مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

فقه العمليات في التراث الفقهي المغربي فقه الشركات ومتعلقاتها نموذجا(16)

3.2- الشفعـة في الثمـار

المشهور في الثمار هو وجوب الشفعة فيها سواء كان الاشتراك فيها على جهة التبع أو على جهة الاستقلال بشرط عدم اليبس([1])، جاء في التهذيب ما نصه:

«وإذا كان بين قوم ثمر في شجرة قد أزهى، فباع أحدهم حصته منه قبل قسمته، والأصل لهم أو بأيديهم في مساقاة أو حبس، فاستحسن مالك لشركائه فيه الشفعة ما لم ييبس قبل قيام الشفيع، أو تباع وهي يابسة، وقال: ما علمت أن أحدا قاله قبلي. وأما الزرع يبيع أحدهم حصته منه بعد يبسه فلا شفعة فيه، وهذا لا يباع حتى ييبس، وكل ما بيع من سائر الثمار قبل يبسه مما فيه الشفعة، مثل التمر والعنب مما ييبس في شجره، فبيع بعد اليبس في شجره، فلا شفعة فيه كالزرع»([2]).

وهذا ما نص عليه المتحف بقوله:

وفي الثمار شفعة أن تنقسموذا إن المشهور في ذاك التزم
ومثله مشترك من الثمـرلليبس إن بدو الصلاح قد ظهر

ومما ورد في شرح البيتين قول الشيخ ميارة:

«الاشتراك في الثمرة إما أن يكون مع الاشتراك في الأصل أيضا كحائط بين رجلين باع أحدهما نصيبه فشفعه شريكه، وكان في الأصل ثمار في وقت الأخذ بالشفعة، وإما من غير اشتراك في الأصل، في الثمرة وحدها كالمحبس عليهم والمساقي بأيديهم، فالوجه الأول هو مراد الناظم بالبيت الأول، والثاني هو مراده بالبيت الثاني والله أعلم، فالوجه الأول من باب المشفوع بالتبع لغيره (...)، والوجه الثاني من المشفوع استقلالا»([3]).

وإذا كان المشهور هو ثبوت الشفعة في عموم الثمار، فقد جرى العمل بفاس باستثناء الثمار الصيفية من العموم المذكور، فلا تجب فيها الشفعة بخلاف الثمار الخريفية فهي مندرجة في عموم المشهور، سواء أكانت مرادة للبيع أو الأكل أو الادخار، قال أبو زيد الفاسي في عملياته:

وشفعة الخريف لا المصيفكذا التصدق على الشريف

كما نص السجلماسي على هذا العمل بقوله:

وأهل فاس شفعوا ذات الخريففقط ولو للبيع لا ذات المصيف

قال الوزاني: «ومما جرى به عمل فاس ثبوت الشفعة للشريك في ثمار فصل الخريف المبيعة بأصلها أو مفردة ما لم تيبس أو تجذ لطول زمنها ولكونها تدخر غالبا كما للشيخ ميارة وابن عاشر، سواء أرادها الشفيع للأكل أو للادخار أو للبيع على ما به العمل، ولا شفعة له في ثمار المصيف أي فصل الصيف لعدم ما في الثمار الخريفية فيه من طول زمنها والادخار، خلافا لما استحسنه الإمام في المدونة من ثبوت الشفعة فيها وإن كان مشهورا»([4]).

والمقصود بإشارته إلى الشيخ ميارة قوله في شرحه للتحفة:

«قال القاضي المكناسي في مجالسه: وقد فرقوا في الثمرة بين المدخر وغيره، والذي جرى عليه العمل وجوبها في المدخر وغيره، وبه أفتى العبدوسي بشرط أن لا يبيع منها شيئا وقال: بهذا مضى العمل، انتهى محل الحاجة منه. فقوله: فرقوا في الثمرة بين المدخر أي ففيه الشفعة وبين غيره مما لا يدخر فلا شفعة فيه. (...) والذي جرى به العمل عندنا أن الشفعة في الثمار الخريفية دون الصيفية، فلا شفعة فيها من غير نظر لكونه يبيعها أو يأكلها، وسمعت من علل ذلك بضرر دخول المشتري في الثمار الخريفية لطول زمن جذاذها بخلاف الصيفية لقصره والله أعلم»([5]).

وإشارته إلى الشيخ ابن عاشر يقصد بها قوله فيما نقله عنه أبو زيد الفاسي:

«قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الواحد ابن عاشر: الذي رأيت أهل فاس يلهجون به في حدود الألف، أن الثمار الصيفية لا شفعة فيها بخلاف الخريفية، وكان وجه ذلك أن غالب الخريفية يدخر»([6]).

من خلال هذه النصوص مجتمعة نستخلص ما يلي:

- أن فحوى العمل المذكور هو التمييز في الثمار بين ما يخرج في فصل الصيف وما يخرج في فصل الخريف، وإيجاب الشفعة في الأخيرة دون الأولى، بخلاف المشهور في المذهب الذي يقضي بالشفعة فيها دون تمييز، ولعل القول بعدم الشفعة في ثمار المصيف الذي جرى به العمل يوافق قول ابن الماجشون القاضي بمنع الشفعة في الثمار مطلقا، كما يوافق أشهب في أحد قوليه المانع للشفعة في الثمار المبيعة مفردة على الخصوص.([7]) وعليه فالعمل المذكور وإن خالف المشهور فله شاهد نقلي مذهبي بالاعتبار، بل يمكن عده أحد صوره لاشتمال هذا العمل على معنى التمييز الوارد في قول أشهب، وعلى الحكم بالمنع المتضمن في قول ابن الماجشون.

- أما جريان العمل بالشفعة في الثمار المعدة للادخار دون غيرها، والذي أشار إليه الشيخ ميارة نقلا عن القاضي المكناسي، فهو منسوخ بما استقر عليه عمل أهل فاس من إيجاب الشفعة في ثمار الخريف دون ثمار المصيف، وهذا ما نبه عليه الوزاني في نوازله الصغرى حيث نقل عن الشيخ الرهوني ما نصه:

«لكن ذكر أبو زيد الفاسي في عملياته أن العمل بثبوت الشفعة في ثمرة الخريف دون ثمرة المصيف، وهو ناسخ للعمل الذي ذكره المكناسي لتأخره عنه»([8]).

- أن العمل الفاسي مبناه على معنى مصلحي أشار إليه الشيخ ميارة، وهو انتفاء الضرر المترتب عن دخول المشتري في الثمار الصيفية لقصر زمن جذاذها؛ لأن الغالب فيها عدم الادخار، بخلاف الثمار الخريفية التي تقتضي إيجاب الشفعة فيها درءا للضرر المذكور لطول زمن جذاذها. وباستحضار هذا المعنى الذي انبنى عليه هذا العمل، نجد من الفقهاء من حاول البت في بعض الحالات غير المنصوصة كما هو الحال بالنسبة للشيخ الرهوني الذي ألحق ثمرة اللشين وهي البرتقال باصطلاحنا بثمار الخريف فأوجب فيها الشفعة رغم كونها من ثمار المصيف، وذلك للعلة المذكورة أعلاه، جاء في النوازل الصغرى ما نصه:

«قال الرهوني: لم يتعرض من وقفنا عليه للشين، ولا شك أن لها شبها بثمرة المصيف؛ لأن كلا لا يدخر، ولكن تخالفها في أن اللشين يطول زمان وجوده نحو ستة أشهر من وقت حل بيعه إلى انتهاء وجوده، وذلك يقوم مقام الادخار في ثمرة الخريف، بخلاف ثمرة المصيف، وقد قال الشيخ ميارة بعد أن ذكر العمل المذكور ما نصه: وسمعت من علل بضرر دخول المشتري في الثمار الخريفية لطول زمان جذادها، بخلاف الصيفية لقصره، والله أعلم هـ. وهذه العلة بعينها موجودة في اللشين، ولذلك أفتيت غير ما مرة بوجوب الشفعة في اللشين بعد المشاورة مع من يوثق به لعلمه ودينه والله أعلم»([9]).

ومما يتصل بموضوع الشفعة في الثمار ما نص عليه العلماء من جريان العمل بإيجاب الشفعة في ورق التوت إلحاقا لها بالثمار وعدمها في الفول الأخضر إلحاقا له بالبقول والخضر. جاء في عمليات أبي زيد الفاسي ما نصه:

وورق التوت بـه الشفعـة لافي الفول الأخضر على ما حصل

قال السجلماسي في شرح البيت:

«المعنى أنه جرى العمل بثبوت الشفعة في ورق التوت، فإذا باع أحد الشريكين أو الشركاء نصيبه منه كان لمن بقي أن يشفع في المبيع لشبه ورق التوت بالثمار التي استحسن الإمام مالك الشفعة فيها كما تقدم، بخلاف الفول الأخضر يباع على الجذ فلا شفعة فيه لشريك البائع لقرب الفول الأخضر من البقول والخضر التي لا شفعة فيها، هذا الذي كان يختاره ويقول به الإمام العلامة والد الناظم سيدي عبد القادر رحمه الله»([10]).

وقال التسولي: «ويدخل في الثمار المقاثي (...) والباذنجان والقرع والزيتون والقطن وورق التوت ونحو ذلك من كل ما له أصل تجنى ثمرته ويبقى أصله، فيخرج الزرع إلا الفول الذي يباع أخضر، فإن فيه الشفعة والجائحة كما لأبي الحسن. قلت وعمل فاس على عدم الشفعة فيه»([11]).

وإذا كان العمل المذكور يجد سنده فيما اختاره الشيخ عبد القادر الفاسي وهو من أئمة الترجيح في المذهب، فإن لهذا الاختيار الذي انبنى عليه هذا العمل، ما يشهد له بالاعتبار حسب ما نبه عليه السجلماسي:

- أما ورق التوت فيجري إيجاب الشفعة فيها على قول ابن حبيب، حيث تتنزل عنده منزلة الثمار، خلافا لابن القاسم الذي يلحقها بالبقول في عدم الشفعة.([12])

- وأما الفول الأخضر فإيجاب الشفعة فيه مختلف فيه في المذهب. قال السجلماسي ناقلا عن صاحب التوضيح:

«فإن بيع البقول والحنطة والعدس والحمص بعد أن أفرك وقبل قسمه ولم يشترط قطعه ولا بقاؤه، فقال ابن عبد الحكم يفسخ كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وقال ابن القاسم يفوت باليبس ويمضي، وفي المدونة أكرهه فإذا وقع وفات فلا أرى أن يفسخ. الشيخ أبو محمد: معناه يفوت بالقبض، وفي الموازية إن نزل لم أفسخه وظاهره أنه يمضي بمجرد العقد. هـ ومثله للقلشاني.([13]) فعلى غير ما في الموازية من هذه الأقوال لا شفعة؛ لأنه قبل الفوات يفسخ البيع وبعد الفوات باليبس تسقط الشفعة، والله أعلم»([14]).

ومما ينبغي الإشارة إليه في هذا المقام أن ورق التوت وإن جرى العمل فيه بإيجاب الشفعة، فإن من الفقهاء من رأى امتناع الشفعة فيها تنزيلا لها منزلة الثمار الصيفية التي جرى العمل بسقوط الشفعة فيها كما هو الشأن عند القاضي بن سودة، بل نص القاضي سيدي العربي بردله على أن العمل جار على سقوط الشفعة في ورق التوت، كما نقل بعض تلامذة الشيخ عبد القادر الفاسي ما يفيد رجوعه عن اختياره المذكور، جاء في نوازل التسولي ما نصه:

«وسئل سيدي محمد التاودي بن سودة بما نصه: سيدي رضي الله عنكم جوابكم عن مسألة الشفعة في ورق التوت، هل هي معمول بها أم لا؟ مع أن أهل هذه الحضرة كلهم ممن له تعلق بها إذا سألتهم، يقولون لا شفعة فيها وأما ما ذكر صاحب العمليات فذلك عمل كان لأهل ذلك الزمان، لا سيما وقد نقل في شرحها عن شيخه القاضي ما يدل على أن لا عمل فيها مقرر، والمسألة ذات خلاف، وإذا كان العمل على أحد القولين، وجب المصير إليه، وعدم الشفعة اليوم عند من يتعاطى ورق التوت أمر شائع ذائع غير منكر والسلام.

فأجاب بما نصه أعزه الله ومن خطه نقلت: الحمد لله الجواب والله الموفق سبحانه أن ورق التوت لا شفعة فيه، هذا الذي شاهدناه وتلقيناه، ومن جهة النظر أن ورق التوت إن عد من الثمار فقد تقرر أن العمل بالشفعة فيها في الخريفية دون الصيفية، لقلة مكثها فيخف الضرر، والورق المذكور أقل مكثا وأقبل للقسمة بالوزن، وعلى رؤوس الشجر، والله سبحانه أعلم، وكتب عبد الله تعالى محمد التاودي بن الطالب بن سودة تغمده الله برحمته آمين، وتقيد تحته ما نصه: الحمد لله، الذي ينبغي التعويل عليه أنه لا شفعة في ورق التوت، ووجهه واضح لأن سبب الشفعة رفع الضرر أو تخفيفه وهو منتف فيه لقصر زمن خدمته، كما هو مشاهد، وما ذكره ناظم العمليات في شرحها من اختيار والده القول بشفعته هو كذلك، إلا أنه حكى بعض فضلاء تلامذته أنه رجع عن ذلك إلى الجزم أنه لا شفعة فيها»([15]).

الهوامش:


([1]) قال الشيخ ميارة: «اختلف في المراد باليبس هل هو حضور وقت جذاذها أو ارتفاع منفعتها ببقائها في أصلها، قال ابن عرفة: ومعنى يبسها هو حضور وقت جذاذها للتيبيس إن كانت تيبس أو للأكل إن كانت لا تيبس، وكذا هو النص لابن كنانة فهو تفسير لقول ابن القاسم، قلت: ظاهر الروايات في هذا الموضع أن يبسها ارتفاع منفعتها ببقائها في أصلها لا حضور وقت قطافها، فقد يحضر ويكون لبقائها زيادة منفعة كالعنب والرمان عندنا». شرح ميارة للتحفة 2/73.

([2]) التهذيب لأبي سعيد البراذعي 4/151، وانظر كذلك التاج والإكليل للمواق بهامش مواهب الجليل للحطاب، 7/379.

([3]) شرح ميارة للتحفة، 2/70-71.

([4]) تحفة أكياس الناس، ص 298-299.

([5]) شرح ميارة للتحفة، 2/73.

([6]) انظر شرح العمل الفاسي للسجلماسي، 2/269.

([7]) نفسه، 2/270، والمعيار 8/86.

([8]) النوازل الصغرى، 3/615.

([9]) النوازل الصغرى للوزاني، 3/621.

([10]) شرح العمل الفاسي، 2/274.

([11]) البهجة في شرح التحفة، 2/208.

([12]) شرح العمل الفاسي للسجلماسي، 2/274.

([13]) إلى هنا ينتهي كلام التوضيح.

([14]) شرح العمل الفاسي للسجلماسي 2/274-275، وتحفة أكياس الناس للوزاني ص 300.

([15]) نوازل الشفعة وفقا للمذهب المالكي وما جرى به العمل في المغرب، جمع وترتيب عبد الحي العمروي وعبد الكريم مراد، ص294-295.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق