الجيو-فلسفة والخروج من المنهاجية القومية
في تأمله لرؤية الحداثة الأوروبية للسياسة والعالم ذهب المفكر الإيطالي "ماسيمو كاسياري" إلى أنها تعبر عن جيو-فلسفة؛ أي أنها محكومة حتماً بتاريخ أوروبا، و"كدحها" أن تتوحد وتذوب عناصرها، منذ الفلسفة الإغريقية مرورا بالرومانية ثم المسيحية وبعدها النهضة والتنوير والحداثة وحتى فكر "كارل شميت" مع مطلع القرن العشرين يكاد يطابق في جوهره رؤية جان بودان للحق الإلهي في الحكم، لكن الحداثة ترجمته فلسفيا إلى الحق السيادي للدولة في الهيمنة([1]).
هذا الخيال التوحيدي القسري تحدته في رؤيتها للكدح السياسي agonism المفكرة البارزة "شانتال موف"، فالسياسة عندها ليس غايتها صهر الخلافات، بل إدارتها، والملمح التنازعي في علاقات القوة ظاهرة إنسانية، وما تسعى الديمقراطية لتحقيقه تحديدا هو إدارته بأقل درجة من العنف.
لكن الدولة الحديثة والفكرة القومية لم تكن تحولا سياسيا، المشكلة الحقيقة التي رصدها أساتذة العلاقات الدولة هي أن الدولة صارت منهاجية بحث ونظر، وسقفا للتفكير يتم رؤية العالم من خلالها، وهو ما حجب عن علم السياسة رؤية التحولات العالمية فترة طويلة من ناحية، وأهدر من ناحية أخرى تراثا موازيا في تاريخ الفكر السياسي أدرك الحاجة لتأسيس رؤية أوسع للعالم تنبني على تنوع صيغ التمدن والحكم، وليس حصرها في نموذج مهيمن يتم فرضه بقوة الكولونيالية، هذا التراث الموازي يمتد بدءا من الرواقية مرورا بفكرة الخير العام في الفكر الروماني، وصولا لتصور "توما الأكويني" عن العدالة، والفارابي في المدينة الفاضلة، وصولا لكانط والسلام العالمي، وتلك محض أمثلة.
ولم يكن ظهور مفهوم المجتمع المدني العالمي والاهتمام به في الثمانينات هو بداية الخروج من أسر التصور الدولتي، بل كانت البداية إدراك الأبعاد القيمية والثقافية في العلاقات الدولية، وبدون أدنى مبالغة يمكن القول أن أعمال رائد العلوم السياسية العربي الأستاذ "حامد ربيع" كانت مفتاحا مهما في هذا المجال تلاه مشروع ضخم تولته الدكتورة "نادية مصطفى" عن العلاقات الدولية في الإسلام الذي استمر 10 سنوات ورعاه المعهد العالمي للفكر الإسلامي وأنتج عدة مجلدات بين 1987-1997 يعد من الأعمال الرائدة في هذا المجال، فهو من ناحية فتح الباب أمام جيل عربي من الباحثين يحتل اليوم مكانة في أفرع العلوم الاجتماعية المختلفة لإعادة تصور العالم والعلاقات بين الدول في مجالات علمية مختلفة على رأسها علم السياسة العربي، ومن ناحية أخرى ساهم بقوة في الجدل الذي لحقت به مراكز البحوث والدراسات الغربية بشأن الثقافة والعلاقات الدولية، وقد اعتبر "ريتشارد فولك" نقلة منهاجية عودة أبعاد القيم والثقافة تحولاً نوعياً في نظرية العلاقات الدولية تتحدى شرعية وستفاليا التي كرست الدولة كفاعل مركزي على الساحة الدولية وكرست علمانية وإمبريقية الاقترابات، ورأى أنه يعين على تفسير المجريات والظواهر المستجدة([2])، لكن الفضل دوما يُرد للباحثين الغربيين ولا تُذكر مسارات نحتت طريقها في الثورات العلمية في دوائر حضارية أخرى.
أيضا كان بدء ظهور الحديث عن المجتمع المدني في نهاية الثمانينات قرين الوعي بأن التقدم لا يرتهن بالصيغ المؤسسية للحكم بقدر اقترانه بالمجتمع، واستعادة الاهتمام بمفاهيم البشرية والإنسانية المشتركة، نجد ذلك في ظهور مصطلح "الثقافة المدنية العالمية لبولدينج وفكرة "الحضارة العالمية" لريتشارد فولك والمجتمع المدني والكوزموبوليتانى ومصطلح "عالمي" أو مجتمع عابر للقوميات عند جون كين([3]).
ويمكننا أيضا أن نرصد وعياً مبكراً بمركزية ومحورية مفهوم الأمة في التحليل السياسي لدى مدرسة كلا من حامد ربيع ونادية مصطفى، غلب عليه التأثر بالتقاليد الفلسفية الألمانية عند حامد ربيع ونزوعه الكفاحي للقومية العربية، ثم أسسته نادية على دعائم الرؤية الإسلامية في أعداد حولية الأمة في عام ثم العدد الخاص عن الأمة في قرن([4])، بما جعله مفهوما لا يمكن تجاوزه أو تجاهله عند مراجعات نموذج الدولة الحداثية القُطرية، وبات جزءا من النقاشات العلمية الدولية عن العولمة والمجتمع المدني العالمي([5]).
وقد أقر هنري كيسنجر (مؤخراً) أننا لسنا بصدد نظام عالمي واحد، بل نحن أمام أنظمة دولية متعددة لها خصائصها ونمت أنساقها السياسية في ظل ظروف متفاوتة ومتنوعة ومن بينها النظام الإسلامي([6])، وهذا رأي أبعد أثراً من حديث "صامويل هنتنجتون" عن الكتل الحضارية في كتابه صراع الحضارات، وبالتالي فعلينا أن نسأل إذا عن كيفية تصور المشهد العالمي قبل تقديم واقتراح رؤى لإدارته. وهنا فإن الخروج من تلك الدولتية المنهاجية هو المفتاح الذي بدأ به مشروع البحث في مفهوم وأبعاد المجتمع المدني العالمي على سبيل المثال في جامعة لندن 2001 واستمر لسنوات تجاوزت العقد([7]).
والمفهوم رغم أنه يتيح الخروج من أسر القومية والدولة القطرية كسقف منهجي وتحليلي لكنه يفتح بابا للنقاش والجدل والاختلاف بشأن أبعاده الثلاثة: فما المقصود بالمجتمع المتجاوز لحدود القومية، وماذا نعني بالمدني على وجه الدقة، وما هي طبيعة العالمية التي نحن بصددها؟
لا شك أن الإجابة عن هذه الأسئلة لا يمكن أن تأتي من سياق حضاري واحد، بل لابد من نسج التصور من موارد ثقافية وحضارية متنوعة، ثم الكشف عن المشترك فيها، فمنطق الاجتماع الإنساني واحد لكن صيغه تتنوع، وتعريف التمدن والتوحش معاييره قد تختلف، والعولمة لها أوجه متعددة اقتصادية وعسكرية وسياسية فكيف يمكن تسكين فكرة المجتمع المدني العالمي أو بناء الديمقراطية العالمية أو العدالة العابرة للقومية وغيرها من المفاهيم على تلك الخريطة المعقدة وكيف يمكن تحديد البوصلة؟ لذلك كان للباحثة مساهمة مبكرة في هذا الاتجاه تنادي بتعدد الخلفيات الثقافية للمفهوم، واستجلاء أبعاده كي يمكن ضم الدين لها لأنه يمثل محور ارتكاز الفضائل المدنية والقيم في حضارات مختلفة، والوعي بأن اتساع المجال لا يمكن معه استمرار الحال وبالتالي المجتمع العالمي ليس محض اتساع لرقعة المجتمع المدني الوطني في المساحة، بل يتغير نوعيا في كنهه وطبيعته، وأن مفهوما مثل الشبكية لا يفي بوصفه ولا فهمه، ولا استكشاف تحولات علاقات القوة فيه([8]).
القرآن.. والبشرية: في البدء كانت الفطرة
حين كتب ابن خلدون في مقدمته أن "الاجتماع الإنساني هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض" ربط بوضوح بين الاجتماع والعمران والعالم، وهو ذات الربط الذي قام به من قبل الفارابي في آراء أهل المدينة الفاضلة، فمن المدينة الفاضلة للمعمورة الفاضلة انتقال من المجتمع والجماعة للبشرية جمعاء، وبالتالي فالفضائل المدنية إذا سرت في المعمورة انطبعت بالفضيلة، وهو مسعى يجتهد في الوصول له أصناف التعايش وصيغ التغلب في جدلية حية استوعب العقل المسلم أبعادها بين الدفع.. والنفع.
ولا شك أن مفهوم الفطرة سيكون في هذا السياق مفهوما تأسيساً تنطلق منه الرؤية الإسلامية، فمع اختلاف الشعوب والقبائل يظل العنصر الجامع هو الاشتراك في الفطرة.. والبشرية.
والفَطْر: بالفتح، الشّقُّ، وقد قيده بعض اللغويين بالشق الأول ومنه قوله تعالى: ﴿هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ (الملك: 3)، وقوله: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ (الانفطار: 1)؛ أي انشقت، والفِطرة: الابتداء والاختراع، ففطر الله الخلْق: خلقهم وبدأهم.
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ (الروم: 30). (صحيح مسلم: كتاب القدر).
وابتداء الخلق في التصور الإسلامي مقترن بنهاية الإنسان ومآله: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (يس: 22).
كما نجد أن الفطرة تقترن في التصور الإسلامي بالوحدانية والدين؛ فالدين فطرة والشهادة الأولى التي أخذها الله من ذرية بني آدم مغروسة فيها، لكن الوعي بها يتأثر بالبيئة والتنشئة والمجتمع، وهنا تصبح الفطرة قرينة التصور الإسلامي للبراءة الأولى للنفس عند الميلاد في مقابل فكرة الخطيئة الأولى في الخطاب المسيحي تاريخيا من جهة، وقرينة توحيد الله أصلاً في فطرة الإنسان بشهادة التوحيد التي كانت في الأزل، كما تقترن بنزوعه للتعارف مع البشر عبر الاختلاف والتنوع. ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ (الروم: 29).
كما تلفتنا الآيات القرآنية لاقتران الفطرة الإنسانية بخلق السموات والأرض، فالله هو الفاطر وسنن الأنفس والآفاق تتقاطع: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام: 80). ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (الأنعام: 14).
وتبدو الفطرة التي فطر الله الناس عليها مصدرا للهداية وبوصلة للحق أودعها الله في قلوب العباد: ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ (الزخرف: 26). ﴿قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (الأنبياء: 56).
بل تبدو مستعصية، حين يكون الإيمان هو النور الذي يحمل الإنسان في مسيرة الحياة، على أن تتقبل البغي أو ترضى بالطغيان، فنتأمل قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ (طه: 71). ﴿يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (هود: 51 ). ﴿فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ (الإسراء: 51).
والنظر في الفطرة جامع ومانع، جامع للذكر والأنثى، لكنه يميزهما عن الجان والملائكة؛ "التي فطر الناس عليها".
والفطرة مكون من رباعية مفاهيمية للأمانة والخلافة الإنسانية التي يحاسب الله عنها العباد يوم القيامة والتي يكشفها النظر في كتاب الله، تلك الرباعية هي: الفطرة، والعقل، والوحي، ثم السنن التي يدركها الإنسان بالسير والنظر.
والربط بين الفطرة وآيات الأنفس من ناحية وآيات الآفاق من ناحية أخرى ربط واضح في قوله تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فُصلت: 53).
وهنا يلعب القصص القرآني دوراً مهماً، ويصبح البحث في مفردات: الإنسان، الأمة، القوم، المدينة، بني آدم، الناس، البشرية، وما يتعلق بها من خصائص يتناولها القرآن شديدة الصلة بالبحث في الفطرة، والتمدن، وتصور البشرية.
ويتقاطع البحث في الفطرة مع جدل عريض احتل مساحة معتبرة في الفكر الإنساني عن الطبيعة البشرية، وما ارتبط بذلك من نظريات الدولة وطبيعة المجتمع، والنظام الدولي؛ فمن ذهب إلى أن الطبيعة البشرية تقوم على الصلاح والخيرية قدم نظريات للمجتمع تقوم على إطلاق حركته وتأكيد دوره وفاعليته في مقابل سلطة محدودة الحجم والأدوار، ومن ذهب لأن نوازع الشر هي الغالبة منح سلطة أكبر للحكومة في مواجهة الفرد والمجتمع واعتبر الدولة هي التي تحفظ المصالح والمقاصد.
نجد ذلك في الفكر اليوناني في اعتبار المدينة شرط اكتمال الإنسانية، فالفطرة الفردية لا تقيم حضارة ولا تحفظ إنسانية، في حين جادل ابن طفيل ومن بعده ابن سينا في أولية الفردية والانفراد في نقاشهم حول نموذج الإنسان المنفرد في حي بن يقظان. هذا الجدل نفسه هو ما صاغ نظريات الخلافة والعمران في التاريخ الفكري، فمن رأى الوازع السلطاني هو ضمان تطبيق الشرع توسع في سلطان الحاكم وتحفظ على الخروج عليه، ومن وجد أن الأمة هي الحافظة والوازع الديني هو الأسبق، كبعض المعتزلة، قدم من الأفكار ما يقدم الجماعة على السلطان، وهكذا.
مفهوم الفطرة إذا يتقاطع مع مفهوم الإنسانية والبشرية الأوسع، وجُل النظريات التي تحدثت عن القانون الطبيعي والمواطنة العالمية من المدرسة الرواقية التي بزغت بعد سقوط دولة أثينا، مرورا بفكر الفارابي عن المعمورة الفاضلة، وصولا لأفكار الكوزموبوليتانية والعولمة الحديثة تدور حول مشترك إنساني، ومفهوم الفطرة هنا يسهم في هذا النقاش باعتبار مصدره الديني واستصحابه معاني ومعالم التوحيد.
على الجهة الأخرى، ما يزال جدل المجتمع المدني العالمي يتصاعد دون مزيد بحث في ماهية التمدن ذاته، وما يزال العقل الإنساني يسعى لفهم معناه مقترنا بالطبيعة الإنسانية تارة، وبأسس الاجتماع تارة، سعيا لأقوم المسالك لتحقيق رسالة البشرية وبناء الحضارة.
والحقيقة أن العلوم الإنسانية كما نعرفها اليوم في تقسيماتها الكبرى تطورت تحت سقف القومية المنخفض، وتصور العقلانية المحضة الضيق؛ إذ نشأت في إطار الواقع الذي يحتفي بالعقل وقفزات العلوم الطبيعية ففصلت نفسها عن المنظومة الغيبية والأخلاقية والروحية، وسادت النظرة للحال دون تحسب للمآل في العلوم الطبيعية (بما أدى لاستنزاف الموارد وخلل التوازن البيئي)، ولم تملك العلوم الإنسانية المكانة ولا الرؤية التي تؤهلها لتحجيم النظرة المادية للحياة وتدارك آثارها، والخروج لأفق عالمي رحب في الموضوع والغاية.
من المجتمع المدني العالمي إلى المواطنة العالمية
نتساءل إذاً: هل ينتمي الإنسان لجماعته المحدودة سواء الطبيعية والمحلية والوطنية فحسب؟ هل تقف هوية الإنسان عند حدود الدولة القطرية، أم أن تصور انتماءه للعالم جزء من كينونته وإنسانيته؟
ما نشهده اليوم هو أن المشروع التنويري الذي أسس لصعود الرأسمالية ثم الليبرالية وتأسيس الدولة القطرية كنظام حداثي كان له نصيب من تصورات المواطنة العالمية، اقترن برؤيتها الإنسانية التي تفترض وجود حقوق وحريات أساسية للفرد تقدم الليبرالية نفسها من خلاله كرؤية عالمية([9]).
ولا شك أن هناك عوامل موضوعية غذت تصور العالمية والأفق الدلالي للمواطنة باتجاه العالمية بخلاف المنطلقات الفلسفية لليبرالية، فوسائل الاتصال والتحديات التي فرضتها العولمة كظاهرة والمشكلات العالمية البيئية والاقتصادية فرضت وعياً بالمجال العالمي كمساحة للمشترك الإنساني وهو الوعي الذي أعاد لفكرة المواطنة العالمية زخمها بعد أن خفتت في ظل المد الذي شهده الفكر القومي، الذي هيمن على تصورات المواطنة التي كانت تتحرك على مساحة الدولة القطرية فحسب، ولا تتطلع للعالم كمجال لتصور المواطنة.
وقد أدى نمو التشابك بين الحركات الاجتماعية بشكل عابر للقومية إلى تنامي الحديث عن المواطنة العالمية كصيغة معنوية وقيمية أكثر من كونها تضاهي أو تقارب المواطنة بالمعنى القانوني والسياسي، فإذا كانت المواطنة من ناحية الحقوق والواجبات ترتبط بالحركة الاجتماعية للمواطن، وانضواء هذا المواطن في حركات اجتماعية تدافع عن الحقوق أو تستدعي خطاب الواجبات والمسؤولية السياسية والمدنية، فإن انسياح هذه الحركات عبر الحدود القومية لتضحي حركات عالمية، وتنامي الاهتمام بتشكل ما يطلق عليه "المجتمع المدني العالمي" كان عاملاً إضافياً زاد من التفكير والتنظير لمفهوم المواطنة العالمية باعتبارها تأخذ صيغا جديدا تتجاوز اليوتوبيا أو المثالية، والذي سرعان ما أصبح مصطلحاً شائعا رغم أن ظاهرة المجتمع المدني العالمي لم تتبلور على أجندة البحث في العلاقات الدولية وفي النظرية السياسية إلا مع نهاية التسعينات.
ولا شك أن هذا المفهوم يجب أن يستخدم بحرص، مثله في ذلك مثل كل مفردات اللغة ذات المعاني السياسية المتعددة، حيث أنها ليست واضحة بذاتها ولا هي محايدة؛ فالمجتمع المدني هو مساحة اجتماعية وسياسية واسعة، متعددة الطبقات ومترابطة، تحتوي على مئات الآلاف من المؤسسات المستقلة أو غير الحكومية، والفعاليات المدنية التي تدعم المواطنة وتتجلى فيها أبعاد ذلك المفهوم المركبة ولا يمكن تصور مواطنة ديمقراطية دون فعل مدني سياسي يومي كما أسهبنا، لكن مد الفكرة على استقامتها نحو الاتساع المكاني بنقل المفهوم من الوطنية-القومية إلى العالمية، وافتراض أن الفارق بين المواطنة القومية والمواطنة العالمية محض فارق مجالي يغفل أبعاداً في المفهومين لا يمكن اعتبارها محض مسألة مساحة وضيق أو اتساع، فالمنطق مختلف والأبعاد الوجودية والاجتماعية والزمنية للمفهومين مختلفة، ولا يمكن تعميم نفس المنظور السياسي على المفهومين كما أشرنا سابقا.
ويرى جون كين أن المفهوم الكلاسيكي "للمجتمع المدني" ومفهوم الدولة المركزية، لا يمكن أن يستوعبا المفهوم الحديث لمحيط نفوذ ما هو غير حكومي فيما يعرف باسم "المجتمع المدني العالمي". فالمعنى مختلف، ودلالته السياسية مختلفة تماما. ولهذا، أصبح من المهم القيام برسم خريطة لقياس محيط نفوذ المجتمع المدني العالمي، من أجل توضيح معناه الإدراكي ومجال تطبيقه وتعقيده، بالإضافة إلى إمكانياته السياسية([10])..
وهو ما يستدعي للذهن فكرة هيدلي بول في كتابه "المجتمع اللاسلطوي" حين سعى في منتصف السبعينيات للتأكيد على أن النظام الدولي هو في أحد أبعاده نظام اجتماعي، مطالباً حقل العلاقات الدولية بالنظر للتفاعلات الاجتماعية والثقافية باعتبارها جزء لا يتجزأ من دراسة العلاقات الدولية حتى يمكن التنظير لها وتفسيرها بدلاً من التركيز على الجانب النظمي والقانوني، وعلاقات القوة والصراع وليس تفاعلات الاجتماع والثقافة ونمو "الثقافة الكوزموبوليتانية"([11])..
وهو ما وجد طريقه في مطلع الألفية لكتابات أساتذة في تحليل العلاقات الدولية مزجوا بين تنامي الاهتمام بدراسة المدن الكوزموبوليتانية كمواقع للتفاعلات الدولية مع المستوى الاجتماعي للتحليل؛ أي قرنوا البعدين الثقافي/الاجتماعي والمكاني/الكوزموبوليتاني في فهم الفاعلية السياسية وعلاقات القوة ذات المجال الممتد خارج حدود الدولة القومية، وهو ما أسماه البعض اقتراب "أنطولوجيا الحياة الدولية"([12]).
وما لبث الوجه الديني للتفاعلات الاجتماعية الدولية الذي تصاعد في الثمانينيات والتسعينيات، أن انضم لموضوعات اهتمام نظرية العلاقات الدولية بما أدى لتطوير أدوات نظرية داخل حقل العلاقات الدولية لتحليله وتفسيره. وهو ما اعتبره "ريتشارد فولك" نقلة منهاجية تتحدى شرعية وستفاليا التي كرست الدولة كفاعل مركزي على الساحة الدولية وكرست علمانية وإمبريقية الاقترابات، واعتبر عودة بعد القيم والثقافة تحولاً نوعياً في نظرية العلاقات الدولية يعين على تفسير المجريات والظواهر المستجدة([13]).
والحق أن اعتبار نمو الثقافة الكوزموبوليتانية هو أساس فكرة المواطنة العالمية في الواقع الراهن، وهو ما يصلح أن يكون فكرة جامعة لتحولات المواطنة خارج إطار القومية، فرغم أن المدن الكوزموبوليتانية تخضع لهيمنة وسيادة الدولة التي تقع فيها، إلا أن المواطنة العالمية فكرة تتأسس على الهوية وليس على الجنسية من الناحية القانونية فقط، وتتجاوز المكان وتوازنات القوة فيه، بل قد تستعين بالعلاقات العابرة للقومية لإلزام الدولة بأداء حقوق رفاهة أو ضمان الحد الأدنى لحقوق الإنسان، وهذا النضال بالأساس يدور في ساحة المدن الكوزموبوليتانية وعلى أرضيتها([14]).
ويرى البعض أن الحركة العالمية لإعادة تعريف المواطنة خارج حدود الدولة هي محاولة لاستعادة الاجتماعي والمدني في مواجهة السياسي، ولكن على أفق جغرافي أوسع، وأنها جزء من جدلية الفردية والجماعية في الليبرالية لكن خارج حدود الدولة القومية، وهو ما يرشحها للنمو لأنها تسعى للإجابة عن أسئلة إنسانية أخفقت الحداثة في الرد عليها، ومنها سؤال القيم الذي يراه موضوعاً هاماً على أجندة المجتمع المدني العالمي في ظل تنامي عدم اليقين الأخلاقي([15]).
ولا شك أن البعد العالمي لا يسير في اتجاه واحد، فهو ليس فقط من الداخل للخارج، بل يؤثر الخارجي الدولي العالمي على تصورات المواطنة بدوره وينعكس عليها، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي فتحت مجالاً للجدل والتنازع السياسي بين القوى الليبرالية والمحافظون الجدد داخل الولايات المتحدة حول المواطن،ة والحقوق المدنية، ومستقبل الديمقراطية.
لكنها أيضاً فتحت المجال للجدل الفلسفي بشأن المواطنة، والحرية، والتعددية في ظل هجوم السلطة السياسية على المجال العام وتقييد الحريات المدنية بدعوى الأمن، وتقييد التعددية الثقافية وحريات الأقليات بدعوى الحفاظ على المصلحة القومية، بل وظهرت كتابات أقرب للفكر القومي الكلاسيكي تقدم تعريفاً لمعنى المواطنة الأمريكية يربط بينها وبين اللغة والثقافة الأنجلو-سكسونية، وينكر على أقليات الجنوب الأمريكي من أصل أمريكي لاتيني أية حقوق ثقافية، بل ويذكرنا بربطه بين الفكر القومي والحرب الخارجية بالفكر القومي المتطرف في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر([16])، وهو ما تطلب من أنصار الفكر الليبرالي الرد بمقولات فلسفية رفيعة عن الليبرالية، والمواطنة، والعدالة نرى أنها ستبلور مع الوقت أفكاراً هامة حول المواطنة، والحرب، والهيمنة، والعولمة ربما غير مسبوقة في الفكر الليبرالي([17])، في الوقت الذي تدعم فيه النقاشات في بريطانيا وكندا على الساحة الفكرية والأكاديمية المزيد من التعددية الثقافية في كتابات أنصارها.
ومن الجدير بالنظر، أن المواطنة العالمية في تقاطعها مع جدل التعددية الثقافية قد أدخلت الدين في هذا النقاش، بل يمكن القول أن العلاقة بين نمو الظواهر الدينية على الساحة العالمية لم يكن أقل أهمية من نمو التعددية الثقافية في إجبار أصحاب الفكر القومي على إعادة البحث في مفهوم المواطنة العالمية، ففي ظل تنامي الاهتمام بالجانب الثقافي في دراسة العلاقات الدولية برز بوضوح أن تعميم فكرة المواطنة القومية يحتاج إلى مراجعة على مستوى نماذج المواطنة وصيغها في الداخل الوطني كما يحتاج لدمج الثقافات المهاجرة في صيغة توافقية لمواطنة ديمقراطية للتعددية الثقافية..
لكنه أيضاً، وهذا في غاية الأهمية هنا، يحتاج لمراجعة افتراض عالمية نموذج المواطنة الليبرالي، والوعي بأن صيغته التي قدمتها الحداثة تحتاج إلى مراجعة في ظل صعود الصحوة الدينية في كل الثقافات وبروز تيارات اجتماعية تتأسس على الفكرة الدينية ذات طبيعة عابرة للقارات، وهي المراجعة التي دفعت بيتر بيرجر للتعاون مع صامويل هانتنجتون في دراسة صيغ العولمة المختلفة وأسسها الدينية والثقافية وتنوعها الذي يتحدى التنميط الحداثي والتعميم القومي الأحادي الحاسم لمفهوم المواطنة([18]).
هذه التحولات تفتح أمام الفكر الإسلامي فرصة لإعادة تقديم المفاهيم الإسلامية عن الفطرة والبشرية ليس باعتبارها مفاهيما دينيا، بل باعتبارها مفاهيما كونية تفسر الطبيعة الإنسانية وتقدم منطلقا للتعارف والمساهمة في حوارات الثقافات والحضارات.. وكذلك حوار العلوم الاجتماعية في تطوير المفاهيم التحليلية والأطر التفسيرية.
الأفق الإنساني ومقاصد الشرع
عودة إلى سؤال التمدن الذي تناولناه، ومنطق الاجتماع الإنساني، نسأل: ما هي غايات الاجتماع الإنساني كما نراها في تصورنا الإسلامي لنقدمها للعالمين كمنطلقات للتعارف، ومنطلقا للجدل بالتي هي أحسن؟
سنجد أن هذه الغايات إذا أردنا أن نختصرها تتبلور فيما رآه الفقيه من مقاصد الشريعة، وسنجد أن غاية الاجتماع الإنساني حتى في المجتمعات التي لا تتبنى النظر الشرعي ولا تتبنى رؤية الوحي للإنسان ولدوره في هذا الكون تسعى لتلمس نفس المقاصد التي طورها الفقهاء([19]):
فـ"حفظ الدين" هو حفظ المنظومة أو الميزان الذي يقوم عليها أي مجتمع، فأي مجتمع يريد أن يحفظ لنفسه منظومته القيمية والأخلاقية حتى وإن كانت منظومة من صنع الإنسان أو من صنع عقل الإنسان منفكة عن الوحي والرسالات والنبوات، فالدين هنا بالمعنى الذي فسره القرآن: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾؛ أي التصور والمسلك. فهناك لكل جماعة دين، لا توجد جماعة ليس لديها منظومة أفكار، وتصور للكون والحياة حتى وإن كان إلحاديا ووثنيا أو غيره، والأصل أن ننظر في هذه المنظومات لنفهم هذه الأنساق ورؤيتها للاجتماع البشري.
و"حفظ النفس" كان مسألة أساسية في أي اجتماع بشري، حتى في نظرية الخيار الرشيد التي تأسس عليها فهم الاجتماع بقياسه على حسابات الاقتصاد، وقياس المواطن في دائرة المجتمع والدولة على المستهلك في دائرة الاقتصاد والمنفعة المادية، وكانت نظرية العقد الاجتماعي قد انبنت على فكرة حفظ النفس وعليها تأسست نشأة الدولة وأسس الاجتماع، فالعقد الاجتماعي الذي يؤسس للتمدن والعمران قائم على الاضطرار وقائم على هيمنة السلطة لأنه بدون ذلك، وبدون هذا الالتزام من قبلهم يتفكك المجتمع مرة أخرى ويتشظى إلى ذرات.
و"حفظ العقل" حفظ بقاء وارتقاء كان من المقاصد.. فالفنون والآداب، والتفلسف والتفكير بدأ احتفاءً بالعقل لكنه كان عقلا فرديا يدور في مدارات الطبيعي ولا يتجاوز سقف المادي.
"حفظ المال" كان أيضا حاضرا في الغايات الأساسية لنمو المدن التجارية ثم الصناعية، بل تعداه لتحصيل ثروات الأمم الأخرى بالاستيطان والاحتلال العسكري، وهو مثال على انفكاك حفظ المال من أخلاقية المصدر وخيرية الغاية.
ولدينا نماذج مختلفة للمدن والحواضر عبر التاريخ الإنساني كان لكل منها منطق وتأسس على كل منها صيغة للاجتماع بعضها ظالم لنفسه.. ولغيره، وبعضها سابق بالخيرات.
والسؤال الذي يواجهنا: هل يمكننا اصطفاء مفهوم للتمدن يغدو الأكثر إنسانية ويصير مقياساً نموذجياً بحيث يُقاس عليه مستويات التمدن: مثالية.. ثم نقصانا.. ثم هبوطا للتوحش والبهيمية والطينية؟
أحسب أن هناك عدة عناصر يمكن أن تساعدنا في بناء المفهوم ورسم خرائط المعنى، وأن هذا بقدر ما يتطلب مساهمة العلوم الإنسانية بقدر ما سيؤدي هو ذاته، كمراجعة وإعادة بناء للعديد من المفاهيم، إلى تطوير العلوم الإنسانية خلال هذا المسعى.
أول هذه العناصر "عنصر الميزان" فما هو الميزان الذي به نقيس وهل نجح العقل وحده خلال القرون الثلاث الماضية في ضبط الميزان وتحقيق العدل والسعادة كما تطلعت الفلسفة في تاريخها الطويل بعيدا عن ميزان الغيب والنبوة والوحي؟
هناك محاولات حثيثة منذ فترة طويلة للحديث عن مراجعة العلوم الاجتماعية، و"أسلمة المعرفة" سواء بالبينية وعبور الفجوة بين العلوم المختلفة لتتكامل، أو بِوَصل ما انقطع بين النظر العقلي والنظر الشرعي. وتتوازى معها محاولات في العالم المسيحي ودوائر الحضارات القديمة في الشرق يقودها رجال دين وتيارات محافظة وروحية تسير على سبيل مشابه.
والغاية هي النظر للإنسان من وجهة متكاملة ترد له تكامله واتساقه، لكن البينية بين العلوم من جهة لا تكفي دون تغيير الخريطة المعرفية ذاتها، ووصل ما انقطع يحتاج بناء عقلية تجمع بين معارف شتى ولديها القدرة على الاجتهاد والتوليد وهذه نادرة في المؤسسات التعليمية التي انبنت على التقسيم والتفتيت والاحتفاء بالتخصص والعزوف عن الموسوعية وهجرها، فضلا عن مسألة ثالثة هي الربط بين ذلك وحصاد تلك التحولات والسياق السائد في الدوائر العلمية الدولية كي تتحقق غاية "الرحمة للعالمين"، ولا يكون ما ينتجه العقل المسلم معزولا ومهمشاً أو عاكفا على ذاته مقصرا في رسالته.
ويبقى سؤال علاقة العلم بالأخلاق، ثم علاقة العلم بالواقع والوظيفة البنائية للعلم للتهيئة العمران والتمدن في الواقع وليس في التصور، إنشاءً أو استدراكاً أو نماءً وترقية، هو السؤال الفارق.
العنصر الثاني: هو عنصر أو تصور الإنسان. ومعلوم أنّ تصورات الإنسان في أغلبها تصورات مركبة، الإنسان في تصوره الفلسفي/الإنسان وتجليات المكان وعلاقات الأبدان في الحيز، فتصورات التمدن لا تنفك عن المساحة والحيز بين المدينة.. والمعمورة وكوكبة العولمة. ومن هنا فالعلوم الاجتماعية رافد مهم لفهم العقل الشرعي للمستجدات، و"المشكاة المقاصدية" كما أسميها في غاية الأهمية في هذا السياق.
العنصر الثالث: إذا أردنا أن نعيد بناء خريطة العلوم الاجتماعية ونمزج، ليس خلطا للفقه بالاجتماع، وإنما النظر والفهم بمعنى الحكمة والنظر، فنحتاج أن نعتبر البعد الثالث وهو: "بُعد المكان" ذاته، التمدن في حد ذاته أصبح مختلفا عن تصور ابن خلدون، فنحن الآن نتحدث عن مدن لا يمكن وصفها بأنها مدن فاضلة كي يتم إدراجها في الحديث عن صيغ التمدن، حيث أن هذه مدن اختلط فيها الفاضل بغير ذلك، مدن مساحتها هي مساحات أسواق أو بنيت بالأساس في المرحلة الرأسمالية في أوروبا والتي نقلنا عنها تخطيط المدن بشكل يعتمد على تسهيل حركة التجارة بأكثر مما يعتمد على تواصل البشر في داخل المدينة وهنا من الأهمية بمكان أن نفهم نظر فقهاء الإسلام إلى العمران من الناحية المساحية، وتحولاتها المعقدة في مرحلة العولمة، واختصار المسافات وتعدد الجنسيات، وتقاطع الأسواق ناهيك عن "اللامكان" في العالم الافتراضي ومنتجات تكنولوجيا الاتصالات.
لذلك من المهم فهم كيف استوعب الفقيه مسألة المساحة والمكان والأرض والملكية والحقوق المشتركة بين الناس وموازنة المصالح العامة والخاصة، ولدينا الآن علم كامل هو علم اجتماع المدن الذي يبحث في الأمكنة التي يتحرك فيها الناس، والتي بدأت في إثارة مشكلات حقيقية في إدارتها وفي خلق المنظومة الأخلاقية والقيمية التي كان يمكن أن تتنزل عليها كثير من الأحكام الشرعية..
فالمدينة لم تعد تقترن بالتمدن وفضائله، بل بالفردية وتفكك الأبنية المجتمعية في أحيان وفي أحياء كثيرة، فهذه مسائل أيضا تحتاج أن ينظر فيها الفقيه بعقلية الشرع والمقاصد، وأن ينظر إليها باحث العلوم الاجتماعية ويشترك في النظر في كيف ننظم الأمكنة والملكية والمساحات والخصوصيات، وإن لم يعد هذا ممكنا كنتيجة للعشوائية وغياب التخطيط العمراني والوعي المعماري على المساحات القائمة الآن/فماذا نفعل وكيف نتعامل مع هذه المستجدات؟
العنصر الرابع: هو "عنصر الزمان"، كيف ننقل الفهم والحكمة التي نظر بها الفقيه أو عالم الاجتماع أو الفيلسوف المسلم إلى واقعنا باختلاف الأزمنة وباختلاف طبيعة الوقت والتنظيم، وعلى خريطة اليوم وكذا يعني مفهوم الزمن والوقت وما يحويه من علاقات إنتاج، وملكية، ورأسمالية، وعلاقات إنسانية وأنماط استهلاكية، كيف ننظر إلى المآل، وكيف يؤخذ في الاعتبار وضع السياسات العامة وفي التعامل مع حقوق الناس وغيرها، هذه مسألة غائبة رغم أن تقاطع الأزمنة في الوعي والمرجعية التاريخية في اشتباكها مع الواقع وصدامها معه، وما يحويه التاريخ من أنماط تفاعلات يعاد إنتاجها في أزمنة أخرى من أبرز المشكلات التي نواجهها في المجتمع وفي السياسة اليوم..
العنصر الخامس: هو بُعد "العمران"؛ كما ذكرت في مسألة المكان والمساحة، ولكن بشكل أكثر تركيبا بمعنى بنيان العلاقات والمؤسسات التي يتم من خلالها إدارة هذه العلاقات بين الطبقات المختلفة، إدارة المحليات، وتقسيم الموارد، وملكية الأرض، والثروة، وإدارة القوة في مسألة التعامل الأخلاقي بين الدولة والقوى الاجتماعية، ودرجة وعي النخب بالسنن وانعكاس ذلك على توطيد أو تآكل رأس المال الاجتماعي والأخلاقي والفضائل المدنية.
العنصر السادس والأخير: هو "بُعد الأكوان"، نحن أهملنا كثيرا الربط ما بين مقاصد الشريعة ومقاصد العمران، والنظر في الأكوان (فطرة السماوات والأرض)، ونحن مسؤولون عن هذه الأكون المحيطة بنا والأمم أمثالنا التي ذكرها القرآن لا نعبأ بها أبدا ولا نهتم بها إطلاقا، رغم أن التجربة الحضارية الإسلامية تثبت بأن نظام الوقف الإسلامي اهتم برعاية الحيوانات والطيور الموجودة بالمدينة الإسلامية، وهو ما مثل مؤشراً دالاًّ على مستوى التمدن الإسلامي وأبعاده الإنسانية.
خاتمة
يبقى في النهاية الإشارة إلى أن التمدن الإسلامي بمعنى الفضائل المدنية بدأ قبل تأسيس "المدينة" في الخبرة النبوية، فالفضائل تدور مع الأفراد لا مع السلطة التي وظيفتها الرعاية والأمن، والمدينة لحظة تاريخية في التطور الاجتماعي والسياسي، بدستورها وتنظيمها وبنيتها السياسية والاقتصادية ونسيجها المجتمعي، واليوم لدينا مدن حديثة بلا تمدن ولا فضائل.
الهوامش
([1]) Massimo Cassiari, The Unpolitical: On the Radical Critique of Political Reason, Translated by Massimo Verdicchio, NY: Fordham University Press, 2009, pp177-181, 197-205.
([2]) Richard Falk, Religion and Humane Global Governance, New York: Palgrave, 2001;
- Boulding, Building a Global Civic Culture: Education for an Interdependent World. New
York: Syracuse,1988;John Keane, ‘The Future of Civil Society’, in TatjanaSikosha (ed.), The Internationalisation of Civil Society. The University of Amsterdam Press,1990 ;Richard Falk, ‘Economic Dimensions of Global
Civilization’. Global Civilization Project, Center for International Studies, Princeton University,1990,
نادية محمود مصطفى، التحديات السياسية الخارجية للعالم الإسلامي: بروز الأبعاد الحضارية الثقافية، في: نادية مصطفى وسيف الدين عبد الفتاح، محرران، الأمة في قرن- عدد خاص، الكتاب السادس (تداعى التحديات والاستجابات والانتفاض نحو المستقبل)، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية؛ دار الشروق الدولية، 2002.
وراجع مثلا ورقة نادية مصطفى في مؤتمر نظمته كاتبة البحث 2009 بالقاهرة. باعتبارها منسقا للعالم العربي والشرق الأوسط والمجال الحضاري الإسلامي في فريق من 10 باحثين دوليين بمشروع "بناء الديمقراطية العالمية" في الفترة من 2007-2011:
Nadia Mostafa,"Beyond Western Paradigms of International Relations: Towards an Islamic Perspective on Global Democracy", an unpublished paper presented to the workshop “Conceptualizing Global Democracy", organized in Cairo by the Building Global Democracy Project, University of Warwick and the Center for Political Research and Studies-Cairo University,6-8 December 2009.
Heba Raouf Ezzat, “The Umma: From Global Civil Society to Global Public Sphere”, Denisa Kostovikova and Marlies Glasius (eds.), in: Bottom Up Politics: An Agency-Centred Approach to Globalization, NY: Palgrave Macmillan,2011.
([6]) Henry Kissinger, World Order, NY: Penguin,2014, pp.96-144.
([7]) Helmut Anheier, Marlies Glasius, and Mary Kaldor, ‘Introducing Global Civil Society’, in H. Anheier, M. Glasius and M. Kaldor (eds), Global Civil Society 2001. Oxford: Oxford University Press, pp.17–18
([8]) Heba Raouf Ezzat, Beyond Methodological Modernism: Towards a Multi-cultural Paradigm Shift in the Social Sciences ,in: Helmut Anheier, MarliesGlasius and Mary Kaldor (eds.), Global Civil Society Yearbook 2004/2005 (LSE), London: Sage, 2004, pp.40-58.
([9]) Richard Falk, The Making of Global Citizenship, in: Bart von Steenbergen, The Condition of Citizenship, London: Sage1996, pp127-140.
([10]) John Keane, Global Civil Society, Cambridge: Cambridge University Press, 2003, pp2-5.
([11]) Hedley Bull, The Anarchical Society: A Study of Order in World Politics, London: Macmillan Press, 2nd ed,1995, pp.36-44; 304-305
([12]) Alexander Wendt, Social Theory of International Relations, Cambridge: Cambridge University Press, 2003, pp.370-378.
([13]) Richard Falk, Religion and Humane Global Governance, New York: Palgrave, 2001.
([14]) Bruce Robins, “Comparative Cosmopolitanism “, in: PhengCheah and Bruce Robins (eds.) Cosmopolitics: Thinking and Feeling Beyond the Nation, Minnesota: University of Minnesota Press, 1994,pp.245-253; Steve Pile, “Opposition, Political Identities and Spaces of Resistance”, in: Steve Pile and Michael Keith (eds.) , Geographies of Resistance, London: Routledge, 1997, pp.1-31.
([15]) Bauman, Globalization, op.cit., pp.2-13; Zygmunt Bauman, Postmodern Ethics, Oxford: Blackwell, 1993, pp.31-36.
([16]) Samuel Huntington, Who Are We? The Challenge to America’s National Identity, New York: Simon and Schuster, 2004, pp.24-33,39-46, 59-80, 177, 309-316.
([17]) Benjamin Barber, Fear’s Empire: War, Terrorism and Democracy, New York: W.W.Norton, 2004; Tom Rockmore et.al.(eds.), The Philosophical Challenge of September 11, Oxford: Blackwell, 2005.
([18]) Peter Berger, "The Cultural Dynamics of Globalization", in: Peter Berger and Samuel Huntington(eds.) ,Many Globalizations: Cultural Diversity in the Contemporary World, New York, 2003, pp.1-16.
ـ الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، القاهرة: دار السلام، 2007؛ علال الفاسي، مقاصد الشريعة ومكارمها، القاهرة: دار السلام، 2011.
ـ مسفر بن علي القحطاني، الوعي الحضاري: مقاربات مقاصدية لفقه العمران الإسلامي، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2012.