مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

في الترابط النصي: مقدمة في تقريب لسانيات النّصّ القرآنيّ (3)

* « بعد الوعي يكون البيان »توقفنا في المقالة السابقة عند السؤال التالي: هل هذه التحديدات للنص تنطبق على مفهوم النص القرآني؟بمعنى آخر: هل تحديد مفهوم النص انطلاقًا من نصوص بشرية يسري على مفهوم النص القرآني؟ مثلا: هل تحديدنا للنص الروائي أو النص الشعري أو النصّ الفلسفي هو نفسه النص القرآني؟ أليست هناك خصوصيات تميز النصين معًا؟النص القرآني: الوحي، النظم المترابط الأكبر، النّصّ الأعلىإن تحديد مفهوم صاف للنّصّ القرآني يحتاج منا إلى فطرة سليمة، وعقل سليم غير الذي يُسقطُ تحديدات النُّصوص بعضها على بعض من دون تمييز بين طبيعة النّصوص أو إحكام مصدرها؛ وهل يُحسن العقل المخلوط التمييز بين براديغمات بشرية وأخرى وَحْيَانية أم هل يتيسَّر له التمكين في فتح مغالق النَّصّ الكريم؟وقبل تحديدنا لمفهوم النص القرآني، لا بدّ من تسجيل المسلَّمَة الآتية:
  • النَّصّ القرآني وَحي من الله تعالى، الحيّ الذي لا يموت، المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بواسطة سيدنا جبريل عليه السلام، وهو المنقول بالتواتر، المكتوب في المصحف، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، والمختوم بسورة الناس.
هذا التحديد الوَحيانيّ للنّصّ أعلى من كل تحديد يمكنُ أن يَصف النَّصّ القرآني أو يقرِّب فهمه، وكل التحديدات أو المفهومات التي تريد حصر معنى النَّصّ القرآني وجبَ اقتباسها من مشكاته، قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴾ ‎﴿النجم: ٤﴾‏فكيف يمكن أن نضع تحديدًا لمفهوم النّصّ القرآني من زاوية نظر ما سمي بلسانيات النّصِّ القرآني من دون أن نخالف هذه المسلمة؟إنّ النظر إلى النّصّ القرآني بوصفه وحيًا، يجعنا نسير مع مسلمة أخرى، وهي النظر إليه بوصفه نصًا معجزًا؛ ومن مظاهر إعجاز القرآن لغته، بالإضافة إلى أنّ « أنباء الغيب فِيه وأخبار الأمم السَّابقة، وما حواه القرآن من إعجاز علمي وتشريع محكم دقيق صالح لكل زمان ومكان » (1). لكن في معرض حديثنا عن لسانيات النَّصّ القرآني سنقِف عِند لُغة القرآن الكريم التي أعجَزت العَرب وهم في الفصاحَة فُرسان، وفي البلاغة رجال. ومن ثم يبقى السؤال كيف نحدد النّصّ القرآني  ويليق بفصاحته العظيمة وبلاغته العالية من جهة، وتحديدًا يليق بعِلمية اللِّسانيَّات النَّصية من جهة ثانية، عسى أن ينفتح الفهم على مقصودنا من: لسانيات النَّصَّ القرآني؟ما نراهُ مناسبًا لهذا التحديد هو الانطلاق من مُلاحظات أو مُقترحات عسى أن نتفكر التفكر المناسب في النّصّ القرآني من منظور لسانيات النّصّ؛ لأن ما نقترحه هنا بوصفه مفهومًا للنّصّ لا يسيرُ على جميع العلوم التي اهتمت بتحليل النّصّ القرآني وتأويله؛ فعلماء الاجتماع – مثلا-  نظرتهم إلى النَّص القرآني غير نظرة علماء النفس، أو علماء أصول الدين، أو علماء الفقه، أو علماء التزكية أو العارفين بالله ..إلخ. وأما الجمع بين كل تلك العلوم فهو التحقيق عينه ﴿ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‎﴾ ﴿الجمعة: ٤﴾‏ولن نستطيع تحديد مفهوم للنَّصِّ القرآنيّ يوصف بأنه « جامع مانع » إلاّ بمعرفة هذا القصور العقلي أمام النَّصِّ الإلهي المقدَّس؛ فالقرآن كلام الله تعالى، لا تستطيع قوة مهما عَلَا عِلمها أو فهمها أو سلطان عقلها وَصْفه أو حصره أو تحديده أو الإحاطة به؛ ومهما رسخ علم العلماء، وسال مداد المحابر، ففي النهاية هو تعريف بشريّ، معرض للنسيان والخطأ والنقص وغيرهما.والحكمة من عدم الإحاطة بمفهوم جامع مانع للنّصّ القرآني ترك أبواب الاجتهاد مفتوحة، وكما قال أحمد ابن عجيبة عن الآيات المتشابهات من أن مقصودها لا يتضح إلاّ بـــ « الفحص وجودة الفكر، ليظهر فضل العلماء النُقاد، ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها واستنباط المراد بها، فينال بها، وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها، والتوفيق بينها وبين المحكمات، أعلى الدرجات وأرفع المقامات ».وأما الملاحظات فيمكن تداركها، ومنها الآتي:
  • النص القرآني واحد متعدد؛ فهو نص يتضمن نصوصًا، يصِل بعضُهَا بعضًا، ليس في مستوى السورة الواحدة أو الجزء الواحد أو الحزب الواحد أو نصف الحزب أو الربع أو الثمن فقط، ولكن في السُّوَر كلّها، حتى ليمكننا أن نؤكد أن القرآن الكريم لهوَ النصّ المُترابط الأكبر، مَبنى ومعنى ورُوحًا. فما معنى ذلك؟ وهل هذا التعريف يفيد أن السُّورة نصّ مترابط أصغر أو أوسط أو غير ذلك أو غير ذلك من « القياسات »؟
إنّا نؤمن حق اليقين أن نصوصَ القرآن الكريم كلَّها كُبرى، وإن كانت بعض سوره من ناحية الحجم قَصيرة، ومع ذلك لن نقول إنها نصوص صُغرى، بل إنّ وصف الآيات بالقصيرة لا يجوز في حق القرآن الكريم، حِسًا أو معنى، إلاّ إذا كان تعبيرًا متجوزًا، ولكل فهمٌ وشراب، قال تعالى: ﴿ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ﴾ ‎﴿البقرة: ٦٠﴾‏. وإن كانت في اللسانيات توصيفات لبنيات لغوية بالصغرى فلا يجوز ذلك في حق كلام الله تعالى الذي لو أُنزِل على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله، قال تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ ‎﴿الحشر: ٢١﴾‏، « وكما أنّ الله تعالى موجود لا كالموجودات معلوم لا كالمعلومات، فكذلك كلامه لا  كالكلام » من ثمة لا يجوز وصفه بما يوصف كلام البشر، وإن لم يكن بدّ من وصف له فهو «كلام الله تعالى وصفته العالية » (2). وأما إن مُهّدت الطريق للسانيات النص القرآني وتأويلاته فهي من فهوم العبارة، وما يقتضيه اللفظ القرآني فقط، أما الغوصُ في بحور معانيه المديدة فيؤذنُ لمن « أشرقت على قلبه الشُّموس العرفانيّة، حتى يكون ذا همة عالية، وبصيرة نافذة، فإن لم يكن هكذا، كان حظه من التفسير القشر الظاهر، وأما لبّ القرآن، فلا يشم له رائحة، لأن معاني القرآن لا تنكشف إلاّ لقلب صفت مرآته من الصّدأ »(3) ، وهنا لا يتعلق الأمر بالعبارة ولا باللفظ، وإنما بالمقاصد السَّنية التي أنزل من أجلها القرآن الكريم، ومن جملتها الرحمة للعالمين.بناء على ما سبق نقول: إنّ النص القرآنيّ آيات ثقيلة مُبِينَة، مهما اختلفت من جهة «الإيجاز» فهي نصّ أكبر، مَبنى ومعنًى ورُوحًا، أو إن شئت قلتَ إن القرآن الكريم هو النَّص المُترابط الأكبر أو هو النظم المُترابط الأكبر.
  • وزن آيات القرآن الكريم وسُوره لا يسير بمنطق الحَجم، أو أي منطق بشري آخر؛ فالطول والقصر يُحتجّ بهما في المسافات مثلا، بينما القرآن الكريم لا مسافة تحيط به، وإلا كيف يمكنُ أن نحيط بعلم القرآن المجيد وهو من كلمات الله التَّامات، قال تعالى: ﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ ‎﴿الكهف: ١٠٩﴾ وفي معنى هذه الآية يقول سيدي أحمد ابن عجيبة الحسني: « لأن البحار متناهية، وكلمات الله غير متناهية [ ..] فما دخلَ عالمَ التكوينِ كلُّه متناهٍ » والقرآن الكريم كلمات الله التَّامَّات، وبين التناهي واللاَّتناهي تضيع كثير من الأفهام، وتقبح كثير من تصورات الأنام؛ بينما القرآن الكريم ليس من عالم التكوين، بل هو كلام الـــمُكوِّن؛ مكون الأكوان كلّها.
  • وقول الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ‎﴿لقمان: ٢٧﴾‏ يفيدُ أنّ القرآن المجيد لا تحيط به أمِدَّةُ البحور المديدة، وهذه تحدِّيات إلهية رحمانية(4) تبين أن القرآن الكريم لا خلل فيه ولا تناقض، وأنّ نظمه من أسرار إعجازه، أو قل إنّ من أسرار إعجازه صياغته وتركيبه،ولكُل واحدة منهما « خاصية داخلية كامنة في ثنايا النص تنبع من تركيبه اللغوي، وكيفية تناسق عباراته وتوحيدها لتأدية غرض أساس هو توحيد الله تعالى وتخصيصه بالعبودية »(5) قال الله عز وجل: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ‎﴾﴿الإسراء: ٨٨﴾‏
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ‎﴾﴿هود: ١٣﴾‏، ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ‎﴿يونس: ٣٨﴾‏، ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾‎﴿البقرة: ٢٣﴾‏، ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ‎﴾﴿الطور: ٣٤﴾‏.
  • أما الملاحظة الأخيرة فتقف عند بعض الآراء التي يمكنُ أن تعترض على ما قلناه سابقًا من أننا لم ندرج بعض « الاجتهادات » التي تناولت النّصّ القرآني من باب اللسانيات أو من باب تحليل الخطاب. والحال أننا لم نأخذ بذلك لسببين اثنين، أعرضهما هنا بإيجاز:
  • الأول: كثير من الدارسين للقرآن الكريم سقط في خطأ منهجي يتعلق بتطبيق نظريات تحليلية خِطابية أو هيرمنيوطيقية في تحديد مفهوم النص،كنصر حامد أبي زيد الذي خلص إلى أن القرآن الكريم منتوج ثقافي(6) رغم كونه لم ينف - بطريقة ما - إلهية النص القرآني؛ وقد لمسنا في هذا التحديد بُعدَه عن وحيانية النص القرآني المحضة، وقرب مفهوم الثقافة من الإنتاجات البشرية التي يمكنُ أن تسقط في الاستهلاك المادي، كما هو حال استهلاك الصورة الإشهارية مثلا، بالإضافة إلى أن هذا التصور جعل النص القرآني « نصًا لغوياً مثله مثل أي نص بشري [..] تمَّ إنتاجه وفقًا لمقتضيات الثقافة التي تنتمي إليها لغته » (7). لذلك لم نقل عنه إنه نص لغوي، بل أكدنا على أنه وحي بداية، وأنه هو النّصّ الأكبر. مما يكسبنا مبدأ منهجيًا يتصل بالاستيثاق (8) عند تحديد مفهوم النص القرآني؛ أي التوثيق وكسب الثقة لا من الشخص في حد ذاته فقط، بل من حيث قوله الذي يقوله أيضًا. وقد يظن ظان أن الشرط الأول في الاستِيثاق يتصل بــ« مغالطة رجل القش » فنقول إنّ هذه المغالطة نفسها نابعة من تطبيقات على نصوص بشرية لا وَحيانية، خاصة في جانبها الأيديولوجي. أما الشرط الثاني فقد يُعترض عليه بكونه يدخل في باب حرية البحث العلمي، فنقول إنّ هذه الحرية تقابلها حرية أخرى هي حرية النقد، خاصة أن قول نصر حامد أبي زيد يَغرفُ من معين التحديدات البشرية للنص عندما يقول بأن النَّصّ القرآني منتوج ثقافي، فيسقطُ بذلك في نسبية النص لا في كماله؛ لأنه إن قلنا عن النّصّ إنه نسبي فهذا يعني أن فهمه لا يكون « إلاّ بالرجوع إلى هذا المجال الثقافيّ الخاص »(9)، وهنا « ينزل من رتبة التعلق بالمطلق إلى رتبة التعلق بالنِّسبي »(10)، والحال أن نظم القرآن أكبر؛ « فليس له مثال يحتذى عليه، ولا إمام يقتدى به، ولا يصحّ وقوع مثله اتفاقًا »(11).
  • الثاني: أن تركيز علماء الإسلام يكون على مضمون النص القرآني، والمضمون ليس تبليغًا فقط، بل فيه استدلال وتوجيه أيضًا، وبالتالي فهو يجمع بين المضمون والمنهج؛ ومن مضمون النص القرآني يمكنُ أن تُستنبط مناهج في لسانيات النّص القرآني، وليس منهجًا واحدًا فقط، والأهم من كل هذه المناهج أن تُصانَ قدسية القرآن الكريم، ويسلم بحقيقة قُدسية نَصِّية القرآن الكريم؛ فمن هنا ينطلق الإبداع، ويُرزق النَّاظر « علم الخائفين »(12).
الترابط النصيّ وأنواعه:قبل تحليل مستويات الترابط النصي وأنواعه ومناقشتها، أرى أنه من المفيد منهجيًا أن نذكِّر بالآتي:
  • كل تصنيف شكلي للغة يندرجُ تحت مسمى النحو Syntax؛ حيث يختصّ هذا الأخير « بالصور المجردة للجمل التي تشترطها قواعد اللغة Grammar بقطع النظر عن سياق الموقف Context » (13) .
  • كل مناحي المعنى في اللغة تندرج تحت مفهوم الدلالة Semantics؛ حيث تختص هذه الأخيرة بالعلاقات بين العلامات والرموز وما تشير إليه أو تَعنِيه [..] إن جملة العلامات والرموز وبيان معانيها يشتمل عليها المعجم Lexicon فإذا حدِّدت مُفردات المعجم بحسب مضامينها فإنّ لدينا في هذه الحالة ما يسمى بالمعنى المضموني Intentional Meaning ( فمثلا : الأزرق لون يقع في درجات ألوان الطيف بين الأخضر والبنفسجي). وأما إذا حدّدت هذه المفردات بواسطة الإحالة Reference إلى أشياء فإنّ لدينا عندئذ ما يسمى بالمعنى الإحالي Extentional Meaning ( فمثلا الأزرق وصف مُشترك بين جميع الأشياء الزرقاء في العالم ) (14).
  • كما يتمّ تصنيفُ الجانب الاستعماليّ للغة تحت مسمى التداوليات Pragmatics؛ حيث تتحول إلى « مادة ما وراء اللغة وما وراء الدلالة، أي الوعي الذاتي بالأحكام التي تتخذ للرصف والمعنى »(15).
ومن أجل فهم دقيق للغة لا يجب تجاهل التفاعل بين تلك المستويات الثلاثة (النحوية، والدلالية والتداولية) «في الإنتاج والفهم الفعليين للكلام [..] بدونه يصبح الانتفاع بالنص بكل بساطَة غير صالح للحدوث»(16).غير أننا في هذا المقام سنجمع بين النَّحوي والدَّلالي بخصوص دراستنا للترابط النصي في القرآن العظيم، ليس من أجل اكتشاف الكفاءة النصية للنّصّ المدروس، سواء عن طريق الوقوف عند السبك أو الحبك، ولكن من أجل اكتشاف محدودية كفاءتنا البشرية أمام نصيّة مقدَّسة.بناء على ما سبق نكون أمام قسمين من وسائل الربط النصي:
  • الأول يسمى بالربط الرصفي Connectivity Sequential الذي يتصل بأدوات الربط النحوي، ويقصد به التتابع النسقي لكل عناصر اللغة، « بحيث يمكنُ للكلام أو الكتابة أو السماع أو القراءة أن تتم في توال زمني. ونستطيع من وجهة النظر إلى التفاصيل أن ندرك السِّياقات اللفظية المركبة من العناصر الصُّغرى الصَّوتية أو الصَّرفية التي تتطابق مع ما اشتملت عليه الأنظمة من الوحدات الصوتية Phonemes أو الصرفية Morphemes على الترتيب »(17). ومن جملة الربط الرصفي أدوات العطف والتخيير والاستدراك والتعليل والإحالة والتعريف والتضام والحذف والتكرار والاستبدال وغيرها.
  • الثاني يسمى بالربط المفهومي Conceptual Connectivity يتصل بالربط الدلالي ونواحيه التفكرية والمعرفية؛ « أي أن هذه الصفة متصلة بالمعنى وسلسلة المفاهيم والعلاقة الرابطة بينها »(18)، إنه ربط يجد عمله في فهم ارتباط المفاهيم ( فاعل، حدث، صفة، حالة ..) و كل ذلك من أجل تحقيق التَّماسك في عالم النص عبر إيجاد المعنى الكليّ للنّصّ، أو إيجاد « علاقة  معنوية بين عنصر في النص وعنصر آخر يكون ضروريًا لتفسير هذا النَّص، وهذا العنصر الآخر يوجد في النص غير أنه لا يمكنُ تحديد مكانه إلا عن طريق هذه العلاقة التماسكية، أي من خلال الترابط الدلالي بينهما »(19).
بعد بيان موجز لهذين القسمين في الترابط النصّي مُضاف إليهما الملاحظات السابقة لتحديد مفهوم النص القرآني، أمكننا الآن أن نقترح تحديدًا لمفهوم النص القرآني من زاوية نظر ما سمِّي بلسانيات النص القرآني، فنقول:إنّ النص القرآني وحي، وهو النظم المترابط الأكبر، أو النظم المترابط الأعلى، نحوًا ومفهومًا، الصادر عن « المتكلم الأعلى » (20)؛ إنه وحدة وتعدد؛ وحدة في نظمه الأعلى، ومتعدد في دِلالته النّصية القدسية.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالهوامش:* العارف بالله سيدي أحمد ابن عجيبة الحسني رحمه الله.(1)- مصطفى ديب البغا، محيي الدين ديب متو، الواضح في علوم القرآن، دار الكلم الطيب، دار العلوم الإنسانية، دمشق، ط2، 1998، ص: 15(2)- عبد السلام العمراني الخالدي، الكنز الثمين في كشف أسرار الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 2014، ص: 69.(3)- عبد السلام العمراني الخالدي، الكنز الثمين في كشف أسرار الدين، المرجع السابق، ص: 71.(4)- قد يفهم من التحدي معناه البشري العام؛ تحدى فلان فلانًا دخل معه في مباراة ومبارزة ومصارعة ومغالبة ومشاجرة، مادية أو رمزية، والحال أنّ التحدي الإلهي رحماني، يدخل في الآية الكريمة ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‎﴿النحل: ١٢٥﴾‏(5)- رشيد برقان، آليات ترابط النص القرآني، أفريقيا الشرق، المغرب ط1، 2015، ص: 08.(6)- نصر حامد أبي زيد، مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، مؤمنون بلا حدود، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2014.(7)- طه عبد الرحمن، روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2006، ص: 180.(8)- بخصوص هذه الفائدة وفوائد أخرى كثيرة استقيتها من حوارنا مع من فضيلة د. عبد الصمد الخياط، فجازاه الله خيرًا.(9)- طه عبد الرحمن، روح الحداثة، المرجع السابق، ص: 180.(10)- طه عبد الرحمن، روح الحداثة، المرجع السابق، ص: 180.(11)- أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني، إعجاز القرآن، تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف مصر، د.ت، ص: 279.(12)- سيدي ابن سليمان الجزولي، دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في الصلاة على النبي المختار، دعاء الختم.(13)- دي بوجراند، النص والخطاب والإجراء، ترجمة تمام حسان، عالم الكتب، القاهرة، ط1، 1998، ص: 83.(14)- دي بوجراند، النص والخطاب والإجراء، مرجع سابق، ص: 84.(15)- دي بوجراند، النص والخطاب والإجراء، مرجع سابق، ص: 86.(16)- دي بوجراند، النص والخطاب والإجراء، مرجع سابق، ص: 83.(17)- دي بوجراند، النص والخطاب والإجراء، مرجع سابق، ص: 136.(18)- أحمد عفيفي، نحو النص، اتجاه جديد في الدرس النحوي، ص: 90.(19)- أحمد عفيفي، نحو النص، اتجاه جديد في الدرس النحوي، ص: 90.(20)- طه عبد الرحمن، سؤال العمل، بحثًا عن الأصول العملية في الفكر والعمل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2012، ص: 191.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق