مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

قالوا في الموطأ 5

يقول السيد محمد بن علوي المالكي الحسني -رحمه الله- 

   «ومما سبق تقريره: يظهر لنا أن الشيخ الشنقيطي بنى قوله بترجيح تصحيح كل ما في “الموطأ” وعدم نزوله عن درجة “الصحيحين” على أمور:

الأول : أن “الموطأ” مثل “البخاري” في اشتمال كل منهما على رأي صاحبه ونظره.

الثاني: أن “الموطأ” مثل “البخاري” في اشتمال كل منهما على ما يُنافي الاتصال من معلق ومرسل، ومنقطع، وبلاغ.

الثالث: أن معلقات “البخاري” إن كانت محذوفة الأسانيد قصدا، فإن بلاغات مالك موصولة من طرق أخرى.

الرابع: أنه إن سلمنا بوجود الضعيف في “الموطأ” فإنه أيضا يوجد في “البخاري”، كما أقر ابن حجر نفسه بذلك.

الخامس: إن ما في “الموطأ” من الموصول تضمنه “الصحيحان”؛ إلا ندورا.

السادس: أنه ثبت رجوع ابن حجر عن قوله الأول، كما نُقل ذلك عنه.

فهذه ستة أمور تؤخذ من كلام الشنقيطي؛ تؤيد مساواة “الموطأ” لـ “الصحيحين”.

وأزيد عليها بعض ما ظهر لي في هذا الباب، مما يتصل بهذه الأدلة:

 السابع : أن العلماء ذكروا من شروط الصحة المعتبرة الاتصال، وهذا أمر ثابت في كتب المصطلح، فكل ما ينافيه لا يكون صحيحا، ومن جملة ذلك: المعلق، ولذا فهو يعتبر من أقسام الضعيف، ومحكوم عليه بالضعف.

وهذا لا اختلاف فيه بينهم، ولكن لما جاءت هذه المعلقات في كتاب التزم صاحبه الصحة واشترطها على نفسه؛ اكتسبت من هذه المجاورة مزية جعلت العلماء لا يتفقون على الحكم بضعفها كما حكموا على أمثالها في المواضع الأخرى بالضعف.

وتلك هي المعلقات التي في “الصحيحين”، وهي في “البخاري” أكثر، فالأصل أنها ضعيفة كغيرها، لأنها من أقسام: المعلق، وهو ضعيف، لكن لما وردت في كتاب كــ”البخاري” الذي التُزمت فيه الصحة؛ لم يطلق العلماء عليها الحكم بالضعف لمجرد التعليق، بل فصلوا فقالوا: ما جاء في صيغة الجزم؛ فهو صحيح، وما جاء بغير ذلك؛ فينظر من أخرجه. ويحتمل حينئذ الصحة والضعف بحسب ما يظهر من أسانيده ودرجتها.

ولا شك؛ أن ما في “الموطأ” من المعلقات وغيرها أولى بهذا الحكم، مراعاة لقيمة الكتاب الذي وردت فيه، وشهرة التزامه الصحة، واعتنائه بذلك في الدرجة الأولى، والمرتبة العليا التي لا يختلف فيها أحد.

 الثامن: أن البخاري اشترط اللقاء، ولم يشترطه مسلم الذي يرى أن عدم النص على اللقاء؛ لا يوجب رد الحديث، فما قال أحد بأن “صحيح مسلم” ليس بصحيح لرأيه هذا، بل تقبلوه قبولا حسنا مراعاة لشرطه الأصلي وهو التزام الصحة.

وكذلك يرى مالك أن الانقطاع ليس قادحا في السند، فينبغي أن يتقبل رأيه هذا أيضا؛ مراعاة لما هو معروف من التزامه الصحة.

التاسع: أن هذه القواعد والمصطلحات التي قدروا بها “الموطأ” ووزنوه بها إنما اتفقوا عليها بعد “الموطأ”، وهو سابق على وضعها المعروف الذي راعاه أهل المصنفات الصحيحة وعلى رأسهم البخاري، فلا ينبغي أن تخضع “الموطأ” –وهو كتاب متقدم- لقواعد جديدة جاءت بعده ومتأخرة عنه، وهذا الذي ينشرح له الصدر وتطمئن إليه النفس، وهو الذي أقول به إن شاء الله تعالى.

لذلك؛ فإن من قال بمساواة “الموطأ” “للبخاري” في الصحة، فقد سلك سبيل الصواب. ومن خاف نزول البخاري عن منقبة أولية التأليف في الصحيح، فقال بعدم صحته كله؛ فقد تعدى وحكم حكما جنفا لا يليق، وهل يرضى العقلاء من الناس برد صحة “الموطأ” لأجل إثبات مزية أو منقبة لـ”صحيح البخاري” لا دخل لها في صلب الكتاب، فهو – أي “البخاري”- صحيح سواء أكان مسبوقا أم سابقا.

قال الدكتور الحُسيني معلقا على هذه المسألة: «إن أمر مشكلة الأولية فيما ألف في الصحيح أهو: “الموطأ” أو “صحيح البخاري”، ليس بالأمر الخطير الذي نستبيح من أجله أن نُنحي سمة الصحة عن “موطأ مالك”؛ لكي نثبت للبخاري أولية التأليف للصحيح» اهـ.

أقول: ويجب أن تقتصر المقارنة، وبحث التفاضل بين هذين الكتابين الذي بسطت الكلام فيه سابقا مجاراة للعلماء.

أقول: يجب أن تقتصر المقارنة على أيهما أصح فقط، ولا ينبغي أن تتعدى إلى أيهما صحيح؟ وأيهما غير صحيح؟

وقد لا حظ النووي رحمه الله هذا المعنى – أي تساويهما في الصحة- فسلك سبيل الجمع في نسبة أولية التأليف في الصحيح للكتابين، فقال – كما نقلته عنه سابقا-:

 «أول من ألف في الصحيح المجرد البخاري»، أي أن “الموطأ” أول كتاب صنف في الصحيح المختلط مع غيره.

و”صحيح البخاري” أول كتاب صنف في الصحيح المجرد، ولكنه لم يسلم من اعتراض ونقد.

ويمكن أن يقال أيضا: إن “الموطأ” أول كتاب صنف في الصحيح على غير القواعد والأصول المصطلح عليها، لأنه كان قبل تحريرها وظهورها على هذا الشكل، وإن “صحيح البخاري” أول كتاب صنف في الصحيح على القواعد والأصول المصطلح عليها، لأنه كان بعد تحريرها وظهورها على هذا النمط، والله أعلم.»

“فضل الموطأ وعناية الأمة الإسلامية به”، ص147 وما يليها، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الثانية 1429هـ -2008م.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق