوى التنزيلي وجب أن يبحث فيه بإزاء الإخلاص عن الصواب، وهذا أيضا يفتح المجال أمام دراسات مستأنفة، البشرية اليوم في أشد الحاجة إليها، حتى يكون التنزيل تنزيلا بحكمة. وهذا التنزيل تفرض على الباحث العالم المسلم فيه علوم أخرى يجد لها بهذا المنظور موقعا، وقد كان يتساءل قبل ذلك عن موقعها قبل أن يستدمج همّ التنزيل؛ فتعلم مثلا أن علم مقاصد الشريعة، سوف يمكنك من التنزيل الأوفق، على وجه الحكمة، لمقتضيات التلاوة التي قد انتقلت من اللفظ إلى المعاني، إلى الأنساق القياسية والأطر المرجعية، ثم أفضت إلى التنزيل.

وعلم أصول الفقه يصبح له محل أيضا، فيبحث فيه عن الحلول للمشاكل التي تراكمت بسبب طول الركود والخمول، إلى غير ذلك من العلوم التي إذا تم التعامل معها بهذه المنهجية المعرفية لدراسة القرآن المجيد، سوف نجد أنها كلها أجزاء من سورة معرفية جميلة موحدة يمكن ـ إن شاء الله ـ أن تعطينا الدافعية المطلوبة لكي نكون أمة لا تكون هملا، ولا تكون من سقط المتاع كما قال القائل.

نخلص من هذا كله، إلى أن العلم بطبيعة القرءان المجيد ووظيفته، يفضي إلى العلم بمستويات التعامل مع هذا الوحي الخاتم، مستويات القراءة، ومستويات التلاوة، ومستويات الترتيل فالتنزيل فالتقويم؛ وهي مستويات يفضي بعضها إلى بعض في تكاملية فذّة، كما يعصم من السقوط في النزول بالكلام الإلهي إلى مرتبة الكلام البشري، فالكلام الإلهي متعال عن الزمان والمكان، لذا وجب التعامل معه بمنهج مستمد من داخله يراعي طبيعته وخصائصه، فتنطلق بذلك القدرات التفسيرية كشفا عن مكنونات الكتاب الكريم عبر الزمن.

فالعلم بطبيعة القرءان المجيد وبمستوياته، يمكّن من الرؤية الكلية المؤطرة لحركة الإنسان فردا واجتماعا، سواء في علاقته مع ربه، أو مع كلام ربّه، أو مع نفسه، أو مع بني جنسه، أو مع محيطه، الرؤية الممكّنة من الإبصار للآيات والاستبصار بها. والتي تقوم وتنبني على أساسها المنهجية المعرفية القرآنية، بكل أبعادها ودلالتها.

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق