مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة
في الترابط النصي: مقدمة في تقريب لسانيات النّصّ القرآنيّ (3)

* « بعد الوعي يكون البيان »توقفنا في المقالة السابقة عند السؤال التالي: هل هذه التحديدات للنص تنطبق على مفهوم النص القرآني؟بمعنى آخر: هل تحديد مفهوم النص انطلاقًا من نصوص بشرية يسري على مفهوم النص القرآني؟ مثلا: هل تحديدنا للنص الروائي أو النص الشعري أو النصّ الفلسفي هو نفسه النص القرآني؟ أليست هناك خصوصيات تميز النصين معًا؟النص القرآني: الوحي، النظم المترابط الأكبر، النّصّ الأعلىإن تحديد مفهوم صاف للنّصّ القرآني يحتاج منا إلى فطرة سليمة، وعقل سليم غير الذي يُسقطُ تحديدات النُّصوص بعضها على بعض من دون تمييز بين طبيعة النّصوص أو إحكام مصدرها؛ وهل يُحسن العقل المخلوط التمييز بين براديغمات بشرية وأخرى وَحْيَانية أم هل يتيسَّر له التمكين في فتح مغالق النَّصّ الكريم؟وقبل تحديدنا لمفهوم النص القرآني، لا بدّ من تسجيل المسلَّمَة الآتية:
- النَّصّ القرآني وَحي من الله تعالى، الحيّ الذي لا يموت، المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بواسطة سيدنا جبريل عليه السلام، وهو المنقول بالتواتر، المكتوب في المصحف، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، والمختوم بسورة الناس.
- النص القرآني واحد متعدد؛ فهو نص يتضمن نصوصًا، يصِل بعضُهَا بعضًا، ليس في مستوى السورة الواحدة أو الجزء الواحد أو الحزب الواحد أو نصف الحزب أو الربع أو الثمن فقط، ولكن في السُّوَر كلّها، حتى ليمكننا أن نؤكد أن القرآن الكريم لهوَ النصّ المُترابط الأكبر، مَبنى ومعنى ورُوحًا. فما معنى ذلك؟ وهل هذا التعريف يفيد أن السُّورة نصّ مترابط أصغر أو أوسط أو غير ذلك أو غير ذلك من « القياسات »؟
- وزن آيات القرآن الكريم وسُوره لا يسير بمنطق الحَجم، أو أي منطق بشري آخر؛ فالطول والقصر يُحتجّ بهما في المسافات مثلا، بينما القرآن الكريم لا مسافة تحيط به، وإلا كيف يمكنُ أن نحيط بعلم القرآن المجيد وهو من كلمات الله التَّامات، قال تعالى: ﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ ﴿الكهف: ١٠٩﴾ وفي معنى هذه الآية يقول سيدي أحمد ابن عجيبة الحسني: « لأن البحار متناهية، وكلمات الله غير متناهية [ ..] فما دخلَ عالمَ التكوينِ كلُّه متناهٍ » والقرآن الكريم كلمات الله التَّامَّات، وبين التناهي واللاَّتناهي تضيع كثير من الأفهام، وتقبح كثير من تصورات الأنام؛ بينما القرآن الكريم ليس من عالم التكوين، بل هو كلام الـــمُكوِّن؛ مكون الأكوان كلّها.
- وقول الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ﴿لقمان: ٢٧﴾ يفيدُ أنّ القرآن المجيد لا تحيط به أمِدَّةُ البحور المديدة، وهذه تحدِّيات إلهية رحمانية(4) تبين أن القرآن الكريم لا خلل فيه ولا تناقض، وأنّ نظمه من أسرار إعجازه، أو قل إنّ من أسرار إعجازه صياغته وتركيبه،ولكُل واحدة منهما « خاصية داخلية كامنة في ثنايا النص تنبع من تركيبه اللغوي، وكيفية تناسق عباراته وتوحيدها لتأدية غرض أساس هو توحيد الله تعالى وتخصيصه بالعبودية »(5) قال الله عز وجل: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾﴿الإسراء: ٨٨﴾
- أما الملاحظة الأخيرة فتقف عند بعض الآراء التي يمكنُ أن تعترض على ما قلناه سابقًا من أننا لم ندرج بعض « الاجتهادات » التي تناولت النّصّ القرآني من باب اللسانيات أو من باب تحليل الخطاب. والحال أننا لم نأخذ بذلك لسببين اثنين، أعرضهما هنا بإيجاز:
- الأول: كثير من الدارسين للقرآن الكريم سقط في خطأ منهجي يتعلق بتطبيق نظريات تحليلية خِطابية أو هيرمنيوطيقية في تحديد مفهوم النص،كنصر حامد أبي زيد الذي خلص إلى أن القرآن الكريم منتوج ثقافي(6) رغم كونه لم ينف - بطريقة ما - إلهية النص القرآني؛ وقد لمسنا في هذا التحديد بُعدَه عن وحيانية النص القرآني المحضة، وقرب مفهوم الثقافة من الإنتاجات البشرية التي يمكنُ أن تسقط في الاستهلاك المادي، كما هو حال استهلاك الصورة الإشهارية مثلا، بالإضافة إلى أن هذا التصور جعل النص القرآني « نصًا لغوياً مثله مثل أي نص بشري [..] تمَّ إنتاجه وفقًا لمقتضيات الثقافة التي تنتمي إليها لغته » (7). لذلك لم نقل عنه إنه نص لغوي، بل أكدنا على أنه وحي بداية، وأنه هو النّصّ الأكبر. مما يكسبنا مبدأ منهجيًا يتصل بالاستيثاق (8) عند تحديد مفهوم النص القرآني؛ أي التوثيق وكسب الثقة لا من الشخص في حد ذاته فقط، بل من حيث قوله الذي يقوله أيضًا. وقد يظن ظان أن الشرط الأول في الاستِيثاق يتصل بــ« مغالطة رجل القش » فنقول إنّ هذه المغالطة نفسها نابعة من تطبيقات على نصوص بشرية لا وَحيانية، خاصة في جانبها الأيديولوجي. أما الشرط الثاني فقد يُعترض عليه بكونه يدخل في باب حرية البحث العلمي، فنقول إنّ هذه الحرية تقابلها حرية أخرى هي حرية النقد، خاصة أن قول نصر حامد أبي زيد يَغرفُ من معين التحديدات البشرية للنص عندما يقول بأن النَّصّ القرآني منتوج ثقافي، فيسقطُ بذلك في نسبية النص لا في كماله؛ لأنه إن قلنا عن النّصّ إنه نسبي فهذا يعني أن فهمه لا يكون « إلاّ بالرجوع إلى هذا المجال الثقافيّ الخاص »(9)، وهنا « ينزل من رتبة التعلق بالمطلق إلى رتبة التعلق بالنِّسبي »(10)، والحال أن نظم القرآن أكبر؛ « فليس له مثال يحتذى عليه، ولا إمام يقتدى به، ولا يصحّ وقوع مثله اتفاقًا »(11).
- الثاني: أن تركيز علماء الإسلام يكون على مضمون النص القرآني، والمضمون ليس تبليغًا فقط، بل فيه استدلال وتوجيه أيضًا، وبالتالي فهو يجمع بين المضمون والمنهج؛ ومن مضمون النص القرآني يمكنُ أن تُستنبط مناهج في لسانيات النّص القرآني، وليس منهجًا واحدًا فقط، والأهم من كل هذه المناهج أن تُصانَ قدسية القرآن الكريم، ويسلم بحقيقة قُدسية نَصِّية القرآن الكريم؛ فمن هنا ينطلق الإبداع، ويُرزق النَّاظر « علم الخائفين »(12).
- كل تصنيف شكلي للغة يندرجُ تحت مسمى النحو Syntax؛ حيث يختصّ هذا الأخير « بالصور المجردة للجمل التي تشترطها قواعد اللغة Grammar بقطع النظر عن سياق الموقف Context » (13) .
- كل مناحي المعنى في اللغة تندرج تحت مفهوم الدلالة Semantics؛ حيث تختص هذه الأخيرة بالعلاقات بين العلامات والرموز وما تشير إليه أو تَعنِيه [..] إن جملة العلامات والرموز وبيان معانيها يشتمل عليها المعجم Lexicon فإذا حدِّدت مُفردات المعجم بحسب مضامينها فإنّ لدينا في هذه الحالة ما يسمى بالمعنى المضموني Intentional Meaning ( فمثلا : الأزرق لون يقع في درجات ألوان الطيف بين الأخضر والبنفسجي). وأما إذا حدّدت هذه المفردات بواسطة الإحالة Reference إلى أشياء فإنّ لدينا عندئذ ما يسمى بالمعنى الإحالي Extentional Meaning ( فمثلا الأزرق وصف مُشترك بين جميع الأشياء الزرقاء في العالم ) (14).
- كما يتمّ تصنيفُ الجانب الاستعماليّ للغة تحت مسمى التداوليات Pragmatics؛ حيث تتحول إلى « مادة ما وراء اللغة وما وراء الدلالة، أي الوعي الذاتي بالأحكام التي تتخذ للرصف والمعنى »(15).
- الأول يسمى بالربط الرصفي Connectivity Sequential الذي يتصل بأدوات الربط النحوي، ويقصد به التتابع النسقي لكل عناصر اللغة، « بحيث يمكنُ للكلام أو الكتابة أو السماع أو القراءة أن تتم في توال زمني. ونستطيع من وجهة النظر إلى التفاصيل أن ندرك السِّياقات اللفظية المركبة من العناصر الصُّغرى الصَّوتية أو الصَّرفية التي تتطابق مع ما اشتملت عليه الأنظمة من الوحدات الصوتية Phonemes أو الصرفية Morphemes على الترتيب »(17). ومن جملة الربط الرصفي أدوات العطف والتخيير والاستدراك والتعليل والإحالة والتعريف والتضام والحذف والتكرار والاستبدال وغيرها.
- الثاني يسمى بالربط المفهومي Conceptual Connectivity يتصل بالربط الدلالي ونواحيه التفكرية والمعرفية؛ « أي أن هذه الصفة متصلة بالمعنى وسلسلة المفاهيم والعلاقة الرابطة بينها »(18)، إنه ربط يجد عمله في فهم ارتباط المفاهيم ( فاعل، حدث، صفة، حالة ..) و كل ذلك من أجل تحقيق التَّماسك في عالم النص عبر إيجاد المعنى الكليّ للنّصّ، أو إيجاد « علاقة معنوية بين عنصر في النص وعنصر آخر يكون ضروريًا لتفسير هذا النَّص، وهذا العنصر الآخر يوجد في النص غير أنه لا يمكنُ تحديد مكانه إلا عن طريق هذه العلاقة التماسكية، أي من خلال الترابط الدلالي بينهما »(19).