مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

فقه العمليات في التراث الفقهي المغربي فقه الشركات ومتعلقاتها نموذجا(5)

3-2 المـزارعـة

قبل بيان المعمول به في المزارعة، يستحسن تقديم صورة تقريبية لها تعريفا وبيانا لأصل مشروعيتها وشروطها وصورها.

فالمزارعة مفاعلة من الزرع، وهي وجه من وجوه الشركة على مذهب ابن القاسم، ولذلك حدها ابن عرفة بقوله: «المزارعة شركة في الحرث»([1]). أي أنها عقد يتم بموجبه الاتفاق بين مالك الأرض والعامل عليها قصد استغلالها بالزراعة واقتسام ما نتج عنها بينهما حسب شرطهما.

وهي من العقود الجائزة شرعا، والأصل فيها حديث عبد الله عن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها، حيث جاء في رواية البخاري ما نصه:﴿ أعطى خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما خرج منها ﴾([2]).

كما تستمد مشروعيتها من تصرفات الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، حيث نقل عن كثير منهم التعامل بالمزارعة، فقد ورد في البخاري عن أبي جعفر قال:﴿ ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين ﴾([3]).

وشرط المزارعة أمران:

– السلامة من كراء الأرض بالخارج منها([4])، قال ابن الحاجب: «وشرطها السلامة من كراء الأرض بما يمنع كراؤها به، فمتى كان جزء من البذر في مقابلة جزء من الأرض فسد»([5])، وعلى هذا الشرط يتنزل منع المزارعة إذا كان البذر من أحد الشريكين والأرض من الآخر، قال الباجي: «ولا يجوز أن يكون البذر من أحدهما والأرض من الآخر، لأنه يصير كراء الأرض بالطعام»([6]).

– التكافؤ بين الشريكين فيما يخرجانه ويقدمانه من أرض وبذر وعمل، وكون ما يحصله كل منهما من ربح بمقدار ما أخرجه.([7])

قال ابن عبد البر: «لا تجوز الشركة في الزرع إلا على التكافؤ في الأرض والبذر والعمل»([8]).

وقال خليل في مختصره: «وصحت إن سلما من كراء الأرض بممنوع وقابلها مساو وتساويا»([9]).

وقال أبو الحسن الصغير: «لا تصح الشركة في المزارعة إلا بشرطين: أن يسلما من كراء الأرض بما يخرج منها، وأن يعتدلا فيما بعد ذلك»([10]).

وقد نظم هذين الشرطين الشيخ الحسن بن رحال المعداني بقوله:

والوفق بين مخرج من مال أو عمل للربح خذ مقالـي
هو الذي به اشتراك صححا في كل شركة على ما اتضحا
مع انتفاء كون أرض عرضت ببذرها فهاكهـا قد كملـت

وللمزارعة صور جائزة وأخرى ممنوعة.

فمن الصور الجائزة:

– تساوي الشريكين في جميع ما يخرجانه من عمل وبذر وأرض سواء كانت الأرض ملكا بينهما أو مكتراة.

– إسهام أحد الشريكين بالبذر والآخر بالعمل والأرض بينهما بملك أو كراء.([11])

– كون الأرض والبذر منهما والعمل والآلة من الآخر.([12])

– إسهام أحد الشريكين بالأرض والآخر بالعمل، على أن يكون البذر بينهما بحيث يكون نصيب كل منهما في الزرع حسب سهمه من البذر، وإليها أشار ابن عاصم بقوله:

إن عمل العامل في المزارعـة والأرض من ثان فلا ممانعـة
إن أخرجا البذر على نسبة مـا قـد جعـلاه جزءا بينهمـا
كالنصف أو كنصفه أو السدس والعمـل اليوم به في الأندلس([13])

– أن يكون لأحد الشريكين الجميع ولا يكون للآخر إلا عمل يده وهي مسألة الخماس الآتي ذكرها بعد.

وأما الصور الممنوعة فمنها ما يلي:

– حصول التفاوت بين ما يخرجه الشريك من البذر وما يحصله من الزرع، كاشتراط المناصفة في الربح وقد أخرج العامل ثلثي البذر وصاحب الأرض الثلث.([14])

– كون الأرض من أحد الشريكين في مقابلة البذر من الآخر.([15])

– اشتراط العامل على رب الأرض إسلاف حصته من البذر، إلا إذا كان السلف بعد العقد وعلى سبيل التطوع.([16])

وإذا انعقدت المزارعة فاسدة لانخرام أحد شروطها، فالمتعين فيها الفسخ قبل الشروع في العمل، أما إذا فاتت بالعمل ففي ذلك ستة أقوال للعلماء حكاها ابن رشد في المقدمات بقوله: «واختلف في المزارعة الفاسدة إذا وقعت وفاتت بالعمل على ستة أقوال:

أحدهما: أن الزرع لصاحب البذر ويرد لأصحابه كراء ما أخرجوه.

والثاني: أن الزرع لصاحب العمل، وهو تأويل ابن أبي زيد عن ابن القاسم فيما حكى عنه ابن المواز.

والثالث: أنه لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أصول، وهي البذر والأرض والعمل. فإن كانوا ثلاثة واجتمع لكل واحد منهم شيئان منها أو انفرد كل واحد منهم بشيء واحد منها كان الزرع بينهم أثلاثا. وإن اجتمع لأحد منهم شيئان منها دون أصحابه كان له الزرع دونهم، وهو مذهب ابن القاسم واختيار ابن المواز على ما تأول أبو إسحاق التونسي.

والرابع: أنه يكون لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أشياء على هذا الترتيب وهي الأرض والعمل والبقر.

والخامس: أن يكون لمن اجتمع له شيئان من أربعة أشياء على هذا الترتيب وهي: البذر والأرض والعمل والبقر.

والسادس: قول ابن حبيب إن الفساد إن سلم من كراء الأرض بما يخرج منها، كان الزرع بينهم على ما اشترطوه وتعادلوا فيما أخرجوه، وإن دخله كراء الأرض بما يخرج منها كان الزرع لصاحب البذر»([17]).

الهوامش:


([1]) شرح حدود ابن عرفة، ص 547.

([2]) رواه البخاري في كتاب المزارعة، باب المزارعة بالشطر ونحوه.

([3]) رواه البخاري في كتاب المزارعة، باب المزارعة بالشطر ونحوه.

([4]) والأصل في اشتراط هذا الشرط، ورود النهي في السنة عن كراء الأرض بما يخرج منها من ذلك ما رواه أحمد والبخاري والنسائي من حديث رافع بن خديج قال: « نهانا أن نحاقل بالأرض فنكريها».

([5]) جامع الأمهات ص 278، والقوانين الفقهية ص 241.

([6]) فصول الأحكام وبيان ما مضى عليه العمل عند الفقهاء والحكام، لأبي الوليد الباجي، ص 392، دراسة وتحقيق: البتول بن علي، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1410 هـ / 1990 م.

([7])- حلي المعاصم لفكر ابن عاصم لأبي عبد الله محمد التاودي 2/382، مطبوع بحاشية البهجة للتسولي، وانظر كذلك القوانين الفقهية ص 241.

([8])- الكافي، ص 379.

([9])- مواهب الجليل، 7/153-154.

([10])-مواهب الجليل، 7/154-155.

([11])- البهجة، 388/2.

([12])- نفسه، 388/2.

([13]) البهجة في شرح التحفة 388/2، وشرح ميارة للتحفة 196/2 وما بعدها.

([14]) شرح ميارة للتحفة، 198/2.

([15]) الكافي لابن عبد البر، ص 380.

([16]) نفسه، ص 380.

([17])- المقدمات الممهدات، 212/2.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق