مركز الدراسات القرآنيةدراسات محكمة

قبسات من الوحي (12): وجهتا التصديق والهيمنة في القرآن الكريم

إن آلية التصديق والهيمنة في القرآن المجيد لها وجهتان:

الوجهة الأولى إزاء الكتب السالفة؛ فهناك تصديق لما صحّ من هذه الكتب ثم هيمنة عليها في تكامل تامّ معها. والوجهة الثانية إزاء ما يمور ويعتلج في حياة الناس وارتفاقاتهم من ممارسات وما هو مستقر فيها من أعراف. والتصديق في هذه الوجهة عبارة عن إقرار الصالح من كل ذلك بالسكوت عنه أو الثناء عليه، وتغيير الطالح بالحديث عنه وكشف مساوئه.

وتتم الهيمنة في القرآن الكريم في اتجاهات متعددة، وهي اتجاهات كلها تجاوزية غير إستاتيكية. وهي تجاوزية تتجلى من خلال التوسعة مع الاحتفاظ على كل القوة التي تستبطنها الحقائق الموسّعة، ويجري ذلك بطريقة متنامية، إذ بعد كل مرحلة من مراحل الهيمنة، يبنى على الحقائق الجديدة لكي تتم الهيمنة بها بدورها على مفاهيم وحقائق مستقرة أخرى وتتم توسعتها، لكي تشمل أبعادا أخرى لم تكن تشملها في مرحلة الخصوصية؛ لأن الوحي في المراحل السابقة عن نزول القرآن المجيد كانت له خصوصيته، إذ كان يُبعث الرسول النبي من أجل هداية الخلق وإرشادهم إلى الصواب ضمن السياقات التي يوجد فيها ووفق توازنات معينة.

فعيسى   -على سبيل المثال- يأتي في وقت قد غرقت فيه أمة بني إسرائيل وانغمست في العالم.( إذ الأمم دائما تتأرجح بين قطبين؛ قطب الرهبنة -أو الخروج من العالم- وقطب التكاثر والاستكثار -أو الغرق في العالم-) فجاء بهذه الدفقة الروحانية من أجل انتزاع وانتشال أمته وجذبها الشديد لتخليصها من هذا الانغماس، وقد كان أفق دعوته وهدايته   متسقا مع أزوف زمن بعثة نبي الختم  ، وظل هذا الأفق مفتوحا كما يتجلى ذلك في قوله تعالى: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾(الصف:6).

إذ هو   الرسول الذي سوف يُحدث التوازن المنشود. فنحن بصدد تخطيط وتصميم رباني يقوم على التكامل في الأدوار بين الأنبياء: الجذب من لدن عيسى   كان قويا جدا في انتظار رسول يأتي من بعده اسمه أحمد ليُحدث التوازن المطلوب. فبينما كانت اليهود لا تسجد لتكون صلاتها -تبعا لذلك- جلّها وقوفا، جاء عيسى   فنقلهم إلى السجود لتكتمل مظاهر العبادة مع مجيء الرسول المبشّر به أحمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي سيضيف الركوع إلى كل ذلك تصديقا وهيمنة.

إن تجاوز التأرجح بين هذين القطبين (قطب الرهبنة، وقطب التكاثر) يندرج ضمن مفهوم التوسعة الذي تتجلى من خلاله الهيمنة، وهو تجاوز يستكمل أبعاده ويتم، بإضافة مفهوم الميزان ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾(الرحمن:7-9)، وهو مفهوم نقف على سريانه في كل مفردات الأداء الحضاري الإسلامي من خلال تأطير وتوجيه رائعين بالآيات والأحاديث المتكاملة. تتم الهيمنة أيضا من خلال “الضبط التأويلي” بتحديد أصوله وقواعده، وتبيان موقع النص والعقل ودور الإنسان ومسؤولية العالم؛ حيث يقوم القرآن المجيد من خلال هذا الضبط بتنقية ما اعترى العقل الجماعي المسلم بسبب تسرب بعض ما كان في الأمم السابقة بفعل التداخلات التي تقع من الناحية المفاهيمية والانكسارات المعرفية التي تحصل تحت تأثيرات اجتماعية أنثروبولوجية وأخرى تاريخية.

كما نجد أن الهيمنة في القرآن المجيد تتجلى من خلال فتح المفهوم، وفتح المعتقد بطريقة تجعلهما مستمرين شاملين مستوعبين لكل عصر ولكل مصر؛ فتلتقي الهيمنة بهذا المعنى مع خصيصة الشمول والاستيعاب في القرآن الكريم.

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق