مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

قالوا في صحيح البخاري

قال ناصر الدين أحمد بن محمد المعروف بابن المنير الاسكندري (683هـ):

“فلما قدّر لي أن أتصفّحها وأتلمّحها، لاح لي عن قرب وكثب مغزاه فيها، فألفيتها أنواعاً: منها ما يتناوله الحديث بنصه أو ظاهره وهذه هي الجلية. ومنها ما يتناوله أي يصدق عليه بإطلاقه والأصل نفي القيود. ومنها ما يكون ثبوت الحكم فيه بطريق الأولى بالنسبة إلى المنصوصة. ومنها ما يكون حكم الترجمة فيه مقيساً على حكم الحديث قياساً مساوياً. وقد يعن له نص الترجمة فيعدل عنه اكتفاء بظهوره، ويعمد إلى حديث آخر تتلقى منه الترجمة بطريق خفي لطيف فيذكره. ومنها ما لا ذكر له في الحديث الذي أثبته، لكن يكون الحديث ذا طرق أثبته من بعضها لموافقة شرط الكتاب، ولم يثبته من الطريق الموافقة للترجمة لخلل شرطها، فيأتي بالزيادة التي لم توافق شرطه في الترجمة، وربما أتى بها في صيغة التعليل كحديث وقع له في ‘اللقطة ‘. وقد بيّنه في بعض التراجم على مواضع الخلاف. وقد يترجم على صورة ويورد فيها الأحاديث المتعارضة، ثم قد بينه على الجمع إن سنح له، وقد يكتفي بصورة المعارضة تنبيهاً على أن المسألة اجتهادية.

 ومما يستغربونه من تراجمه أن يضمن الترجمة ما لم تجر العادة بذكره في كتب الفقه، كترجمته على أكل الجمار، فيظن أن هذا لا يحتاج إلى إثباته بدليل خاص، لأنه على أصل الإباحة كغيره، لكن لحظ هو فيه أنه ربما يتخيل أن تجمير النخل إفساد وتضييع للمال، فنبه على بطلان هذا الوهم إن سبق إليه أحد. قلت: – رضي الله عنك! – وقد سبق الوهم إلى بعض المعاصرين فانتقد على من جمّر نخلة واحدة بعد أخرى ليقتات بالجمار تحرجاً وتورعاً مما في أيدي الناس لما عدم قوته المعتاد في بعض الأحيان. وزعم هذا المعترض إن هذا إفساد خاص للمال وفساد عام في المال. وربما يلحقه بنهي مالك -رحمه الله- عن بيع التمر قبل زهوه على القطع إذا كثر ذلك، لأن فيه تسبباً إلى تقليل الأقوات. فلما وقفت على ترجمة البخارى ظهرت لي كرامته بعد ثلاث مائة سنة ونيف رحمه الله. وله أمثال هذه الترجمة كثيرة ومجموع ما وجدت له من هذه الأنواع قريب أربع مائة ترجمة تحتاج التنبيه، فأثبتّها ونبهت على كل نوع منها في مكانه بأقصى الإمكان، وأخصر وجوه البيان. وكأنه -رحمه الله- تحرج أن يصنف في الفقه على نعت التصانيف المشحونة بالوقائع التي عسى كثير منها لم يقع، فيدخل في حيز المتكلف الذي هدّد بأنه لا يعان على الصواب، ولا يفتح له باب الحق في الجواب. كما نقل عن مالك -رحمه الله- أنه كان يكره أن يجيب عن مسألة لم تقع ويعتقد أن الضرورة إلى الجواب خليقة بأن يرحم صاحبها بالعثور على الصواب، وأن تكلف الجواب عما لم يقع تصنع أو في معناه، يتحرج الخائف من الله من أدناه. ودعوة المضطر لها خصوصية بالإجابة، وحالة الاختيار تستغرب معها أوصاف الإنابة. فهذا -والله أعلم- سر كون البخارى -رحمه الله- ساق الفقه في التراجم سياقة المخلص للسنن المحضة عن المزاحم المستثير لفوائد الأحاديث من مكامنها، المستبين من إشارات ظواهرها مغازي بواطنها. فجمع كتابه العلمين والخيرين الجمين. فحاز كتابه من السنة جلالتها ومن المسائل الفقهية سلالتها. وهذا عوض ساعده عليه التوفيق، ومذهب في التحقيق دقيق”.

المتواري على تراجم أبواب البخاري، الجزء1 من الصفحة37إلى 39، تحقيق صلاح الدين مقبول أحمد، مكتبة المعلا الكويت 1407هـ/1987م،

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق