مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

“فصل في غلو وإسراف طائفة من المتكلمين”

يقول أبو حامد الغزالي:

« من أشدّ الناس غلوّاً وإسرافاً، طائفةٌ من المتكلمينَ كفَّروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا، ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتنا التي حرَّرناها، فهو كافرٌ.
فهؤلاء ضيَّقوا رحمة الله الواسعة على عباده أولاً، وجعلوا الجنة وقفاً على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جهلوا ما تواتر من السنة ثانياً. إذ ظهر لهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصر الصحابة رضي الله عنهم، حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب، كانوا مشغولين بعبادة الوثن، ولم يشتغلوا بعلم الدليل، ولو اشتغلوا به لم يفهموه، ومن ظن أن مدرك الإيمان: الكلام، والأدلة المجردة، والتقسيمات المرتبة، فقد أبدع حدَّ الإبداع. بل الإيمان نور يقذفه الله في قلوب عبيده، عطية وهدية من عنده، تارة: ببينة من الباطن لا يمكنه التعبير عنها، وتارة: بسبب رؤيا في المنام، وتارة: بمشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته، وتارة:بقرينة حال.
 فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، جاحداً به، منكراً.فلما وقع بصره على طلعته البهية- زادها الله شرفاً وكرامة- فرآها يتلألأ منها أنوار النبوة، قال: والله ما هذا بوجه كذَّاب، وسأله أن يعرض عليه الإسلام، فأسلم.
وجاء آخر إليه صلى الله عليه وسلم وقال: أنشدك الله! آلله بعثك نبيا؟، فقال صلى الله عليه وسلم:«إي والله، الله بعثني نبيا»، فصدَّقه بيمينه وأسلم.
وهذا وأمثاله أكثر من أن يحصى ، ولم يشتغل واحد منهم بالكلام وتعليم الأدلة، بل كان يبدو نور الإيمان بمثل هذه القرائن في قلوبهم، لمعة بيضاء، ثم لا تزال تزداد إشراقاً بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة، وتلاوة القرآن، وتصفية القلوب.

فليت شعري! متى نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضي الله عنهم، إحضار أعرابي أسلم، وقوله له: الدليل على أن العالم حادثٌ: أنه لا يخلو عن الأعراض، وما لا يخلو عن الحوادث حادثٌ.وأن الله تعالى عالمٌ بعلم، وقادرٌ بقدرة زائدة عن الذات، لا هي هو، ولا هي غيره، إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين.
ولست أقول: لم تجر هذه الألفاظ، ولم يجر أيضا ما معناه معنى هذه الألفاظ، بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من الأجلاف يسلمون تحت ظلال السيوف، وجماعة من الأسارى يسلمون واحدا واحدا بعد طول الزمان أو على القرب، وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة عُلِّموا الصلاة والزكاة ورُدّوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم وغيرها .
نعم لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذِكْرُ أدلة المتكلمين أحدَ أسباب الإيمان في حق بعض الناس، ولكن ليس ذلك بمقصورٍ عليه، وهو أيضا نادرٌ، بل الأنفع الكلام الجاري في معرض الوعظ كما يشتمل عليه القرآن .
فأما الكلام المحرَّرُ على رسم المتكلمين فإنه يشعر نفوس المستمعين بأن فيه صنعةَ جدلٍ لِيَعجزَ عنه العامّيّ، لا لكونه حقا في نفسه، وربما يكون ذلك سببا لرسوخ العناد في قلبه. ولذلك لا ترى مجلس مناظرة للمتكلمين ولا للفقهاء ينكشف عن واحد انتقل من الاعتزال أو بدعة إلى غيره، ولا عن مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة ولا على العكس. وتجري هذه الانتقالات بأسباب أخر، حتى في القتال بالسيف. ولذلك لم تجر عادة السلف بالدعوة بهذه المجادلات، بل شدَّدوا القولَ على من يخوض في الكلام ويشتغل بالبحث والسؤال.
وإذا تركنا المداهنة ومراقبة الجانب صرّحنا بأن الخوض في الكلام حرامٌ لكثرة الآفة فيه، إلا لأحد شخصين:
– رجل وقعت له شبهة ليست تزول عن قلبه بكلام قريب وعظيّ ولا بخبر نقليّ عن رسول، فيجوز أن يكون القول المرتب الكلاميّ رافعا شبهته، ودواءً له في مرضه، فيُستعمَل معه ذلك و يُحرس عنه سمعُ الصحيح الذي ليس به ذلك المرض، فإنه يوشك أن يحرّك في نفسه إشكالا ويثير له شبهة تمرِّضُهُ وتستنزله عن اعتقاده المجزوم الصحيح .
– والثاني: شخص كامل العقل راسخ القدم في الدين ، ثابت الإيمان بأنوار اليقين، يريد أن يُحصّل هذه الصنعة ليداوي بها مريضا، إذا وقعت له شبهة، وليفحم بها مبتدعا إذا نبغ، وليحرس به معتقده إذا قصد مبتدع إغواءه. فتعلُّمُ ذلك بهذا العزم كان من فروض الكفايات، وتعلُّمُ قدر ما يزيلُ به الشك ويدرأ الشبهة في حق المشكل فرضُ عينٍ، إذا لم يمكن إعادة اعتقاده المجزوم بطريق آخر سواه .
والحق الصريح أن كل من اعتقد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، واشتمل عليه القرآن، اعتقاداً جَزِماً، فهو مؤمن، وإن لم يعرف أدلته. بل الإيمان المستفاد من الدليل الكلامي ضعيف جداً مشرفٌ على التزاول بكل شبهة. بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبى بتواتر السماع، أو الحاصل بعد البلوغ بقرائن أحوال لا يمكن التغيير عنها.وتمام تأكده بلزومه العبادة والذكر، فإن من تمادت به العبادة إلى حقيقة التقوى وتطهير الباطن عن كدورات الدنيا، وملازمة ذكر الله تعالى دائماً، تجلَّت له أنوار المعرفة وصارت الأمور التي كان قد أخذها تقليداً عنده كالمعاينة والمشاهدة. وذلك حقيقة المعرفة التي لا تحصل إلا بعد انحلال عقدة الاعتقادات، وانشراح الصدر بنور الله تعالى، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام فهو على نور من ربه، كما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى شرح الصدر، فقال: (نورٌ يُقذَف في قلب المؤمن)، فقيل: وما علامته ؟ قال: (التَّجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود).
 فبهذا يعلم أن المتكلم المقبل على الدنيا، المتهالك عليها، غير مدرك حقيقة المعرفة، ولو أدركها لتجافى عن دار الغرور قطعاً. «

[كتاب: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة أبو حامد الغزالي –

الناشر:مكتبة الثقافة الدينية-مصر-الطبعة الاولى/2004 –ص : 51-52-53-54 ]

 


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق