مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

عنوان النَّجابة والاِفْتنان في تكامل الدَّرس الفقهي والقرائي لتَوْثير معاني القرآن

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

وبعد؛ فمِنْ سابغ مَنِّ الله سبحانه على الخلْق وعُظم فضله وجزيل مواهبه، أنْ فَاوَت بين طبائع النَّاس في اقتناص حاجتهم وادِّراك مآربهم، ثم زايَلَ بين فِكَرهم وهممم في إقامة معاشهم وصيانة متقلِّب أحوالهم، فأحوج بعضهم إلى بعض في درْك جُمْلةِ ذلك أو سَبَبِهِ (إيناساً وخِدْمَةً)، ثُمَّ ابتلاهم – جل وعلا – بما أجْرى مِنْ أَمْرِهِ فيهم، على الذي رَكَّزَ في جِبلِاَّتهمْ وطَبَعَ عليه عادتَهمْ ودأْبهمْ، إذْ لا تزال الناس بخير ما تفاضلوا، فإن تساووْا هلكوا [عمدة القاري شرح البخاري، باب ظهور الفتن، برقم 7061]، فكان سَرَاتُهُمْ قَرَأَةً فقهاءَ نظَّاراً قائمين بينهم، يُبَصِّرُونَهُم بما أوجب الله عليهم مِنْ فرْض تَبْجيل عقود الشَّرائع وواجب توْقير رسوم الشَّعَائر، المُتَرْجَم في تعظيم المكَلَّف رَبَّه الذي أَلهمه قوة النظر في مَلكُوته، وحفَز دواعيَه للاِستدلال على معالم دينه واكتناه تَجَلِّيات صَنْعَته، ونُصْرة رُسُله المفسِّـرين عُقُود حَلاله ورُسُوم حَرامه، المميَّزين بحكمة الإشراق وفصل الخطاب، المعربين عن مكنون ودائع الكتاب، في سرعة خاطر وحضور جواب، إذ سماه الله سبحانه قرآنا وفرقانا وهدى ونورا، كما جعله عز وجل كتابا مبينا وصراطا مستقيما وذكرا حكيما، ثم أشاد جلّ في عليائه بمنزلة حملته من حفظته، ونوَّه بمرتبة وُعاته وسَدَنته، فدعاهم للنظر في مبثوث لوامع عوالمه والتروّي في إثارة ميدان تأويله؛ تطلُّبا لفقاهة لطائف تصـرُّفاته، ثم التماساً لفرائد تركيبه وصَيْداً لغرائب نظْمه وروائق رصْفه وما يتبع ذلك، فألْقَوا – لأجل ذلك – جِران العناية ومَدُّوا حَبْل الرعاية على ما يتصل بأوضاع ألفاظه ومتفيَّإِ ظلاله، ويَمتُّ نسبه بطرائق عرضه وأدائه (رواية ودراية)، فاستَوْلوْا من جُملته على الأمد الأبعد الأقصى، على تفاضل بينهم (سَبْقا وبسطاً)، اتُّخذ السبيل الأهدى في تمييز المنازل وتبيُّن المدراج وما إليه حالا على حال، فقال عز في عليائه: (كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ) [آل عمران/ 79] إذْ وصْف (الربانية) أخص ما ينتسب به العبد إلى مولاه جل وعلا من بعد (النبوّة) [فضائل القرآن للرازي 1/32، طبعة حسن صبري]، فلأجل ذلك خُصَّ أصحابه ومُتعاطوه من بين الخلْق ففُضِّلوا، فكانوا أهل الله وأشراف أمته، اجتباهم من بريّته وأكرمهم بمنقبة الانتماء إلى أفضل رسله، فقال سبحانه في محكم تنزيله: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ  لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله) [فاطر / 32]، و(التوريث) هنا بمعنى الإعطاء والتمليك، وذلك لأنَّ الأمة المحمدية الأشرفية لم ترث القرآن عن أمّة تقدمتْها أو ما أشبه، وإنما خصها الله سبحانه به، فعبر ههنا عن ذلك بصيغة الماضي لتحققه والإشارة به إلى حسن منقلب أهله، قال برهان الدين البقاعي (ت‍ 885 ه‍): (وهذا الإيراث للمجموع؛ لا يقتضـي الاختصاص بمن يحفظ جميع القرآن، بل يشمل من يحفظ منه جزءا، ولو أنه الفاتحة فقط، فإن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، لم يكن كل واحد منهم يحفظ جميع القرآن، ونحن على القطع بأنهم مصطفون) [نظم الدرر 16/54]؛ وعليه، فلقد أدرك نظَّار الأمَّة وعلماؤها حقيقة الاختلاف في الشَّرعيات – الراجع إلى تقلبات المباني الأدائية والأحوال اللهجية المروية للحرف القرآني، مما يندرج في حيز الأحرف السبعة ويأْرِزُ إلى وَريف ظلّه – وَعَيَّنوا مَخْرَجَه وبيّنوا مَدَاه وما إلى ذلك، ثُمَّ مَيَّزوا دلائل الصُّور الفقهية النازلة والمفروضة المنفكَّة عن أحوال اللفظ القرائي، وحَدُّوا ما يقبل الحدَّ منها، كما حَصَـرُوا ما يَدْخله الحَصْرُ منها إلى غير ذلك، ثم تركيب الأوجه الشـرعيَّة على جهة الأَولوية الحُكمية، وتعيين الأحق – منها – بالتقديم في رعْي المصلحة، وتَثْبيت قَصْد الشَّارع الحكيم ومراده بشرائطه وما إليه.

ثم هذه نماذج شواهد على تداعي دلالة اللفظ القرآني وتكاثر معانيه الفقهية وتصـريفات عوارضها النطقية، قد تضمّنت دواوينُ آي الأحكام – خاصة – نَبْذاً ثَرِيّاً منه، نوردها تصديقا للذي بُثَّ من أثر القراءة القرآنية وأوجه اللفظ القرآني في إثراء الدلالة الفقهية وتكثير المعاني الفروعية وتقريراً لمضامينه، فنقول وعلى الله سبحانه نعتمد:

قال تعالى: (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُم بِما عَقَّدتُّمُ الأَيْمانَ) [المائدة/89]، فقد قرأ حمزة والكسائي وخَلَف وأبو بكر عن عاصم (عَقَدتم) قَصْراً مع التخفيف، وابن ذكوان رواه (عاقَدتُّم) بالألف مع التخفيف، والباقون (نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب وحفص) (عَقَّدتم) بالتشديد مع القصـر [المبسوط 187، النشر 2/255]، فالاستعمال اللغوي العربي (قرآنا وحديثا وشعرا ونثرا …) قد جرى على أنّ (العين) و(القاف) و(الدال) أصل مطَّرد لمعنى الربط والشد والإحكام وما إليه، والعقد نقيض الحل، يقال: عقَد وعقَّد وعاقَد بين طرفي أو أطراف الشـيء المحسوس أي ربط بينها وشد بعضها ببعض على جهة التوثيق والإحكام، كالرَّبْط بين طَرفَي الحبْل والإِزَار حتى يصيرا قطعة واحدة لغاية التَّمْتين والتَّقْوية، والعُقدة: توثيق جمع الطرفين بحيث يشق حلها [المناوي، التوقيف ص 520]، ومن معنى الإحكام والتقوية الحسية للشيء أُخذت اللفظة فأريدَ لها العهد، ثُمَّ آلَ العقد لمعنى العهد الموثَّق والضمان المؤكَّد وكل ما ينشئ التزاما شرعيا [زهرة، نظرية العقد ص 199] كالبيع واليمين والنكاح وما أشبه ذلك، وأمَّا مدلول العقد في الاستعمال الفقهي: فجمهور الفقهاء على أن العقد في الاستعمال الشرعي الشائع يطلق ويراد به (كل ما أنتج التزاما شرعيا) بصرف النظر عن كون هذا الالتزام ناشئا عن اتفاق بين طرفين أو كان نتيجة لعزيمة الشخص الواحد في إنشاء التزام أو تصرّف شرعي معيَّن يأخذ به نفسَه على وجه الإلزام، ك‍ الوصية والوقف والنذر، واليمين على أمر في مستقبَل الوقت فعلا أو تركا وما إلى ذلك، وعليه؛ فقراءة التخفيف بمعنى أوجبتم [معاني الأزهري 1/338] ثم هي مُنتجة لوصف شرعي ملزم للحانث بأداء الكفارة إذا عقد يمين الحلف مرة واحدة مثلما يلزم بحلف مرات عديدة المستفاد من قراءة التشديد (عقّدتم)، إذا تعلق الأمر بالشـيء الواحد، لأن باب (فعّلت) يراد به: ردّدت الفعل مرة بعد مرة على جهة التوكيد، فقد سئل الإمام نافع عن معنى التوكيد فأجاب بما ذُكر (الحلف على الشـيء مراراً)، وإذا شددت القاف سبق إلى وهم السامع أن الكفارة لا تجب على الحانث العاقد على نفسه يمينا بحلف مرة واحدة حتى يكرر الحلف، وهذا خلاف جميع الأمّة، فإذا خففت دفع الإشكال [حجة القراءات لزنجلة ص 234] ، قال الفخر الرازي (ت‍ 606 ه‍) حاكياً عن العلامة الواحدي (ت‍ 468 ه‍): هبْ أنها – يريد صيغة التشديد – كما في قوله تعالى: (غَلَّقت الْأَبْواب) [يوسف 23] إلا أنَّ هذا التكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه، ومتى جمع بين القلب واللسان؛ فقد حصل التكرير، أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر؛ لم يكن معقّدا، [تفسير الرازي 12/78، البسيط لأبي الحسن الواحدي 7/501]، ومثل ذلك في إفادة معنى المبالغة قراءة (عاقدتم) لابن ذكوان، إذ المفاعلة فيه لم تأت على بابها وإنما المراد منها كونها للمبالغة والتكثير والتوثّق وما إليه مثل (عافاه الله) وأما قراءة التشديد (عقّدتم)، فتفيد حكم التكرار عند ابن عمر، فقد قال: (التشديد يقتضي التكرار، فلا تجب عليه الكفارة إلا إذا كرر اليمين) [أحكام القرآن لابن العربي 2/145]، وأما مجاهد فقد قال: (التشديد للتأكيد، وهو قوله: والله الذي لا إله إلا هو)، روى نافع عن ابن عمر: إذا لم يؤكد اليمين؛ أطعم عشـرة مساكين، وإذا أكدها؛ أعتق رقبة، قيل لنافع: ما التأكيد ؟ قال: أن تحلف على الشيء مرارا، قال ابن العربي: هذا تحكم لا يشهد له شيء من الأثر ولا من النظر [أحكام القرآن لابن العربي 2/145]، وقال أبو جعفر الطبري (ت‍ 310ه‍) (عقّدتم) بتشديد القاف بمعنى: وكدتم الأيمان ورددتموها … وبتخفيف القاف بمعنى أوجبتم على أنفسكم، وعزمتْ عليها قلوبكم … وأولى القراءتين بالصواب في ذلك؛ قراءة من قرأ بتخفيف القاف [الطبري 10/524]، إذ إنّ محض مادة العقد وأصل وضعه واشتقاقه فيه كفاية ومَقْنَعٌ لإفادة التثبيت والتوثق باليمين [التحرير والتنوير 7/20]، كما أن التعبير بالتوثق يكون بأحد ثلاثة أفعال في مجاري كلام العرب وهي: عَقَدَ المخفف، وعقَّد المشدد، وعاقد بوِزان فاعل [البسيط لأبي الحسن الواحدي 7/501]، وعليه، فالذي تشهد له الدلائل الشرعية وتُسيغه القواعد اللغوية أن القول بالتشديد فيه دلالة على حكم اليمين المؤكدة مع المكررة من غير تأثير على معهود العامة من حكم اليمين المعقود من غير توكيد ولا تكرار، ثم إنه لا مانع أن ينتصب التشديد لجمع الأيمان، فكأن القراء أسندوا الفعل إلى كل حالف عقد على نفسه يمينا، والتشديد إنما يراد له كثرة الفعل وتردده من أصحابه كلهم، فصار التكرار لا لواحد، فحسن لأجل ذلك التشديد [حُجّة زنجلة ص 234]، ثم إنه لا يمنع كون التشديد للتوكيد مثل قوله تعالى: (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) [النحل/91]، لكن على غير ما سبق من المعنى، بل التوكيد الذي هو ضد اللغو في اليمين واللغو ما لم يكن باعتقاد، قال ابن العربي (ت‍ 543 ه‍): الذي يتحصل من ذلك؛ أنّ التشديد على وجه صحيح، فإنّ المرء يعقد على المعنى بالقصد إليه، ثم يؤكد الحلف بقصد آخر، فهذا هو العقد الثاني الذي حصل به التكرار أو التأكيد، بخلاف اللغو فإنه قصد اليمين وفاته التأكيد بالقصد الصحيح إلى المحلوف عليه [أحكام القرآن لابن العربي 2/145].

وقال تعالى: (فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النَّعَم) [المائدة/95]؛ فقد قرأه الكوفيون عاصم وحمزة والكسائي وكذا يعقوب وخلف بتنوين الرفع مع رفع اللام [المبسوط لابن مهران 187]، على جعل (مثل) نعتا أو صفة للجزاء[معاني الأزهري 1/338]، فيكون المعنى فيه: فعليه جزاءٌ مثلُ ما قتل من النعم مماثل المقتول من الصيد (قيمة وخلقة على خلاف) [الحجة للفارسي 3/154]، ثم التقدير: فعليه جزاء وفاء للاّزم، قال الفارسي (ت‍ 377 ه‍): (فَمِنَ النَّعَمِ) على هذه القراءة؛ صفة للنكرة، والتي هي جزاء وفيه ذكره، ويكون (مِثْل) صفة للجزاء، لأنّ المعنى: عليه جزاء مماثل للمقتول من الصيد من النعم،… ولا ينبغي إضافة (جَزاء) إلى المثْل، ألا ترى أنه ليس عليه جزاءُ مثلِ ما قتل في الحقيقة، إنما عليه جزاء المقتول لا جزاءُ مثله، ولا جزاء عليه لمثل المقتول الذي لم يقتله، فإذا كان ذلك كذلك؛ علمت أن الجزاء لا ينبغي أن يضاف إلى المثل، لأنه يوجب جزاء المثل، والموجب جزاء المقتول من الصيد، لا جزاء مثله الذي ليس بمقتول، ولا يجوز أن يكون قوله: (من النعم) على هذه القراءة متعلقا بالمصدر، كما جاز أن يكون الجارّ متعلقا به في قوله: (جزاء سيئة بمثلها) [يونس 27]، لأنك قد وصفت الموصول، فإذا وصفته لم يجز أن تعلّق به بعد الوصف شيئا، كما أنك إذا عطفت عليه أو أكّدته لم يجز أن تعلّق به شيئا بعد العطف عليه والتأكيد له [الحجة 3/254] وأما الباقون (نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر) من السبعة وأبو جعفر؛ فقد تَلَوْهُ بغير تنوين مع خفض اللام أي بإضافة الجزاء إلى المثل [المبسوط لابن مهران 187]، على نية الإضافة (فَجَزاءُ مِثْلِ) والمضاف إليه مكسور [النشـر 2/255]، قال الفارسي (ت‍ 377 ه‍): فإن قوله (مِنَ النَّعَمِ) يكون صفة للجزاء، كما كان في قول من نوّن ولم يُضفْ صفة له، ويجوز فيه وجه آخر لا يجوز في قول من نوّن ووصف، وهو أن يقدّره متعلّقا بالمصدر، ولا يجوز على هذا أن يكون فيه ذكر كما تضمّن الذكر لما كان صفة، وإنما جاز تعلقه بالمصدر على قول من أضاف؛ لأنّك لم تصف الموصول كما وصفته في قول من نوّن، فيمتنع تعلّقه به [الحجة 3/ 255]، فالمعنى عند من أضاف الجزاء إلى المثل كمِنٌ في: أنّ عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله الذي لم يقتل وشاهده وناصره قوله تعالى: (أَوَ مَن كَانَ مَيِّتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشـي بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ في الظُّلُماتِ) [الأنعام 122]، قال الفارسي (ت‍ 377 ه‍) التقدير: أفمن جعلنا له نورا يمشي به كمن هو في الظلمات، والمِثْل والمثَل والشِّبْه والشَّبه واحد، فإذا كان مثله في الظلمات فكأنه هو أيضا فيها، … ولو قدَّرت الجزاء تقدير المصدر، فأضفته إلى المثل كما تضيف المصدر إلى المفعول به؛ لكان في قول من جرَّ مثلا على الاتساع الذي وصفْنا، ألا ترى أنَّ المعنى: فجزاءٌ مثْلَ ما قتل أي يجازى مثل ما قتل، والواجب عليه في الحقيقة جزاء المقتول لا جزاء مثل المقتول [الحجة 3/257] وعليه؛ فقد اختلفت أنظار فقهاء الأمصار تبعا لتعدد محمل القراءة وتقدير الوجه المثمر فيها، فكان مذهب أبي حنيفة النعمان أنه يقوّم الصيد المقتول قيمته من الدراهم، ثم يشتري القاتل بقيمته فداء من النعم ثم يُهديه إلى الكعبة، واستدل على هذا بقراءة من قرأ: (فجزاءُ مثلِ) مضافا، أي فعليه جزاءُ مثله، أو جزاء مثل المقتول واجب عليه، ووجه الدليل في هذا؛ أنك إذا أضفته يجب أن يكون المضاف غير المضاف إليه، لأنّ الشـيء لا يضاف إلى نفسه، قال: فيجب أن يكون المثل غير الجزاء [الحجة لزنجلة ص 236]، والشافعي على أن الرجل إذا أصاب صيدا وهو محرم في الحرم؛ يجب عليه مثل المقتول من الصيد من النعم من طريق الخِلقة، إن أصاب حمار وحش فعليه بدنة، وإن أصاب ظبيا؛ فعليه شاة، والذي يدل على مذهبه قراءة (فجزاءٌ مثلُ) بالتنوين، والمعنى: فجزاء ذلك الفعل مثل ما قتل، و(المثل) في ظاهره يقتضي المماثلة من طريق الصورة لا من طريق القيمة [حجة زنجلة 236]، قال ابن زنجلة (ت‍ 403 ه‍): ودليل آخر: قد قلنا إن قوله (فجزاءٌ) رفع بالابتداء و(مثلُ) خبره أو بدل منه أو نعت، وإذا كان بدلا منه أو مبتدأ؛ يكونان شيئا واحدا، لأن خبر الابتداء هو الأول، وكذلك البدل هو المبدل منه، وكذلك النعت هو المنعوت، ودليل آخر أنه قرنه بالنعم فقال: (فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النعم)، فدل على أن ذلك يعتبر فيه الخلقة لا القيمة [الحجة 236]، قال ابن العربي (ت‍ 543 ه‍): ومن يعجب فعجب من قراءة المكي والمدني والبصـري والشامي (فجزاءُ مثلِ) بالإضافة، وهذا يقتضـي الغيرية بين المضاف والمضاف إليه، وأن يكون الجزاء لمثل المقتول لا المقتول، ومن قراءة الكوفيين (فجزاءٌ مثلُ) على الوصف، وذلك يقتضـي أن يكون الجزاء هو المثل، ويقول أهل الكوفة من الفقهاء: إنَّ الجزاء غير المثل، ويقول المدنيون والمكيون والشاميون من الفقهاء: إنّ الجزاء هو المثل، فيبني كل واحد منهم مذهبه على خلاف مقتضى ظاهر قراءة قراء بلده. [أحكام ابن العربي 2/18]

إذن؛ فَذانِكَ أنموذجان قائمان شاهدان على لحْنٍ من التنوع الدلالي الفقهي، ونَحْوٍ من معالم التكاثر الفروعي المُسْتمِرّ المنفكّ عن تقلبات الصيغ الأدائية لألفاظ القرآن الكريم، وتداعي صور مبانيه الروائية المونقة، ومستتبَعات نظمه وعوارض تركيباته وجُمله، ذات الكفالة التصويرية لملامح الإعجاز والبلاغة المكتنزة لطرائق الأَلَق البياني القرآني، المؤدّى بالبلاغ النبوي المصطفوي صلوات ربنا وسلامه عليه، ونظائر ذلك عديدة مديدة نجتزئ – ههنا – بالذي ذكرنا إعلاما وتنبيها.

                    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق