مركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراويأعلام

فوائد وإيضاحات على رسالة أحمد بن علي إلى محمد بن سعيد المِيرْغتِي

أورد العلامة المِيرْغتِي أبو عبد الله محمد بن سعيد السوسي في فهرسته العوائد المزرية بالموائد رسالةً لأحمد بن علي بن محمد لطيفة مفيدة، رأيت أن إبرازها مستقلةً مع إخراج ما حوته من فوائد تاريخية وعلمية وشرعية مما يفيد الباحث في تراث الصحراء.

وبما أن محقق العوائد المزرية لم يقف في الرسالة إلا على كلمة “السودان” و”الحاج التواتي” الواردتين في متنِها، فلا بد من محاولة رفع الالتباس على جملة أمور وقعت في الرسالة، لعل أولها معرفة صاحب الرسالة نفسِه. وقبل بيان ذلك أنقلُ نص الرسالة كما هو في الفهرسة.

نص الرسالة :

“بسم الله الرحمان الرحيم صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله.

لأَخينا في الله الفقيه العالم سيدي محمد بن سعيد حفظَ الله نجابتَهُ وأدامَ سعادَتَه سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته.

بلغَنا كتابُكُم وفهِمنا مضمَّنَه أرشدنا الله وإياكم لما يحبهُ ويرضى، وجنَّبَنا ما يؤَدِّينا إلى ما يُوجِب إعراضَه عنا.

وذكرتَ أنك بمادمة أمر العشة[1] كفانا الله وإياكم همها، فإنه أعظمُ مصابٍ وقد تكون أجلَّ مصاب في الدين، أما المستغرق فيها وبطلبها على أي وجه حصلتْ من محضور ومكروهٍ ومباح فهذا أصابت أسهُمُها نحْرَه، وخيرٌ له لو لم تلِده أمّه، وأما من اهتم بالوجه الجائز فهو فيها من المجاهدين؛ قال صلى الله عليه وسلم: “من بات راغبا في طلب الحلال بات مغفوراً”[2]. والذي عندي أن الزائد على الماء والدقيق أفرط في الطّلب سيما في هذا الزمان الذي يقلّ فيه مطعَم الحلال، لأن المسافر في سفره معلوم أنه لا يأخذ إلا دقيقه في مزادته، فحيثما احتاج إلى شيء ألقى عليه شيئا منها في الماء فيَمرِسُه[3] فيشربه ويكتفي بذلك إلى ليلِه وهو يتأمل وصوله إلى متوجَّهه فيحطّ عنه أعباء سفره ويتوسع في مأكله ومشربه.

فهل لا ترى أيها الأخ أن حالة الدنيا في هذا العمر إلا على هذا الوجه؟

ثبتنا الله وإياك، وإن المهم حط الرّحال بالدار الباقية، فهنالك الفراغ للمشتهى من الملاذّ المعيشة، فمن حصل له الدقيق والماء وما يوفي به جاره فلا يجوز له طلب شيء آخر زائد من فضولِ المأكولات والإدَمَات والخضروات والثياب الليّنة، ولايدخل ذلك في دعواته، لأن القوت الذي لا حساب فيه حصل عنده، وإن تيسر شيء من ذلك من غير تملُّق لأحد من خلق الله على وجه شرعي مبذول من فضل الله من غير مكابدة فذلك رزق ساقه الله إليك، ويتناول غيرَ مسرفٍ شاكرا لأنعم ربه.

وحُدثتُ أنك تتسبّب في دكان عطاري يمتلك بتسببه كذلك، تلك حرفة الصحابة، وتعلّم ممن اشتركت معه معاملة علم البيع والشراء المتشرعين الذين عبد العلم بهما فراغ القلوب من هم الآخرة والاقبال على هم الدنيا الفانية فلا تكن كذلك. فقد قال صلى الله عليه وسلم: “أشد الناس عذابا عالم لم ينفعه الله بعلمه”[4]، فتدبر ما أقول لك وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.

فإن استطعتَ أن تكتب في دائرة، تخطّ لي فيها كيف حلّت فيه بلادُ السودان في خط الأستواء كنَوا، وبرقوا، ومهبط النيل من جبل القمر فإن تنبكتو عندنا قبالة درعة، وهذه البلاد لم يذكرها أهل الأطْوال والعُروض قبل عن ذلك من دخلها كيف ترتِيبها، فانقُط موضِعها في الدائرة واكتُب على كل نقطة اسمها واجعل في كل يومين درجةً، فإني أخشى أن تكون صلاتُنا إلى بعض تلك البلاد على ما ترى هنالك من الكُتبيِّين والقصبة والقرويين هنا مما نصب إلى تلك الناحية.

وأعلِمْني بتاريخ موت سيدي أحمد بابا[5]، [ولنا حج][6]، فإنك تجد ذلك عند السيد الحاج التواتي[7] تلميذه، وكذلك وفاة شيخنا سيدي محمد بن عبد الرحمن إن كان عندك العلم به. وعائد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أخوك في الله العبيد الكسير أحمد بن علي بن محمد بأواسط الأخرويات من رجب المبارك 1046.”[8]

إيضاحات

أول الإيضاح أن صاحب الرسالة أحمد؛ هو على الراجح العلامة الكبير الورع الزاهد البوسعيدي أحمد بن علي بن محمد الهشتوكي السوسي، نزيل فاس ودفينها، المتوفى 13 أو 14 ذي القعدة من سنة 1046ه. وعليه يكون محمد بن عبد الرحمن المذكور في الرسالة هو الگرسيفي التملي شيخُه، المتوفى سنة 1037ه أو 1038ه[9].

وأمارات كونِ البوسعيدي صاحبَ الرسالة ما ذكر الحضيكي في طبقاته قال: “أحمد بن علي الهشتوكي البوسعيدي. كان رضي الله عنه من الفضلاء والصلحاء المتفق على ولايته. أخذ الفقه والعربية عن محمد بن عبد الرحمن الگرسيفي… وقرأ أيضا على الشيخ أحمد بابا بمراكش وصافحه وأجازه”[10]. وقال في وصف حالته في الزهد: “وكان من أزهد الناس في الدنيا فما تمسك منها لا بقليل ولا بكثير… كما كان لا يتقوت إلا من زرع يحرثه بيده في أرض وهبها له بعض أهل الخير والدين، فيعجن قرصة بيده ويجعلها في النار فيتبلغ بها، وهذا دأبه رضي الله عنه”[11].

ومن الأمارات كذلك تحرّيه في القبلة؛ فإنه كان يجتهد في ذلك ما وسعه الأمر، “وكان هو حفر قبره وقبّله على حسب ما اقتضاه اجتهاده في القبلة، فجاء منحرفا على القبور التي هو بينها”[12].

ولعل سؤاله عن تاريخ وفاة شيخَيْه الكرسيفي وأحمد بابا كان لأجل فهرسته المسماة: بذل المناصحة في فعل المصافحة، فإن العلامة الكتاني في فهرس الفهارس قال عنها: “كتاب جيد عظيم الفوائد كالفهرسة ترجم فيه لمشايخه وذكر أسانيدهم وإجازاتهم… ترجم فيه للشيخ أبي النعيم رضوان الجنوي وأبي العباس أحمد بابا السوداني…”[13].

ومتى علمنا أن الشيخ أحمد بن علي البوسعيدي كتب الرسالة وهو في فاس قبل وفاته بحوالي أربعة أشهر تأكد لنا أن العلامة الميرغتي كان أحد مصادره في معرفة الوفيات وأخبار الجنوب والصحراء بحكم تقلبه في مراكش ودرعة تلك الفترة[14].

فوائد

ومن فوائد الرسالة أنها شاهدة على التواصل العلمي والروحي بين المِيرْغتِي والبوسعيدي لما فيها من النصح الصادق والتوجيه الرباني، بل إنها أبرزت في عقدها المنظوم من المِيرْغتِي في مراكش والبوسعيدي في فاس وأحمد بابا التمبكتي السوداني، والكرسيفي السوسي، والحاج أحمد التواتي صورة صادقة عن العلاقات العلمية الرائجة بين حواضر العلم من فاس إلى الصحراء، والتي لا يكاد يخلو منها فهرس من فهارس المغاربة.

ومنها اهتمام الباحث بتواريخ الرجال ووفياتهم سيما إن كانوا من شيوخه في العلم.

ومنها أن المِيرْغتِي كان الإمام في المسائل المتعلقة بالهيئة والمواقيت والتعديل، وهو الفن الذي برع فيه حتى صار مقصودا من كل الجهات.

ومنها أن التحري في ضبط القبلة يرجع فيه إلى العلماء المحصلين لعلم التعديل والهيئة.

ومنها الحرص على تحري الحلال في الرزق واستشارة الإخوان الناصحين في ذلك.

ومنها أن من الصالحين من التزم لنفسه طريقة في الزهد والورع أداه إليها معاملته مع الله تعالى بحال خاصة، فلا يُنكَر مذهبه.

ومنها التمييز بين الضروري والحاجي والكمالي في المأكل، وعدم الإسراف فيما فضل عن الحاجة.

ومنها تفضيل طعام المريس في السفر، وهو الدقيق المنقوع في الماء حتى يختلط به.

ومنها التنبيه على ملازمة أحكام الشرع في المعاملات المالية، وطلب تعلُّمها، والاحتراز من الإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة.

ومنها أن الإمام المِيرْغتِي اشتغل بالعطارة، وأنها حرفة مباركة، اشتغل بها الفضلاء والأئمة كابن كثير المكي (ت 120ه) وهو أحد القراء السبعة المعروفين.

وتلك عشر فوائد.

[1] قال المحقق: “هكذا في ب”، والمفهوم من السياق أنّ السؤال كان عن عشبة التبغ أو “طابة” التي ظهر تعاطيها في هذه الفترة، وألف في حكمها عددٌ من العلماء والفقهاء كابنِ العربي الفاسي المتوفى 1052ه الذي له “سهم الإصابة في حكم طابة”، وأحمد بابا التمبكتي الذي ألف “اللمغ في الإشارة لحكم طبغ”، وابنِ أبي محلي، وكان البوسعيدي أيضا ممن أفتى في النازلة.

[2] أورده الطبراني في المعجم الأوسط، باب من اسمه محمد، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن رسته، نا إبراهيم بن سلم، نا هاشم بن موسى الخصاف، نا سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، حدثني أبي، عن جدي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  “من أمسى كالا من عمل يديه أمسى مغفورا له”.  وقال: لا يروى هذا الحديث عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، تفرد به: إبراهيم بن سلم. المعجم الأوسط للطبراني أبي القاسم. تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد , عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني الناشر: دار الحرمين – القاهرة.

[3] يريد المَرِيس، وهو كل ما أنقع في الماء أو اللبن.

[4] رواه بهذا اللفظ البيهقي في شعب الإيمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ” وفي رواية أبي زكريا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه”. شعب الإيمان للبيهقي، (3/273).

[5] أحمد بن أحمد بن أحمد بن عمر، الملقب ب أحمد بابا التمبكتي، السوداني ولد سنة 963ه، أخذ عن أبي بكر بن أحمد بن عمر ومحمد بن محمود بن عمر بن محمد أقّيت وغيرهم، وعنه أحمد بن الحاج محمد فهدي المذكور في الرسالة، وعبد الواحد بن أحمد الحميدي الفاسي، محمد بن عبد الواحد السجلماسي، ومحمد بن محمد بن يعقوب الايسي المراكشي، وغيرهم كثير.ألف ما يزيد عن أربعين تأليفا، توفي 1036هـ .

[6] كذا في الموائد، ولعل الصواب: ومتى حج، والله أعلم.

[7] أحمد بن الحاج محمد فهدي بن أبي فهدي التواتي المراكشي، أخذ عن أحمد بابا التمبكتي، وأجازه، ت 1061ه . انظر فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور. (ص: 33).

[8] العوائد المزرية بالموائد، للمرغيتي. (2/340).

[9] هو محمد بن عبد الرحمن بن داود الگرسيفي وطنا، التملي نسبا، كان رضي الله عنه فقيها عالما، عاملا، عابدا صالحا، حجّ بعد أن كبر، ولقي الشيخ عليا الأجهوري، بمصر وأخذ عنه وأجازه. وتوفي مرجعه ببلد فگيگ سنة سبع أو ثمان وثلاثين وألف. انظر طبقات الحضيگي، محمد بن أحمد الحضيگي، تقديم وتحقيق أحمد بومزگو. مطبعة النجاح الجديدة ط 1، 2006. (2/328).

[10] طبقات الحضيگي (1/59)

[11] المصدر نفسه (1/60)

[12] سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بمدينة فاس، محمد بن جعفر الكتاني، منشورات دار الأمان، الطبعة الثانية 2014. (2/124).

[13] فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات، عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني، طبعة دار الغرب الإسلامي الطبعة الثانية 1982. (1/248).

[14] العوائد المزرية بالموائد (1/48).

ذ. وديع أكونين

  • باحث بمركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراوي بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق