في الترابط النصي: مقدمة في تقريب لسانيات النص القرآني (1)
﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [ البقرة: ٣٢]
اللُّغة هي الموضوع الأوّل للِّسانيات، لكن كيفيات النظر إلى اللُّغة ودراستها أو فحصها هو جدار تشكل المباحث اللسانية واتجاهاتها، ومنها لسانيات النّصّ Text Linguistics التي يعود الاهتمام بها من باب الاهتمام ببنية النَّصّ بصفة عامة، وتوجّه الاهتمام إلى معايير بنائه بصفة خاصَّة، وذلك منذ الأعمال التي نُشرت لفرديناند دِي سوسير (1857-1913) وما تلتها من اجتهادات حلقتي «كوبنهاجن » و « براغ » اللغويتين؛ فقد لُوحظ بداية أن الدِّراسات اللُّغوية كانَت تعكفُ على نحو الجملة (كانت الدراسات اللسانية البنيوية تُعْنى بدراسة الأصوات ودراسة الكلمات أيضاً)، بعَدِّها الوحدة الصُّغرى من مُستويات اللُّغة، فتهمل بطريقة أو بأخرى النَّص، بل إنّ هذه الدراسات اللُّغوية لم تخرج عن الجملة قط إلاّ فيما ندر، أي في « إشارات إلى العلاقات الدلالية العميقة التي تربط بين الجمل و[متوالياتها]، كما أن كثيرًا من الظواهر التركيبية لم تفسّر في إطار الجملة تفسيرًا كافيًا مقنعًا، وأنه ربما تغير الحال، إذ اتجه الوصف إلى الحكم على هذه الظواهر في إطار وحدة أكبر من الجملة، وتلك الوحدة هي النص1. هكذا تركزت الدراسات اللغوية على مستوى النّصّ من دون أن تهملَ البحث في مستوى الجملة، والهدف هو توسيع العمل اللغوي والخروج من الضيق الذي تتبعته معظم الاتجاهات البنيوية والتوليدية تقريبًا 2.
في هذا السياق انبثقت كثير من الأسئلة الفاحصة لـــمَسِير تقدُّم اللِّسانيات النَّصية أو ما بات يعرفُ منذ البدء بلسانيات النّصّ، من قبيل: هل لهذه اللسانيات من جذور أو إرهاصات أُولى قبل تأسسها في سبعينيات القرن العشرين، وهل هي محصورة في جغرافية محددة بعينها، وما هي صلة لسانيات النص باللسانيات المعاصرة، وما هي مواقف علماء اللسانيات من قضية تجاوز لسانيات الجملة؟ ... وهلم كثرة من الأسئلة والإشكالات التي سيقت في هذا الصدد3، وهي تكشف عن تركب اللغة، سواء بوصفها ظاهرة أو مفهومًا أو غير ذلك! مما يجعل اللسانيات أو علوم اللغة دائمة التقدم المعرفي، من الانتقائية والاختزالية إلى التوسعية، بحيث سميت الأولى اللسانيات الضَّيِّقة أو المضيّقة Microlinguistics أما الثانية فسميت اللسانيات الموسَّعة Extended Linguistics التي تعدّ في تصور لويس هيلمسليف Louis Hjelmslev ( 1899-1965) كما يقول أحد الدّارسين: « النظرية الخاصة بجميع التجليات الفعلية أو الممكنة للغة الطبيعية. لقد فطن المشتغلون بعلوم اللسان إلى أنّ اللغة ليست مجرد نماذج وأنماط للجمل، ولكنها مرآة وأداة وسلاح، من ثمَّ فإنّ الفهم الحق لنظريتها لا يمكن أن يتحقق باجتزاء الجمل من السلوك القولي في شموليته وتكامله، والتزام حدود نحو الجملة » 4؛ فلم يعد علماء اللغة يقفون عند بنية اللغة فقط، بل تُجُوِّز ذلك إلى دراسة اللغة في صلتها بالمجتمع، أي البحث في المعنى السوسيولوجي للغة، فسميّ هذا المبحث باللسانيات الاجتماعية Social Linguistics ، كما اهتموا بدراسة اللغة في صلتها بالعِرق والثقافة، الأول تهتم به اللسانيات والثاني تهتم به الأنثروبولوجيا، فدمج العلمان في مبحث واحد هو اللسانيات العِرقية Ethnolinguistices، كما اهتموا بدراسة اللغة وصلتها بالنفس، وقرروا أن البنيات اللغوية يمكنُ اكتشافها بمناهج علم النفس، والتي تساعدُ على فهم القدرات النفسية والذهنية التي تدخل في تشكل اللغة. كما اهتموا بدراسة اللغة والتنوع الأسلوبي فيها، أي دراسة لغات النصوص الأدبية، وهو ما عرف بعلم الأسلوبية Stylistics 5. فما هي ميزة لسانيات النَّصّ في سياقات هذه العلوم والمباحث؟
ميزتها أنها أفادت من كل الاتجاهات السابقة، منهجًا ومعرفةً، ولكن أضافت إليها « ما يثبتُ نصية النص وبلاغة الخطاب، من غير أن يقتصر على المناهج التي كانت تجزئ النص ثم تقفُ عند الأجزاء فقط، فكل ما ساعدَ على تصور النص كيانًا لغويًا متعددَ المستَويات، مكونًا من أجزاء مترابطة، أو أنظمة متشابكة. فإنشاء علم النصوص هو المنهجُ الأنسبُ للخطاب المدروس؛ لأنه منهجٌ يستمد مادته وقوانينه ومفاهيمه من تشابك الأنظمة » 6.
غير أنّ الإشكال الذي يزيد من مهمة تحليلنا صعوبة، أننا هنا أمام لسانيات نشأت نظرياتها تطبيقًا على الأعجمية، ومسيرنا هنا يقف عند العربية، بل عند نصّ أُنزل بلسان عَربيّ مُبين، وهو النّصّ القرآنيّ، وهنا مفارقة معرفية، تلفتُ نظرنا إلى تجنب الإسقاط الذي وقعت فيه كثير من الدراسات التطبيقية؛ لأنها أخذت علم لغة النص ليس في مبناهُ النظري فحسب، ولكن في معناهُ التطبيقي أيضًا، من دون الأخذ بخصوصية اللغة العربية، بلاغة ونحوًا، مبنىَ ومعنىَ، ومن ثَم أضاعت عليها فرصة « فَهم أسرار النّصّ » 7. والحال، أننا من منطلق الإسهام الحضاري وتجسير روابطه، كان الأولى التَّفاعل مع تلك النَّظريات العلمية الإنسانية من جهة، وتذوق النَّص العربي البليغ من جهة ثانية؛ فكل نظرية لسانية وتطبيقاتها إنما أخذت بمعايير زمانها اللغوية والثقافية، أي إنها مُقيَّدة بعوامل إنتاجها، والأخطاء التي تحاولُ تجنبها. فما العمل أمام تحليل لسانيّ نصيّ للقرآن الكريم، قول الله العظيم، الذي ليس « بالقول العادي، ولا كقول أي قائل، وإنما هو قول خالق القائلين كلهم من أول الدنيا إلى أن تنصرم » 8
ولا شك أن مدخل اللِّسانيات النصية في النظر إلى القرآن المجِيد مدخل حديث، لكنه لا يقطع مع مداخل أخرى تنتمي إلى فنون اللغة، أو فنون القول، « حيث إنّ النظر في هذا القرآن المجيد من الزاوية البلاغية، نظر فيه شجون.
ولا شك أنّ الذي يقرأ القرآن المجيد من مدخل الجرْس أو من مَدخل الفَواصل، أو من مَدخل الاختصار، أو من مَدخل الالتفات، أو من أي مَبحث بَلاغي أو بَديعي أراد أن يدخل منه، سَوف يقضي العجب كيف أن الحرف يُرتّب، والكلمة ترتّب، والجملة ترتّب، والمعنى يرتّب، والسُّورة ترتّب، في نسقية مُعجزة، تزري بجمالية الماس الأصفى؛ لأن الأنوار التي تبثها هذه المفردات بحروفها، وبفواصلها لا يمكنُ أن يحيط بها وصف واصف أبدًا » 9. أمام هذه الجمالية الباهرة البديعة، يقفزُ إشكال نظريّ يزيد من مَهمة تحليلنا صعوبة؛ فإذا كنا هنا أمام لسانيات نصيّة نشأت نظرياتها تطبيقًا على الأعجمية، ومسيرنا هنا يقف متسائلا عند كَيفيات تطبيقات هذه النظرية على العربية، أليست هذه مُفارقة مَعرفية، أول ما يلفتُ نظرنا بعد ظُهورها هو تجنُّب الاسقاط الذي وقعت فيه كثير من الدراسات التطبيقية؛ لأنها أخذت النظريات النّصية ليس في مبناها النظري فحسب، ولكن في معناها التطبيقي أيضًا، من دون الأخذ بخصوصية اللغة العربية، بلاغة ونحوًا، مبنىً ومعنىً، وتكونُ من ثَمَّ قد أضاعت عليها فرصة « فَهم أسرار النّصّ ». والحال، أننا من منطلق الإسهام الحضاري وتجسير روابطه العِلمية، كان الأولى والأنفع، التَّفاعل مع تلك النَّظريات العلمية الإنسانية من جهة، عبر تذوق النَّص العربي البليغ من جهة ثانية، وبهذا يكون التعامل مع النظريات عن بصيرة؛ فكل نظرية لسانية ومعها تطبيقاتها إنما أخذت بمعايير زمانها، سواء على مستوى اللغوية أو الثقافية. إذا كان الأمر كذلك في اللغات الطبيعية والنصوص التي حوتها، فما العمل مثلا أمام تحليل لسانيّ نصّيّ للقرآن الكريم؟
سنحاولُ الإجابة عن السؤال السابق من خلال أنموذج الترابط النصيّ كما تصورته اللسانيات النصية، ومحاولة تقريب ذلك من فهم الترابط النَّصّي للبيان القرآني.
أما بيانُ ذلك فسنوضحه في الجزء الثاني ... و ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
1- د. عبد الله خضر محمد، لسانيات النص القرآني دراسة تطبيقية في الترابط النّصي، دار القلم للطباعة والنشر، لبنان، ط1، د.ت، ص 9
2- في هذا السياق تأتي أعمال العالم اللغوي الأمريكي زيليغ هاريس Zelling Harris ( 1909-1992)
3- لمزيد من التفصيل يرجى العودة إلى عزمي محمد عيال سلمان، لسانيات النص وتحليل الخطاب، النشأة والتطور، دار كنوز المعرفة، عمان، الأردن، ط1، 2020.
4- د. عبد الله خضر محمد، لسانيات النص وتحليل الخطاب، مرجع سابق، ص 23.
5- لمزيد من التفصيل ينظر: محمد محمد يونس علي، مدخل إلى اللسانيات، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، ط1، 2004، ص 21- 24. هذا التناول المعرفي للغة نجدُ له تأويلا فلسفيًا معاصرًا لدى الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر عندما عرّف اللغة بكونها مسكَنُ الكائن.
6- عبد الرحمن بودرع، في لسانيات النص وتحليل الخطاب: نحو قراءة لسانية في البناء النصيّ للقرآن الكريم، بحث مقدم للمؤتمر الدولي لتطوير الدراسات القرآنية، كرسي القرآن الكريم وعلومه، جامعة الملك سعود، 1434/4/6 – 2013/ 2/ 16، ص 11.
7- د.عبد الرحمن بودرع، المرجع نفسه، ص 12.
8- د. أحمد عبادي، النموذج التوحيدي للمعرفة وقضايا التأويل، مجلة التأويل، العدد 05/06، الرابطة المحمدية للعلماء، الرباط، يونيو 2020، ص 17
9- د. أحمد عبادي، النموذج التوحيدي للمعرفة وقضايا التأويل، المرجع نفسه، ص 17- 18
تعليق واحد