وحدة الإحياءدراسات عامة

فقه السياق وحدود التأويل.. دراسة مقاصدية

رُوي عن الإمام “الشافعي” أنه قال: “ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس”، وهي عبارة أوردها “السيوطي” في “صون المنطق والكلام” وفسرها الدكتور “علي النشار” بأنها من أدلة معرفة الإمام “الشافعي” بالمنطق الأرسطي حتى وإن لم يتأثر به في وضع منهجه، وفسرها غيره بأن هذا القول لا يعني أكثر من أن منطق “أرسطو” لا يصلح لمعالجة القضايا الشرعية لأنه مستخلص من اصطلاح اليونانيين في التخاطب والاحتجاج والاستدلال..

 ونفسرها نحن بأنها منهجية أصولية مبكرة، تجعل النص القرآني مرتبطًا بقوانينه اللغوية، وأن قراءته لا يمكن أن تتم معزولة عن سنن نزوله، وعن قواعد تنزيله، والنص القرآني جاء وحيًا لا يصنعه القارئ، وإنما يُصَنع القارئ على ضوء أوامره ونواهيه، فالنص القرآني توقيف جاء من عالم الغيب، وليس تآليفًا تخلق في عالم الشهادة، وفي ضوء هذه المسلمة المنهجية تصبح القراءة المفتوحة للنص محكومة من أعلى بقانون المرسِل، وليست مجرد انعكاس لفعل المستقبِل فهمًا أو تأويلاً، وكما يقول “الشاطبي” في “الموافقات”: “فإن النص المؤوَّل به إما أن يقبله اللفظ أولاً. فإن لم يقبله؛ فاللفظ نصٌّ لا احتمال فيه، فلا تأويل”.

إن حرية التأويل لا تعني أنه فوضى يصنعها كل قارئ على هواه، ولو نحينا فكرة “القطع” من النص المنزل وجعلناه مجرد نسق احتمالي يتم تعبئته عبر الإنسان والزمان والمكان، لاختفى وجود الأمر والنهي في الأحكام الشرعية، أي لانتفت حقيقتها التي هي الأمر والنهي.

وفي ضوء هذا التصور نعالج موضوعنا في مبحثين:

المبحث الأولفقه السياق.

المبحث الثانيحدود التأويل.

المبحث الأول: فقه السـياق

أولاً: في مفهوم السياق

تجد فكرة السياق مرجعيتها في مبحث “الدلالة” في جانب، وفي نظرية “النَّظْم” من جانب آخر. الأولى عرضها الإمام “فخر الدين الرازي” في تعريفه للسياق بقوله: “نريد بالسياق كل ما يكتنف اللفظ الذي نريد فهمه من دوالَّ أخرى”. والثانية عرضها “عبد القاهر الجرجاني” بإيجاز، ثم بتفصيل، في كتابه “دلائل الإعجاز” قال: “هذا كلام وجيز يطلع به الناظر على أصول النحو جملة، وكل ما يكون به النظم دَفْعةً واحدة، وينظر منه في مرآة تريه الأشياء المتباعدة الأمكنة قد التقت له حتى رآها في مكان واحد مشئمًا قد ضم إلى معرق ومغرَّبًا قد أخذ بيد مُشرِّق”، وهذا يعني أن الحس اللغوي أخذ ينتعش ويتذوق الأساليب ويزنها بقدرتها على رسم المعاني والتأثير بها، فالاعتبار عند “عبد القاهر” بمعرفة دلالة العبارات والعلائق بين الكلمات، وليس معرفة العبارات.

والسياق في جوهره قديمًا وحديثًا ليس إلا عبارات مكتنزة، وعلاقات رامزة، تحدث داخل اللغة أو خارجها ولكنها لا تحدث بدونها، ودلالة السياق وعلاقاته لها مفهوم عام يتعلق باللغة وقوانينها، ولها مفهوم خاص يرتبط بالمتلقي ذوقًا وظرفية، وينبغي أن يكون السياق العام حاكمًا، والسياق الخاص محكومًا؛ لأن العام يستغرق والخاص يتفرد، وحاكمية العام باعتباره قانونًا يرتبط بالنزول، ولا يتعارض مع إلزامية الخاص باعتباره من فقه التنزيل. وهذه التراتبية في مستوى السياق بين عام وخاص لا تنفي الترابط العضوي بينهما لأن “السياق، كما يقول الدكتور “تمام حسان” بحق، كالطريق لابد له من معالم توضحه، ولا شك أن مباني التقسيم وما تبدو فيه من صيغ حرفية وصور شكلية، وكذلك مباني التعريف مع ما تبدو به من لواحق مختلفة تقدم قرائن مفيدة جدًّا في توضيحات منحنيات هذا الطريق، ولكن السياق، حتى مع وضوح الصيغ واللواصق، يظل بحاجة إلى كثير من القرائن الأخرى التي تتضح بها العلاقات العضوية في السياق بين الكلمات”.

إن السياق في مفهومه الدقيق هو لغة وقرائن وظروف، هو لغة في قانونه، وقرائن في قواعد فهمه، وظروف في شرائط تفعيله، والسياق يرتبط عضويًّا بهذه الثلاثية المفهومية ليصبح المجموع آلية منهجية لفهم النص، وهو ما يشير إليه “ابن حزم” رغم ظاهريته “بأن الحديث والقرآن كله؛ (أي النص المؤسس في الإسلام) كلفظة واحدة، فلا يحكم بآية دون أخرى، ولا بحديث دون آخر، بل يضم كل ذلك بعضه إلى بعض؛ إذ ليس بعض ذلك أولى بالاتباع من بعض، ومن فعل غير هذا فقد تحكم بلا دليل”، وما يقوله “ابن حزم” هو في حد ذاته من أقوى الأدلة على أهلية السياق في المنهجية الأصولية، فلا يقال، كما تردد عند ابن دقيق العيد، أن “دلالة السياق لا يقام عليها دليل”؛ لأن السياق ليس ذوقًا مجردًا، وليس قرينة فحسب، وهو ما حرره الإمام “الغزالي” في “المستصفى” بقوله: “ويكون طريق فهم المراد، تقدم المعرفة بوضع اللغة التي بها المخاطبة، ثم إن كان نصًّا لا يحتمل، كفى معرفة اللغة، وإن تطرق إليه الاحتمال، فلا يُعرف المراد منه حقيقة، إلا بانضمام قرينة إلى اللفظ، والقرينة إما لفظ مكشوف. وإما إحالة على دليل العقل. وقوله عليه الصلاة والسلام: “قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن”، وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وسوابق ولواحق، لا تدخل تحت حد الحصر والتخمين، يختص بدَرْكها المشاهد له، فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة، أو مع قرائن من ذلك الجنس أو جنس آخر، حتى توجب علمًا ضروريًّا بفهم المراد، أو توجب ظنًّا، وكل ما ليس له عبارة موصوفة في اللغة تتعين فيه القرائن”.

ويضرب الإمام “الغزالي” مثالاً لتحديد المراد باعتبار السياق في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الجمعة: 9)؛ يقول حجة الإسلام: “إنما نزلت وسيقت لمقصد وهو بيان الجمعة، وما نزلت الآية لبيان البياعات، ما يحل منها وما يحرم، فالتعرض للبيع، يخبط الكلام ويخرجه عن مقصوده، ويصرفه إلى ما ليس مقصودًا منه، وإنما يحسن التعرض للبيع إذا كان متعلقًا بالمقصود، وليس يتعلق به إلا من حيث كونه مانعًا للسعي الواجب، وغالب الأمر في العادات جريُ التكاسل والتساهل في السعي بسبب البيع، فإن وقت الجمعة يوافي الخلق وهم منغمسون في المعاملات، فكان ذلك أمرًا مقطوعًا به، لا يتمارى فيه، فعقل أن النهي عنه لكونه مانعًا عن السعي الواجب، فلم يقتض ذلك فسادًا، ويتعدى التحريم إلى ما عدا البيع من الأعمال والأقوال، كلِّ شاغل عن السعي، لفهم العلة”.

وبعيدًا عن الخلاف الفقهي المذهبي حول فساد البيع أو صحته، فإن حجة الإسلام الإمام “الغزالي” أصاب كبد الحقيقة في بيان السياق ومتعلقاته نظريًّا وعمليًّا، إلا أن نظرية السياق وهي تتحرك في فضاء النص لا ينبغي تعميم قواعدها بعيدًا عن طبيعة “النص” الذي نتعامل معه، فالبون شاسع، رغم وحدة لغة الخطاب، بين نص جاء به الوحي، ونص أبدعته عبقرية الإنسان، وهذا يقتضي معرفة خصائص النص القرآني الذي نبحث عن مراداته في ضوء نظرية السياق.

ثانيًا: في خصائص النص القرآني

1. القرآن الكريم نص إلهي

وهذه الخصيصة الأولى للقرآن الكريم إذا غابت عن الناظر فيه، قارئًا أو مستنبطًا، مفسرًا ومؤولاً، فَقَدْ فَقَدَ القاعدة المنهجية الأولى للتعامل مع النص الإسلامي الأول، لأن قضايا الإعجاز والغيب والنبوة، لا تفهم ولا تستوعب إلا باعتباره نصًّا إلهيًّا، نزل بلسان عربي مبين. وهذا يقتضي ما يلي:

أ. هناك مسلمات في الاقتراب من النص القرآني، فلا تفهم أحكامه ولا تستوعب تشريعاته، عند أولئك الذين يرونه نصًّا بشريًّا، إنكارًا أو ارتدادًا، فكل تفسير لهذا الكتاب بالرأي أو بالمأثور، لابد من انطلاقه من بَدَهية أولى هي إلهية النص، ولا تعني “إلهية النص” جموده أو تجميده، وإنما تعني أن العقل مرتبط بالنص، مهمته فهم أحكامه، لا أن يتجاوزها، أو يأتي بابتداع جديد لا سند له من كليات النص، ومقاصد الشرع. وفي ضوء هذا تُفهم محاولات الخروج على النص عند “محمد أركون”، و”نصر أبو زيد”، و”محمد شحرور” وغيرهم، وغالبية ما سماه البعض بالقراءة الحديثة للنص المقدس تستهدف القطيعة بين النص وبنيته الداخلية وطبيعته الذاتية تحت وهم أن الإنسان لا يمتلك الحقيقة لأن ما لديه هي نسخ بشرية من الكتاب الإلهي.

ب. إن عربية النص القرآني تقتضي عند فهمه ودراسته، الانقياد لقوانينه اللغوية وقواعده الصرفية والأسلوبية، مع التأكيد على أنه نص إلهي وليس نصًّا بشريًّا، وقد دعا “الراغب الأصفهاني” في “مقدمة تفسيره” إلى ضرورة انقياد المفسر للنص، فلا يجافي منطق اللغة، ولا ينأى عن دلالتها اللغوية والمعنوية، وإلا خرج إلى التأويل “المستكره” الذي يرغم النص على أن ينطق بما ليس فيه، وهنا يُغَيِّب “النص” من أجل حضور “قارئ” مجهول الهوية، فاقد للجنسية، وهنا نثمن بحق ما قاله “يحيى رمضان” في أطروحته “القراءة في الخطاب الأصولي” أنه: “لا مجال للبحث عن مقاصد منزل الوحي في غير نص الوحي ذاته، فمن خلاله وحده يتم الوصول إلى معناه، وليس عبر أشياء أخرى خارجة عنه، إذ من غير الممكن سؤال منزل الوحي عما يقصد بما قال أو عما يريده منه، فالنص وحده هو المسئول، والقارئ وحده ـ لا غير ـ مكلف باستنباط المعنى فلا أحد من المكلفين ـ كما يقول الأصوليون ـ يعلم كلام الله اضطرارًا وإنما يعلمه باستدلال واكتساب… ومن هنا ميزوا بين الفقيه “القارئ” وبين حامل الفقه غير القارئ… وأن هذا النص، ثانيًا وبسبب مصدره الإلهي، وخاصية الإعجاز فيه، يصل إلى أعلى درجات الغنى الدلالي ويفتح آفاقًا واسعة لإيحاءات المعنى، إلى الحد الذي جعل “سهل بن عبد الله” يقول: “لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن فهمًا لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه، لأنه كلام الله، وكلامه صفته، وكما أنه ليس لله نهاية، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه”.

2. عمومية النص القرآني

وهي عمومية خطاب يستوعب الزمان والمكان والإنسان، فلا يتحدد بسببية نزول، ولا بظرفية وقائع، فهو لا يتوجه فحسب إلى بيئته التي نزل فيها، أو زمنه الذي تنزل فيه الوحي، فالقرآن خطاب للإنسانية كلها في صيرورتها التاريخية، وامتداداتها الجغرافية، وهذا أحد معاني ختم الرسالة الإسلامية.

والقول بعمومية النص القرآني يلزم بما يلي:

أ. أن هذا النص لا يتحدد عمله، ولا تتقيد أحكامه بالحياة المعاصرة لنزوله، فكل قول بتاريخية النص، أو نسبية أحكامه يُعد خروجًا على طبيعة النص القرآني، ويتضمن مغالطة أو سوء نية ممن يحاول فهم نصوص القرآن الكريم بهذا المنهج المعكوس.

ب. صلاحية النص القرآني لكل زمان ومكان، وهذه الصلاحية اقتضت أن يكون تركيبه من نوع خاص، يلائم هذه الصلاحية ويسندها، ويدور معها أينما كانت، وحيثما وُجدت، من هنا لم يكن القرآن زمنيًّا بيئيًّا إلا من حيث الظواهر اللغوية، والخصائص التركيبية، باعتباره نزل بلغة عربية لها أسلوبها الخاص، وطريقة بنائها، فهو عدا أبنيته اللغوية نص لا يحده زمان أو مكان أو إنسان.

3. قطعية النص القرآني

فالقرآن كله قطعي الثبوت، وإن كانت بعض آياته قطعية الدلالة، وبعض آياته ظنية الدلالة، وقطعية الثبوت تلزم بما يلي:

أ. أن النص القرآني بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، لا سبيل إلى الإضافة إليه أو الإنقاص منه، فقد بلغ النص بانقطاع الوحي مرحلة الكمال، كمال الدين واكتمال الكتاب على السواء.

ب. أن الدلالة القطعية والدلالة الظنية في النص القرآني ليست مجرد تحديد لمجال عمل العقل في مواجهة النص، بل هي، بالدرجة الأولى، تحديد للثابت والمتغير في حياة الناس، فالثابت جاءت نصوصه تفصيلية وأغلبها قطعية، والمتغير تضمنته النصوص ذات الدلالة المرنة أو المفتوحة والتي تصنع المبادئ العامة والقواعد الكلية.

 وقطعية الثبوت في النص القرآني هي التي يحاول “محمد أركون” بقراءته الجديدة، وتأويله المنعكس على ذاته، أن يشكك فيها “ليثبت للغرب، كما يقول “عبد المجيد الصغير” بحق، أن المسلمين ليس لديهم نص قطعي الثبوت، فلا داعي للحزن، فليس للعرب امتياز على المسيحية، ورغم كل ما حاوله “أركون” ليثبت أنه على يقين مما يقول فإن اليقين، كما قيل، في مقاييس البحث العلمي ليس حجة بذاته، وإنما يكتسب حجيته من الدليل الذي يتكئ عليه. وبعبارة أخرى في لغة البحث الأصولي “إن الانكشاف ليس حجة علمية بذاته، والانكشاف الذي يدخل دائرة العلم في مختلف مراحل تفسير العلم إنما هو الانكشاف الذي يستند إلى قاعدة، فالحجية يكتسبها الانكشاف اكتسابًا من دليله وقاعدته التي يستند عليها، فحدوس العلماء تبقى ملكًا لهم، ولا تضحى ملكًا مشاعًا للعلم إلا بعد أن تدعمها الحجج والأدلة التي يصح الرجوع إليها”.

ومن هنا، فإن اليقين “الأركوني” بضرورة منهجية القطيعة مع القراءة التراثية، والقطيعة مع الخطاب الإسلامي والذي يدخل في استمرارية ابستيمولوجية مع الفكر الإسلامي التقليدي، هذا اليقين يقين ذاتي يلبي حاجة “أركون” إلى علم جديد للأديان أهم ما فيه البُعد الأسطوري، والبُعد النقدي، وهما بُعدان يتوقفان عنده على ضرورة تنحية الوحي لصالح القول ببشرية ما لدينا من كتب سماوية. وهي قراءة لا أظن أن مقاصدها خافية على الوعي الإسلامي قديمًا وحديثًا، وهو وعي يرى في القول بمنهجية للقطيعة، بدونها لن ندخل عصر الحداثة، وهمًا يعشش في أذهان أصحابه.

وأختم هذا المبحث بالقول إن فقه السياق يستوعب ألفاظ النص بدلالتها الحقيقية والإضافية بتعبير “ابن القيم”، وتستوعب “النَّظْم” بما يحتويه من علاقات عضوية لا يفهم مراد النص بدونها، فالسياق هو دلالات الألفاظ بأوسع ما تدل عليه من معانٍ، والعلاقات بين الكلمات بكل ما تمتلكه من قرائن تختزنها طبيعتها الاحتمالية وفي الدلالات، يستوي في الأهمية دلالة المقال ودلالة الحال، وفي القرائن تستوي القرائن المعنوية والقرائن اللفظية.

المبحث الثاني: حدود التأويل

إن اللفظ في سياقه الخارجي فيه معنى يبدو لأول وهلة، وفيه معاني كامنة، يقول عنها البعض “ما وراء النص” أو “باطنه”. وفي المساحة بين الوضوح والخفاء يتحرك التأويل عند المعاصرين في اتجاهين؛ اتجاه يعتمد التحديث بآلية غربية باعتباره المدخل الوحيد لتفعيل النص وتحديثه، ومن هؤلاء “محمد أركون“، و”نصر أبو زيد“، و”علي حرب“، وغيرهم، واتجاه يرى التحديث عملية داخلية لا يمكنها الاعتماد على آليات نشأت في بيئة تختلف عن بيئتنا الإسلامية على كل المستويات الدينية والثقافية والاجتماعية، وأبرز ممثل لهذا الاتجاه هو الفيلسوف المغربي المعاصر “طه عبد الرحمن“، والذي ينادي بحداثة إسلامية تعبّر عن روح الأمة وتستجيب لمقاصد الشريعة، وللوصول إلى هذه الحداثة علينا مواجهة موجات الحداثة الغربية، وهذا يتم بأمرين:

أولهما؛ إبطال المسلمات التي صاحبت تطبيق الغرب لروح الحداثة، وأدخلت عليها آفات تختلف باختلاف أركان هذه الروح.

وثانيها؛ البحث عن روح الحداثة الإسلامية ومبادئها، وهي مبادئ حاكمة للعقل، ضابطة لحدود التأويل، وهذا باعتبار أن التفسير بحث في مدلول النص، والتأويل بحث في معقول النص.

أولا: التأويل المتجاوز: أركون “نموذجًا”

كما فعل “رافائيل باتاي” في محاولته لرصد عقل عربي، وعقل يهودي، لكي يسلب الأمة العربية قدرتها على الخروج من دائرة الكلمة إلى الفعل، ومن الماضي إلى المستقبل وذلك في كتابه “العقل العربي” سنة 1973، و”العقل اليهودي” سنة 1977.. فإن “محمد أركون”، ومعه مدرسته، يبلور مشروع قراءته الجديدة بقوله: “نحن نهدف من خلال دراستنا النقدية التاريخية للعقل الإسلامي إلى الإمساك بالظاهرة الدينية في عموميتها الشاملة التي تتجاوز من حيث الاتساع الدائرة اللغوية، والقومية الواحدة سواء أكانت عربية أم تركية أم إيرانية أم باكستانية أم غير ذلك، بل سوف نذهب أبعد من ذلك، ونقول إنه إذا ما أنجزنا دراسة العقل الإسلامي على هذا النحو فسنكون أكثر قدرة على فهم العقل العربي ضمن مقياس أنَّا نتجنب عندئذ كل الأحكام المسبقة الشائعة بخصوص العروبة والإسلام، وضمن مقياس أن الفكر العربي لا يزال محكومًا حتى هذه اللحظة بالمقولات الأساسية للفكر الإسلامي القرسطي”.

وهذه من “أركون” مقولات إدانة لا استبصار، خاصة وأنه يدرك أن منهج التأويل لابد أن يتغير إذا ما اقتربنا من نص ديني (فما بالك بالقرآن؟!).. يقول “أركون”: “إن هناك علاقة بين القارئ والنص القرآني لا أستطيع كسرها أو تهمشيها، لا أستطيع أن أعتبر النص كمجرد جوهر صوتي فونولوجي و”سيمانتي” معنوي ثم أبدأ بتفكيكه وكأنه آلة ميكانيكية جامدة، إن نصًّا ما وخصوصًا إذا كان نصًّا دينيًّا قد صُنع ليُقرأ ويُعاش، وهنا نلتقي بمفهوم اللغة الدينية باعتبارها مجرد لغة عادية كبقية اللغات”.

ولكنه رغم هذا الإدراك لا يقرأ التأويل إلا باعتباره مدركًا رمزيًّا لما جاء به الوحي، وهو ما سبق إليه “لالاند” في تعريفه للتأويل في “معجمه الفلسفي”. ولعل اللافت للنظر أن كل آليات التأويل عند “أركون” هي آليات جديدة أفرزها فكر “ما بعد الحداثة”، وهنا يصح ما قاله البعض “إن مشاريع الحداثة العربية تستند إلى قراءات تستمد جهازها المفهومي وحتى إشكالياتها من سياقات نظرية ما بعد الحداثة، وهنا نتساءل عن مدى مشروعية هذا الاستيراد وجدواه في دراسة مجتمعات لم تعرف الحداثة بعد! بل إننا نتساءل عن جدوى قراءة النص القرآني وتأويله بعيدًا عن قوانينه وسياقه إلا إذا كان الهدف العودة إلى تأويل أيديولوجي يجعل النص حبيس القراءة، بعيدًا عن وظائفه الأساسية في الأمر أو النهي، أو بعيدًا عن عنصر الإلزام فيه باعتباره نسقًا تشريعيًّا!

ولا أدري كيف فهم “أركون” النص القرآني وهو الذي قرر “أن أي إعادة قراءة لا يمكن أن تتوصل إلى المعنى التاريخي الكامل للعبارات اللغوية القرآنية… لأن المواد أو الوثائق الأساسية والضرورية للتوصل إلى معرفة صحيحة بالقرآن قد اندثرت إلى غير رجعة”؟! وماذا بقي لنا، إذا صح ما يقوله “أركون”، إلا أن نسحب القرآن، كتاب الإسلام المؤسس وكتاب العربية الأول، من التداول لأن الوثائق الأساسية المؤدية إلى المعرفة الصحيحة بالقرآن قد ذهبت إلى غير رجعة؟!

ثانيا: “الحداثة الإسلامية”: طه عبد الرحمن نموذجًا

ينطلق “طه عبد الرحمن” في ابتكاره لحداثة إسلامية من ضرورة إبطال المسلمات التي صاحبت تطبيق الغرب لروح الحداثة، وهو إبطال يترجمه “طه عبد الرحمن” فيما يلي (كما ورد في كتابه “روح الحداثة”):

1. إبطال مسلمات الحداثة العربية

أ. إبطال مسلمات الاستغلال الغربي؛ فوصاية الأقوى الخارجي ليست عناية بالأضعف، لأنها وصاية مستعمر، كما أن الوصاية في الداخل قد لا تكون وصاية رجال الدين، وإنما وصاية رجال الاستعمار، وأخيرًا قد لا يكون الاستقلال استقلالاً عن الوصاية الدينية، وإنما استقلالاً عن الوصاية الأجنبية.

ب. إبطال مسلمات الإبداع الغربي؛ فالإبداع لا يقتضي الانقطاع المطلق، لأن الحداثة الحقة هي حداثة قيم لا حداثة زمن، ولا يقتضي الاختراع المطلق للحاجات، لأن الحاجات الحقيقية هي الحاجات الروحية، ولا هو أخيرًا يقتضي ازدهار الذات المطلق، لأن الازدهار الحقيقي هو ما تعدى نفعه إلى الغير.

ج. إبطال مسلمات التعقيل الغربي؛ فالعقل لا يعقل كل شيء، لأنه لا يمكن أن يعقل ذاته، كما أنه لا ينقد كل شيء، لأن الأشياء ليست كلها ظواهر، وأخيرًا لا يسود الطبيعة لأنها أم الإنسان وليست أَمَةً له.

د. إبطال مسلمات التفصيل الغربي؛ فلا إطلاق في الفصل بين الحداثة والدين، لأن أهل الحداثة توسلوا بمفاهيم دينية، كما أن رجال الدين ساهموا في بناء الحداثة. كما لا إطلاق في الفصل بين العقل والدين، لأن العقلانية مراتب، ينزل الدين إحداها. وأخيرًا لا محو للقدسية من أفق الإنسان، لأن الإنسان كائن متصل، ولأن العالم جملة من الآيات، فضلاً عن كونه جملة من الظاهرات.

ﻫ. إبطال مسلمات التوسع الغربي؛ فالتطبيق الغربي لروح الحداثة ليس واقعًا حتميًّا؛ لأن الإنسان أقوى من هذا التطبيق. ولا هو يورث القوة الشاملة، لأن جسمانية الإنسان بقيت فيه منقطعة عن روحانيته. وأخيرًا ليست ماهية الحداثة ماهية اقتصادية، لأن ماهية الإنسان الحقيقية هي ماهية أخلاقية.

و. إبطال مسلمات التعميم الغربي؛ فإن روح الحداثة لا توجب التفكير الفرداني، ولكنها توجب التفكير المتعدي المناسب للمجتمع العالمي. كما أن الحداثة العلمانية لا تحفظ حرمة الأديان، لأنها لا تنفي عقلانية الآلات، وتنكر عليها عقلانية الآيات. وأخيرًا ليست كونية قيم الحداثة الغربية كونية إطلاقية، وإنما كونية سياقية”.

خلاصة هذه المسلمات التي وجب إبطالها في نموذج “طه عبد الرحمن”: “أن مقتضى الحداثة الإسلامية يضاد مقتضى الحداثة الغربية، وتوضيح ذلك.. أن العقل الحداثي الغربي قام على أصل التصارع مع الدين، بما يجعل الإبداع الذي تجلى به هذا الفعل هو من جنس الإبداع المفصول، في حين يتبين أن العقل الحداثي الإسلامي لا يقوم إلا على أصل التفاعل مع الدين، بحيث يكون الإبداع الذي يتجلى به هذا الفعل من جنس الإبداع الموصول”.

2. اعتماد المبادئ الإسلامية

لأن هذا التناقض هو الواقع الفعلي بين حداثة غربية شاردة، وحداثة إسلامية واعدة جعل “طه عبد الرحمن” روح الحداثة الإسلامية تقوم على مبادئ ثلاثة:

أ. مبدأ الرشد: والذي يتكون من ركنين هما “الاستقلال” و”الإبداع“.

ب. مبدأ النقد: الذي يتكون هو الآخر من ركنين “التعقيل” و”التفصيل“.

ج. مبدأ الشمول: الذي يتكون هو الآخر من ركنين هما “التوسع” و”التعميم“.

3. قراءة حداثية للنص القرآني

يرى “طه عبد الرحمن” أن قراءة الآيات القرآنية وتأويلها لا يكون قراءة حداثية مبدعة بحق حتى تستوفي شرطين اثنين هما:

أ. رعاية قوة التفاعل الديني مع النص القرآني، أو بعبارة أدق: “ترشيد التفاعل الديني“.

ب. إعادة إبداع الفعل الحداثي المنقول، أو قُل: “تجديد الفعل الحداثي“.

وهنا يجب تقرير حقيقتين اثنتين، بقدر ما هما أساسيتان، تبدوان غريبتين لخروجهما عن مألوف الممارسة الفكرية لدى كلتا الفئتين المقلِّدتين المتضادتين: “فئة التراثويين” وفئة “الحداثويين“، حتى إنهما مفارقتان صريحتان، والأمر ليس كذلك لأمرين:

الأول؛ أن ترشيد التفاعل الديني يحصل بواسطة الفعل الحداثي نفسه؛ لأن أحد مكونات هذا الفعل في القراءة الحداثية هو الآلية التنسيقية، وهي ذات صبغة انتقادية. وترشيد التفاعل الديني في القراءة إنما يحصل متى وقع التوسل فيها بهذه الآلية التنسيقية الانتقادية.

الثاني؛ أن تجديد الفعل الحداثي يحصل بواسطة التفاعل الديني نفسه؛ لأن واحدًا من مكونات هذا الفعل في القراءة الحداثية هو أيضًا الهدف النقدي الذي تقصده كل خطة من خططها، كما أن هذا الهدف يتخذ فيها صبغة سلبية أو قُل “هَدْمية“؛ إذ هو عائق ينبغي رفعه.

والحال أن تجديد الفعل الحداثي إنما يحصل باستبدال هدف ذي صبغة “إيجابية” أو قُل “بنائية” مكان هذا الهدف السلبي، أي إحلال هدف يجلب قيمة معينة، مكان الهدف الذي يدفع عائقًا معينًا. وأهمية هذا الاستبدال تتجلى في كون جلب القيمة أخصَّ من دفع العائق، بحيث يلزم هذا الدفع من ذاك الجلب، فينهض الهدف الإيجابي أو “البنائي” بما ينهض به الهدف السلبي أو “الهدمي”، فضلاً عن نهوضه بما يختص به، وهكذا فإن مبدأ البناء في القراءة المبدعة مقدم على مبدأ الهدم، خلال القراءة المقلدة التي يتقدم فيها مبدأ الهدم.

وهكذا يقدم “طه عبد الرحمن” مشروع قراءة إبداعية بحدود تأويل محكمة، ليكون بديلاً لما أسماه “القراءات البدعية الانتقادية” مثل قراءة “أركون” و”نصر أبو زيد” و”شحرور” وغيرهم، إذ يقول: “فالقراءات الحداثية لا تريد أن تحصل اعتقادًا من الآيات القرآنية، وإنما تريد أن تمارس نقدها على هذه الآيات”.

وكما تقول “بوزبرة عبد السلام” في كتابها عن “طه عبد الرحمن ونقد الحداثة” إن “طه عبد الرحمن” لم يسع إلى هدم الآليات المنهجية التي يستند إليها “المقلدة الحداثيون” في قراءاتهم الخاصة للقرآن الكريم، بل سعى برؤية منهجية واضحة إلى “تفكيك خططهم التي تروم قطع القرآن عن الوحي والأخلاق باسم العقلنة والأنسنة والأرخنة، ولم يكتف صاحب المشاريع الفكرية والفلسفية الموصولة بجواهر التراث الإسلامي بعملية التفكيك وبيان نقاط الضعف في هذه القراءات، بل قام بالبناء على الآليات التنسيقية التي جاءت بها هذه القراءات، بروح علمية متميزة، حيث أفرغتها من محتواها الغربي الانتقادي المفصول، ليؤسس عليها قراءة حداثية للقرآن الكريم تمثلت أبرز خصائصها في أنها قراءة اعتقادية مبدعة وموصولة بالوحي الإلهي”.

خاتمة

لقد حاولت قراءة فقه السياق وحدود التأويل في إطار الأنساق الكلية، وليس من خلال الأحكام الفقهية، وكانت غايتي أن أقرأ في ضوء الكلي تأويلات جزئية جاء بها فقهاء كبار في طريق العودة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، يأتي في مقدمتها تأويل العلامة الشيخ “محمد أبو زهرة” لآيات السرقة بأنها تفيد ضرورة التكرار قبل تطبيق حد السرقة، لأن صفة السارق كما تقضي قواعد اللغة وسياق الآيات بذلك. وهناك تأويلات أخرى في موضوعات هامة قال بها “محمد عبده”، و”رشيد رضا”، و”عبد المتعال الصعيدي” لعلها تُقرأ باعتبارها من تأويلات أهل السنة، دون تبديد للمنقول، وإهدار للمعقول.

Science
الوسوم

د. محمد كمال الدين إمام

كلية الحقوق/جامعة الإسكندرية

جمهورية مصر العربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق