في الإسناد المالكي عند علماء الصحراء (1) تقديم في فائدة الإسناد الفقهي
ساهم علماء الصحراء بقدر مبارك في حركة الفقه في المذهب تدريسا وتأليفا سواء فيما يعرف بالفقه العمَليّ (كالنوازل والأجوبة والأحكام والفتاوى..) أو فقه الاحتجاج للمذهب وتأصيل أحكامه والاستدلال لها (كأصول الفقه والمسائل الأصولية، القواعد الفقهية والفروق والأشباه والنظائر، إجماع الفقهاء واختلافهم، الردود على المذاهب المخالفة ..)، حتى امتازت المنطقة بمميزات منها:
أولا: غزارة العطاء الفقهي كمّاً؛ فقد ضمت المحاضر والمدارس والخزائن العامة والخاصة في الصحراء تراثا مكتوبا زاخرا منه المجلو المعروف والمفقود والمجهول .
ثانيا: استيعاب مختلف أنواع وأغراض التأليف في المذهب، كخدمة متون المذهب شرحا ونظما، والتأليف في الاستدلال للمذهب والاحتجاج له، والتأليف في الفقه العملي كالنوازل والفتاوى.
ثالثا: ذيوع فن النظم والأرجاز الفقهية بصفة ملفتة.
رابعا: طغيان الفقه النوازلي على سائر الأنواع الأخرى، وامتيازه واستجابته لمتطلبات المجال الصحراوي.
فبهذه الخصائص العامة يظهر اهتمام فقهاء الصحراء بالدرس الفقهي وجهودهم في خدمته، لذلك ألف كثير من المعاصرين حول هذا الاهتمام[1]، وكان من أهم الأعمال الموسوعية المعاصرة التي جمعت قدرا مهما من هذه النوازل "المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء"[2] للدكتور يحيى ولد البراء، حيث ضمت: 6800 فتوى، جاءت في اثني عشر مجلدا، فضاهت بذلك المعيار المعرب للونشريسي (ت 914هـ) الذي يضم حوالي 6000 فتوى[3].
لكن؛ هل واكب الاهتمامَ بالمادة الفقهية عند فقهاء الصحراء عنايةٌ بأسانيد هذا الفقه الذي يسري في حياتهم ويخالط معاملاتهم؟ ماهي أسانيدهم الفقهية؟ وما مظاهر العناية بها؟ وهل نستفيد من نصوصهم ومؤلفاتهم ومشيخاتهم ما يفيد في تبين خارطة الأسانيد الفقهية؟
إن أداة ضبط هوية الفقه ونوازله في العالم الإسلامي لم تكن في يوم من الأيام سوى هذا الإسناد، فبدونه ترى الاجتهادات الفقهية كاللقيط لا نسب علميَّ لها لأن شيوخ العلم آباء في الدين، وقد قال ابن حجر: "الأسانيد أنساب الكتب"[4]، وقال محمد فال بن عبد الله العلوي: " من أنفع العلوم التعريف بالأعيان ووفياتهم ومواليدهم وسيرهم وشيوخهم وتلاميذهم وما اشتهروا به من فنون المعرفة"[5].
وبفضل الإسناد رسخ بنيانُ الفقه على أسّه المتين المتصل بمصادر المذهب في الفقه والافتاء في سائر أقطار الإسلام، فلذلك كانت المنافسة التي تحدث عنها الشيخ محمد بن ابراهيم السباعي (ت 1332هـ) في إجازته لعباس بن ابراهيم المراكشي(ت1378هـ) حين قال: "ولما كانت سيرة عالمي السلف ومن اقتفى آثارهم من الخلف التنافس في السند والأخذ فيه بالاجازة وهي شرعتهم المشروعة، والمنتهجة المجازة، اقتفى ذلك الأثر من عمر أوقاته بطلب العلم وأنفق فيه شبابه، ونافس فيه من الأقران أهله وأصحابه"[6].
ثم تحدث السيد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني عن جانب من ثمار الإسناد فقال في فهرس الفهارس: "وبما تَطَّلِعُ عليه من ارتباط أسانيد المغاربة بالمشارقة وتعويل الآخِرين على الأولين في ميدان المكافحة والمسابقة وتصدير المشارقة عند روايتهم بأئمة المغرب وتطاول أعلام المغرب وافتخارهم بالأخذ عن فطاحلة المشرق، تعلَمُ ما كان بين المسلمين قديما من سَني الاتصالات ووافر الروابط وكبير الصلات، وجَعْلِ الكل تقليد جيّده بعد الحج والزيارة بواسع الرواية والتعزز بعز الإجازة أفخَرَ المقاصد وأبهَجها، وأوسع المتاجر وأربحها، مما يبرهن لك عن مقدار تقدمهم واتقائهم"[7].
وفائدة الكلام عن الإسناد في الصحراء تظهر في ضرورة المساهمة في التعريف بجهود فقهاء هذه الربوع في مسيرة الفقه وخارطته، فبالاطلاع على أسانيدهم وما وضعوا من تراجم شيوخهم وتلاميذهم، ومعرفة ما أجازوا به مَن استجازهم، والاستخبار عن رحلاتهم في الأخذ والعطاء العلميين ينكشف للمطالع تلك السبل المباركات التي سِيقَ منها الفقه وانسلك فيها نوره، ويحصل له اعتراف بأفضالهم وجهودهم، ومعرفة بمساعيهم في نشر الدين وخدمة المذهب في هذه الآفاق النائية عن عواصم المذهب، وينكشف حبل الوصل المتين بينهم وبين إخوانهم من علماء وفقهاء.
[1] انظر على سبيل المثال جهود العلامة المختار السوسي في المعسول وغيره، والخليل النحوي: (بلاد شنقيط: المنارة والرباط منشورات المنظمة العربية للتربية والعلوم. ط تونس 1987)، (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط) لأحمد بن الأمين الشنقيطي. طبعة مكتبة الخانجي بالقاهرة. (حجاج ومهاجرون) للدكتور حماه الله ولد السالم، (أعلام من الصحراء المغربية) للمؤلف محمد الجيلاني لعبدّ. إصدارات زاوية ومحظرة محمد بن محمد سالم. وغيرهم.
[2] الناشر الشريف مولاي الحسن بن المختار بن الحسن نواكشوط ط1: 2009. قال مؤلفها د يحيى مبرزا أهميتها: "والظن قوي في أن هذه المعلمة في شكلها الحالي قد تكون من أشمل وأدق ما عرف في البلد لحد الساعة من معلمات تهتم بطبقات أهل الفتوى والقضاء لما كان فيها من تحرير لما نقل الناقلون والتنبيه على ما أغفل الذاكرون، وهي فضلا عن ذلك تسهل على من يريد معرفة تطور المعرفة وكيفية صناعتها في هذه البلاد وطبيعة العلاقات القائمة بين علمائها أن يقيم شجرات نسب علمي تبرز الصلات بينهم وكيفيات ارتباطاتهم وتفرعاتهم واتحاد مشاربهم أحيانا وتباينها أحيانا أخرى إلى غير ذلك من صور التواشج والتلاقي والأخذ والعطاء". المجموعة الكبرى (2/3)
[3] أصول التوثيق ومناهج التعليق على النوازل الفقهية المالكية بين الضوابط العلمية والطرق السائدة –دراسة نقدية -. د الحسين أكروم. مقال بالمجلة الفقهية الصادرة عن مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي التابع للرابطة المحمدية للعلماء، عدد :1 ص: 67.
[4] فتح الباري: (1/6)
[5] المجموعة الكبرى للفتاوى. د يحيى ولد البراء، نقلا عن كتاب خبر الموسويين (2/4).
[6] إحراز الخصل في فهرسة القاضي أبي الفضل، عباس بن ابراهيم المراكشي (ت 1378 هـ/ 1959 م)، الرابطة المحمدية للعلماء، الطبعة الأولى 1434هـ/2013م (ص 70) .
[7] فهرس الفهارس ومعجم المعاجم و المشيخات و المسلسلات. عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني، دار الغرب الاسلامي الطبعة الثانية 1452هــ/1982م (1/53).