مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةأخبار الرابطة

فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء أ.د. أحمد عبادي يحاضر بتطوان في موضوع: “جدلية الدين والتدين في السياق المعاصر”

لطالما التبس على الناس أمر الدين والتدين فاعتبروهما سواء، خصوصا في العصر الحالي؛ عصر الإسهال المعرفي وسيولة المعلومات وحرية التصدُّر في المنابر الرقمية للقول في الدين بغير رقابة شرعية ضابطة أو أَسناد علمية موثوقة، على ما فيها من الجراءة في إصدار الأحكام وتصنيف الناس والتشويش عليهم والتحجير على العلم والعلماء. وقد أفرز هذا الالتباس بسبب القول في الدين بغير علم مكين أو سلطان ظهير الكثيرَ من مظاهر التخليط والإعنات، ساهمت في إذكائها جملة من التصورات المبتسرة والفتاوى العَجلى التي لم تستحكم بعدُ مناهج النظر ومستلزمات التنزيل؛ إذ جمع أصحابُها  جواهرَ الدين وأشكالَ التدين على وِزان واحد.

وكثيرا أيضا ما يخطئ الناس في المماهاة بين الدين وبين إنتاج العلماء طُراًّ فيجعلونهما واحدا، وليس الأمر كذلك عند التحقيق، فليس كل ما رسمه العلماء من المراسم ووضعوه من الأوضاع والمعالم يدخل في جوهر الدين وماهيته؛ فنصوص العلماء أفهام مُقتدِرة تُقدَّر بحسب مناطاتها ومتطلبات التدين وَفْقَها؛ فلا بد من مراعاة حاجيات العصر في الأخذ من أقوال العلماء عند إرادة التدين بالدين وتنزيله في الواقع على الأفراد والجماعات.

 إن استدفاع هذا التخليط الحاصل بين ثوابت الدين ومظاهر التدين؛ بين حقائق الدين في نفسها وممارسات المتدينين التي هي كسب لهم وسعي لتنزيلها وتطبيقها ـ على ما قد يعتور ذلك من خطأ في الأفهام وقصور في الانقياد وجهل بمتطلبات الأحوال ـ يستنهض العلماء الراسخين للقيام بحق الوقت في صون جوهر الدين وتنقيح وجوه التدين وآليات الممارسة الدينية، وذلك ليكون الانتقال من الدين إلى التدين انتقالا آمنا وجسرا سليما بغير افتئات في الدين وبدون ازورار في التدين.

وللمساهمة في بيان سبل تحقيق هذه الغاية النبيلة، ومن أجل تمتين فهم علمي عميق للدين برؤية عالمة تركيبية تتجاوز القراءات السطحية والأحكام المتسرعة، ما فتئ الدكتور أحمد عبادي ـ الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء ـ يتعهّد هذا الأمر بالتأصيل والتنظير جريا على قواعد العلم المعتبرة في ترشيد قراءة النصوص والإفادة منها تخلقا وتدينا  على الوجوه المرضية التي تقارب الحق وتسدده، وذلك من خلال وضع هندسة معرفية نسقية تصل الشرع بالعصر والواقعَ بالأصل، وتمتح من مرجعيات علمية متعددة إسلامية وإنسانية.

في هذا الصدد، التأمت برحاب الخزانة الداودية بتطوان يوم الثلاثاء (12 نونبر 2024) فعاليات نشاط علمي نوعي عبارة عن محاضرة تأسيسية في موضوع الدين والتدين اختار لها الدكتور عبادي وَسْمها بـ«جدلية الدين والتدين في السياق المعاصر ـ مناهج النظر ومستلزمات التجسير ـ»، مشاركة منه للنخبة العالمة وجمهور المثقفين رؤيتَه الكلية في ضبط قواعد قراءة الوحي وتحديد مسالك الاستنباط وربط ذلك بفقه الواقع.

وقد جاء هذا النشاط العلمي بفضل شراكة علمية متينة تجمع من جهة، بين مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية (التابع للرابطة المحمدية للعلماء) وبين مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة، ومن جهة أخرى بين المركز وكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان.

وقد زاد من متانة هذا التعاون توقيع اتفاقية شراكة بين الرابطة المحمدية للعلماء في شخص أمينها العام فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد عبادي وبين مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة في شخص مديرتها الدكتورة حسناء داود. وتأتي هذه الاتفاقية في إطار سياسة الانفتاح والتعاون العلمي الذي تنهجه الرابطة المحمدية للعلماء مع باقي المؤسسات العلمية والثقافية ذات الاهتمامات المشتركة، سعيا منها إلى تطوير التكوين والبحث العلمي بما يعود بالنفع والخير على الساحة العلمية والدينية.

تميز هذا اللقاء، إلى جانب حضور العلامة الدكتور أحمد عبادي والدكتورة حسناء داود، بحضور الدكتور الطيب الوزاني الشاهدي عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان والدكتور جمال علال البختي رئيس مركز أبي الحسن الأشعري، وعدد من ممثلي المؤسسات العلمية، ونخبة من مثقفي مدينة تطوان.

في بداية اللقاء رحب مسيره الدكتور جمال علال البختي، باسم جميع الحاضرين، بفضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء الأستاذ الدكتور أحمد عبادي والوفد المرافق له، وشكر بالمناسبة احتضان مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة لفعاليات هذا اللقاء العلمي، منوها بحضور ضيوف اللقاء من السادة العلماء والأساتذة والباحثين وجمهور المثقفين والمتابعين.

ثم أسلم الكلمة للدكتور الطيب الوزاني الشاهدي، الذي رحب بدوره بضيوف هذا اللقاء العلمي، معبرا عن سعادته بتنظيم تطوان لهذا الحدث العلمي الذي يعطي انطباعا واضحا عن حركية مدينة تطوان العالمة في هذه المؤسسة العتيدة التي تنسب لمؤرخ تطوان العلامة محمد داود، مثنيا على فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء بما تمثله شخصيته من صفات العالم العامل، المجسد لعمل هذه المؤسسة الدينية المرموقة في سبيل التعريف بأحكام الشرع الإسلامي الحنيف ومقاصده السامية والعمل على نشر قيم الإسلام السمحة وتعاليمه السامية.

وبعده أخذت الكلمة الأستاذة حسناء داود عن مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة، فعبرت عن ابتهاجها بالرباط الذي يجمع بين المؤسسة التي ترأسها وبين الرابطة المحمدية للعلماء، من خلال تفعيل عدد من الأنشطة التي سبق تنظيمها بتنسيق بينها وبين مركز أبي الحسن الأشعري التابع للرابطة، ومثنية في الآن نفسه على قيمة وأبعاد عقد الشراكة الذي سيتم توقيعه مع الرابطة، راجية من العلي القدير أن تكلل جهود المؤسستين بالنجاح والتوفيق.

بعد ذلك قدم مسير الجلسة ورقة تعريفية بالمحاضر الأستاذ الدكتور أحمد عبادي، الذي سعى منذ تعيينه أمينا عاما للرابطة المحمدية للعلماء إلى نشر الوعي الديني الوسطي وتعزيز قيم الحوار والتسامح، وعمل على تبسيط المفاهيم المعقدة للقضايا الدينية، مما جعله مرجعاً مهماً في فهم قضايا الدين والتدين في العصر الحديث. كما أشار المنسق إلى موضوع المحاضرة التي تسعى إلى تبسيط مفاهيم الدين والتدين التي وقعت بسببها تيارات فكرية في الخلط المنهجي، مما يدعو لا شك إلى التفريق بين الدين باعتباره وضعا إلهيا وبين التدين الذي هو كسب إنساني متغير، وهو ما ستكشفه تفاصيل محاضرة الدكتور أحمد عبادي.

قبل الشروع في بيان معاقد المحاضرة أبدى الأستاذ الدكتور أحمد عبادي سعادته بالحضور في مؤسسة داود التي تفوح بشذى وقرنفل الأصالة المستقاة من رائدها مؤرخ تطوان العالمة، الذي رصد مراحل تاريخ المدينة التليد، راجيا أن تكون هذه المحاضرة ثمرة أولى يانعة في سبيل تفعيل الشراكة التي تم توقيعها مع المؤسسة، لافتا النظر إلى موضوع المحاضرة الذي هو استكمال للدَّيْن الذي بقي في ذمته نحو جمهور ومثقفي مدينة تطوان وطلبتها في المحاضرة السابقة التي ألقاها في كلية أصول الدين بتطوان ولم يتحقق إكمال تفاصيلها بسبب ضيق الوقت في ذلك الإبان.

ثم استهل فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، محاضرته العلمية بتفكيك عنوانها؛ الذي يجمع بين عناصر أربعة مشكِّلة لمحاورها، وهي: الدين، والتدين، والسياق المعاصر، ومناهج الاستمداد ومستلزمات التجسير الأقرب إلى سلامة الدين والتدين. ومن ثم أصبح من الواجب اليوم طرح السؤال عن ماهية الدين بمفهومنا اليوم؟ وهل فعلا نمتلك – نحن بصفتنا مسلمين- الإجابة الصحيحة عنه.

وبهذا الصدد، وقف الأستاذ الدكتور أحمد عبادي على أن المسلمين اليوم يعتقدون أن تحصيل علوم الدين هو السبيل إلى تعلم الدين، مع العلم أن الدين هو جوهر هذه العلوم، وهو المعنى الذي أتى بها حديث جبريل عليه السلام: «هذا جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم»، وفي رواية «أمر دينكم»/الحديث.

إن غاية الدين بصفة عامة – يقول فضيلة الأمين العام- هو ما يمكن استنباطه من آيات عديدة من القرآن الكريم المتعلقة بجوهر هذا الدين ﴿ألا لله الدين الخالص﴾، والقائمة على دعائم أولها: التوحيد الذي تخضع له جميع الكائنات ﴿الله لا إله إلا هو﴾، وعلى الاتصال باعتباره اللحمة التي تحصل بين جميع الخلائق ﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده﴾، ومن ثم فإنه لما تحمل الإنسان الأمانة التي لم تطقها السماوات والأرض، أصبح مكلفا بتوجيه نفسه بين اتجاه الخير أو اتجاه الشر؛ أي الجانب الإرادي في الإنسان، وألزم نفسه بسلوك التوجيه الإلهي في ذلك ﴿ادخلوا في السلم كافة﴾، وهو ما بسطته الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ومأثورات إنتاج علماء الأمة.

ثم انتقل المحاضر إلى ذكر باقي الدعائم؛ ومنها: التزكية التي تعني فيما تعنيه الجمع بين المحبة والإرادة، ثم الإبصار والقصد به تجاوز الإبصار الجثماني إلى الإبصار الذي يفرق به الإنسان ويميز بين الحق والباطل، مع ما تضيفه الحكمة التي تعني: وضع الشيء في موضعه بمقداره وفي إبانه.. ليصل بعد ذلك إلى النتيجة التي يجسدها عمل الإنسان، والذي لا يكتمل إلا بالإحسان حتى يصل الإنسان إلى مرحلة السعادة التي تفهم من الآية الكريمة: ﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾ وهي بمفهوم المخالفة: بل لتسعد.

وانطلاقا مما تشربه المكلف من هذه المفاهيم والدعائم سينتقل الإنسان - يقول المحاضر- إلى الشطر الثاني - من المحاضرة- وهو عنصر التدين؛ والقصد به: هو تبليغ هذا الدين إلى الناس، لأن التدين ليس مقتصرا على التدين الفردي بل إنه يتعدى مفهومه إلى التدين الجماعي، وهو الذي يعنيه مفهوم الإعمار في الأرض الذي استخلف الله فيها الإنسان من أجله، ومهما لم يكن للإنسان القدرة على تصريف الأنفاس فإنه سوف يفقد البوصلة والتوجيه الذي يوجهه به الدين، هذا التوجيه الذي يوجزه الحديث الشريف الآمر بتبليغ الدين كما هو «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فبلغها كما سمعها..»/الحديث. وسيتطلب هذا التصريف للأنفاس مجموعة من الأبعاد تتداخل فيما بينها لتحقيق الانتقال السليم من الدين إلى التدين، ذكر المحاضر جملة منها: كالبعد الوجودي، والبعد الفكري، والبعد النفسي، والبعد الاجتماعي.. ثم بعد التوق حينما يتوق الفرد إلى أن يعيش في وئام وسلام داخل جماعته البشرية، ثم بعد التوازن وبعد الطمأنينة وغيرها من الأبعاد التي تتكاثف فيما بينها من أجل تحقيق السعادة الإنسانية.

وقد ذكر فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء في ختام محاضرته، أن هذه المقاصد والغايات التي عددها في الشطر الأول من المحاضرة، وهذه الأبعاد على جملتها التي جمعها في الشطر الثاني، تحتاج إلى من يدبرها أحسن تدبير، وهي الوظيفية التي تسمح بوجود دور حاسم لإمارة المؤمنين باعتبارها الساهر على التدبير الأسلم للتدين، سواء في التدبير الفردي أو التدبير الجماعي داخل المجتمع الواحد، وتضمن الإشراف الأمثل على التنزيل العملي لهذا التدين.

وبعد الاستماع إلى المحاضرة، فتح مسير الجلسة فسحة من أجل إشراك الجمهور الحاضر في القاعة لمناقشة بعض محاور المحاضرة، وقد تفاعل معها فضيلة العلامة الأستاذ الدكتور أحمد عبادي، حيث قدم فضيلته، كعادته، أجوبة شافية وصريحة وواقعية، عن عدد من القضايا المطروحة والتي لها ارتباط مباشر بموضوع المحاضرة وأبعادها الاستشرافية والتنزيلية.. ثم أخذت صور جماعية للحاضرين، ودعي الجمع إلى حفل شاي أقيم بالمناسبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق