مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

قال القاضي أبو الفضل عياض رضي الله تعالى عنه:

                   “التحيل في إسقاط الزكاة بعد وجوبها عند رأس الحول، ينقلها عن ملكه ظاهراً بما يواطىء عليه غيره، ليصرفها عليه بعد الحول، وهي طهرة الأموال ودليل صحة الإيمان كما قال عليه السلام: (الصدقة برهان) وسد خلة الضعفاء،
         ونهى الشرع عن التحيل فيها بالتفريق والتجميع، ونهى عن الخداع والخلابة. فهل في القائل بها في هاتين القاعدتين بعهدها أو طابق عمله المعنى الموصوف له في الشرع وحكمها؟. كذلك نهى عن شرب الخمر، وعلل ذلك بإيقاع العداوة أو البغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وقد فهمت الصحابة لأول ورود الآية المعنى فحملوه على العموم.

         وقال النبي صلى الله عليه وسلم (كل مسكر حرام، وكل خمر حرام).

فمن فرق من الكوفيين بين نيء العنب ومطبوخه وسائر المسكرات، وأباحها ما لم تبلغ بشاربها عدم التمييز خالف الأصلين، وخرم قاعدة الشرع في الفصلين، ثم ننظر في الفروج فنتيقن أن حكمة الله في تحصينها وضع أعظم الحدود وأشنعها لمؤثر السفاح على ما أبيح له منها بالنكاح، والملك على الوجوه التي قيدها الشرع لصلاح هذا الخلق وبقاء التمييز والمعارف لهذا النسل، فمن رأى أن الاستئجار على الزنا مسقط للحدود الموضوعة فيه، وأن الزاني بأجيرته للخدمة لا حد عليه، وكذلك اللائط بالذكران، وهو أفحش الفواحش لا حد فيه، بل يعزر على قوله، وقول أهل الظاهر، فد ناقض موضوع الشرع وحل رباط هذا الأصل. كذلك حرم الله الدماء والأعراض أشد التحريم، وفرض على المتعدين فيها الحد والعذاب الأليم، وحمى الأموال على أربابها إلا بحقها، وحد القطع على سارقها، والقتل على المحارب بسببها، فهل قوله أيضاً بإسقاط الحد على سارق كل رطب من الأطعمة حتى لو بقيت قطرة عسل أو ماء في جب ذهب فسرقه سارق لم يقطع لأجلها؟.

وكذلك إسقاطه ذلك عن سارق كل ما أصله الإباحة من الجواهر الخطيرة. ومستخرجات المعادن الثمينة، وملتقطات البحر النفيسة، وإسقاط القطع عن النباش لأكفان الموتى فاتح غلق الصيانة للأموال، ومسهل التوصل إلى التعدي على الكثير منها دون خوف كبير نكال، لا سيما على مذهبه ومذهب داود في تخفيف التعزير، واقتصارهما من ذلك على الخفيف اليسير. وكذلك قوله: إن من تعدى على ثياب رجل فأفسدها أو شياهه فذبحها وطبخها، فقد صارت له أموالاً وملكها، ولزمت ذمته قيمتها لربها على رغمه مع وجود عينها، وإن كان عديماً حتى جد، غير مراع  نهي الشرع عن العدوان، والتمادي على اغتصاب الأموال، وتسويغ إخراجها من أيدي أربابها دون أثمان. ثم جعل الله في القصاص حياة وردعاً للمعتدين. وأبو حنيفة يقول إن من قتل الخلائق بغير محدد الحديد من التغريق والتحريق والتخنيق وسقي السم وغير ذلك من أنواع الاجتراء والظلم، لا يقتص منه فقد اجتثت هذا الأصل، وبسط أيدي المجرمين على أشنع ضروب القتل، آمنين من القصاص على هذا الفعل. كذلك الأعراض حصنت حوزتها وصينت حرمتها بحدود المفترين، فالشافعي الذي لا يرى الحد بالتعريض المفهوم والخفي، يرى أن جماعة من الفساق المجاهرين، عدد شهود الوفاء فأكثر، لو جاءوا مجيء الشهادة مجالس الحكام، وصرحوا بقذف أفضل الأنام، لم يلزمهم حد لمقامهم هذا المقام.
فهل يعجز كل فاسق جريء عن هتك عرض كل مسلم بريء بأنواع التعاريض القبيحة، أو بأداء الشهادة مع أمثاله على رؤوس الملأ بالفواحش الصريحة، وهم يتوصلون وإن لم تقبل شهادتهم بأمانهم من الحد إلى تمزيق الأدم الصحيحة. ولا خفاء، بأن حكمة الله في نصب الحكم والقضاء، تحقيق الحق وإبطال الباطل بحكم الدلائل الظاهرة، وقطع المنازعة والمشاجرة، وحكمهم بذلك ماض وبواطن الأمور إلى الله تعالى. ومن خادع الله فإنما يخادع نفسه، ومحال تغيير حكم البشر في الباطن، حكم الله وحكمته، لقوله عليه السلام:(إنا معشر الأنبياء إنما نحكم بالظواهر، والله يتولى السرائر) ويروى: (والله يتولى البواطن) وفي رواية: (إنما أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر) وقد قال عليه السلام: (لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار). فأبو حنيفة الذي يرى أن القاضي بشهادة شهداء الزور في نكاح امرأة وانتقال ملك يحل للمشهود له الراشي لهم على الشهادة وطء ذلك الفرج، وأكل ذلك المال سراً أو علناً ظاهراً وباطناً.وهو يعلم تحريمه عليه وباطل نسبته إليه، وكذلك قال فيمن غصب جارية وادعى أنها ماتت فحكم عليه بقيمتها ثم أظهرها أنها قد طابت وحلت له. وكذلك لو تحيلت امرأة عنده بشاهدي زور على طلاق زوجها فقضى بذلك القاضي حل لها غيره من الأزواج ولو كان أحد الشاهدين. فأين هذا وفقكم الله من المفهوم من مراد الشارع ومقصده بتغليظ الزجر لاستحلال الفروج بغير حقها والمنع. هل يتعذر على الفساق بهذا، الوصول إلى شهواتهم فيمن امتنع عليهم من المحصنات أو حظر عليهم من الشهوات؟ نسأل الله توفيقاً يعصم ولا يصم برحمته. وهذا وفقكم الله خمس ترجيحات كلها توجب اليقين وتوضح الحق المبين، وترغم آثاف المتعصبين، وحسب الناظر في هذا الاعتبار الأخير حسن التأمل أولاً وإجمال التأويل آخراً، فلم نرم به التسبب لنقص أحد من الأئمة ولا التسلق على عرض سلف الأمة. لكنا عرفنا الحق وأهله، ولم ننكر لكل مع ذلك تقدمه وفضله.والسعيد من عدت عثراته.

ومن ذا الذي يعطي الكمال فيكمل”.

    ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض،    تحقيق: د. علي عمر، الطبعة الأولى 1430هـ- 2009، دار الأمان، 1/84.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق