مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

عظيم الأجر في قيام ليلة القدر

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا المصطفى، ورسولنا المجتبى، وعلى آله أهل التقى، وأصحابه أهل الصفا، ومن تبعهم إلى يوم الدين.

إن الله عز وجل قدر أزمانا وأوقاتا وخصَّها بعميم فضله، وجزيل أجره، لحكمة ربانية بليغة، وأسرار إلهية بديعة، وذلك تطهيرا لقلوب عباده، وتهذيبا لنفوس أوليائه؛ لينالوا بذلك رضاه، ويحضوا بجواره في علاه، ومن بين هذه الأوقات والأزمان التي فضلها الله تعالى، وخصها بالكثير من البركات والرحمات، واستجابة الدعوات، ليلة القدر المباركة، وإحياء ليلها بالصلاة، والقيام، والتهجد، والتسبيح؛ لأن فيها تفتح الأبواب، ويقرب فيها الأحباب، ويسمع فيها للخطاب، ويرد فيها الجواب، ويكتب فيها عظيم الأجر والثواب؛ حيث أن هذه الليلة من النعم التي من الله تعالى بها على أوليائه، وأشاد بذكرها في محكم كتابه، فقال سبحانه: (إنا أنزلناه في ليلة القدر،و ما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر) ([1])، وقوله سبحانه : (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين) ([2]) ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”([3]).

ولأهمية هذا الموضوع، أحببت أن أفرده بهذا المقال الذي سأتناول فيه التعريف بمعنى ليلة القدر لغة واصطلاحا، وفضلها، وأجر قيام ليلتها فأقول وبالله التوفيق:

معنى ليلة القدر لغة واصطلاحا:

ليلة القدر لغة:

 من معاني القدر قال ابن منظور في لسان العرب: “القدر والقدر: القضاء والحكم، وهو ما يقدره الله عز وجل من القضاء ويحكم به من الأمور  “([4])

ليلة القد اصطلاحا:

في الاصطلاح عرفها السيوطي في التوشيح: “ليلة القدر بسكون الدال مرادف القدر بفتحهما، سميت بذلك: لما يكتب الملائكة فيها من الأقدار، قال تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم) ([5])، ولم يعبر بالمفتوح الدال؛ لأن المراد به تفصيل ما جرى به القضاء، وإظهاره محددا في تلك السنة مقدار بمقدار، وقيل: المراد القدر العظيم، والمعنى: أنها ذات قدر لنزول القرآن فيها، أو لما يقع فيها من نزول الملائكة، والروح، والبركة، والمغفرة، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر”([6]).

فضل ليلة القدر:

ليلة القدر فضلها عظيم، وأجرها جسيم، ومما يذكر من فضائلها الآتي:

1-أنها ليلة أنزل فيها القرآن الكريم قال تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) ([7]).

2-أنها ليلة خير من ألف شهر: العبادة فيها تضاعف وتعدل عبادة ثلاثة وثمانون سنة، قال تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر) ([8]).

3-ليلة تنزل فيها الملائكة، والروح بالسلام والطمأنينة قال تعالى: (تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر) ([9]).

4-أنها ليلة مباركة: وصفها الله بذلك فقال: (إنا أنزلناه في ليلة مباكة) ([10])، فهي مباركة لعموم خيرها، وديوع فضلها، وعظيم ما يعطي المولى سبحانه فيها لمن قام ليلها إيمانا واحتسابا من الأجر العظيم والخير الجسيم.

5-ليلة تقدر فيها أرزاق العباد وآجالهم: قال تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين) ([11]).

6-ليلة تستجاب فيها الدعوات، وتغفر فيها ذنوب العباد؛ لأنها ليلة العفو والمغفرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من قام ليلة القدر غفر له ما تقدم من ذنبه” ([12]).

فضل وأجر قيام ليلة القدر:

إن فضل قيام ليلة القدر المباركة عظيم، وأجر إحياء ليلتها جسيم؛ لأن فيها عبادة من أجل العبادات ألا وهي القيام أمام رب العالمين بالليل والناس نيام، ليلة يناجي فيها العبد مولاه، ويقف عند بابه، يستمطر رحماته، ويطلب غفران ذنوبه قال تعالى: (أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الأخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب) ([13]).

فما أيسره من طريق إلى جنان ربه المعبود، وإلى مقامه العظيم المحمود، الذي وعد به عباده الصالحين، وأوليائه المقربين قال تعالى: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) ([14]).

فمن وفق إليها نال من حظوظ الدنيا والآخرة أوفرها ، وناله في دربه من صلاح الحال والمآل أجملها، ففيها تقسيم الأرزاق، وتقدر الأعمال والأوقات، وفيها تنزل الملائك والروح بإذن ربها، فيا سعد من ابتغى في قيامه تلك الليلة وجه ربه، احتسابا وإيمانا به، لا رياء فيها ولا سمعة، فقد وعد من كانت حاله هكذا بغفران ذنوبه، ومحو آثامه، ما تقدم منها في سابق عمره، فقد جاء في ذلك حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه “([15]) ، وفي رواية أخرى: “من يقم ليلة القدر فيوافقها –أراه قال:-” إيمانا واحتسابا غفر له”([16]).

قال ابن بطال القرطبي: “قوله إيمانا: يريد تصديقا بفرضه، وبالثواب من الله تعالى ، على صيامه وقيامه ، وقوله : احتسابا ؛ يريد بذلك يحتسب الثواب على الله ، وينوى بصيامه وجه الله ، وهذا الحديث دليل بين أن الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تتقبل إلا مع الاحتساب وصدق النيات ، كما قال عليه السلام : ” الأعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى”([17])([18]).

وقال المناوي: ” غفر له ما تقدم من ذنبه: الذي هو حق لله تعالى والمراد: الصغائر، قال الزركشي: كل ما ورد من إطلاق غفران الذنوب كلها على فعل بعض الطاعات من غير توبة كهذا الحديث، وحديث الوضوء يكفر الذنوب، وحديث من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له، فحملوه على الصغائر؛ فإن الكبائر لا يكفرها غير التوبة، ونازع في ذلك صاحب الذخائر، وقال : فضل الله أوسع، وكذا ابن المنذر في الإشراف فقال : في حديث من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، قال : يغفر له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها، وحكاه ابن عبد البر عن بعض معاصريه، قيل : وأراد به أبا محمد الأصيلي المحدث، أن الكبائر والصغائر يكفرها الطهارة ،والصلاة لظاهر الأحاديث، قال : وهو جهل بين، وموافقة للمرجئة في قولهم، ولو كان كما زعموا لم يكن للأمر بالتوبة معنى ، وقد أجمع المسلمون أنها فرض، والفروض لا تصح إلا بقصد، ولقول المصطفى صلى الله عليه وسلم كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر”([19]).

إن أجر قيام ليلة القدر عظيم على المسلم الحرص على قيامها؛ لأنها تحدث مرة كل عام، فقد لا يكتب له حضورها مرة أخرى، وعليه أن يحث على قيامه أهله وأبناءه كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله”([20]).

ولله در القائل:

يا نائما بالليل كم ترقد   ***   قم يا حبيبي قد دنا الموعد

و خذ من الليل و أوقاته *** وردا إذا ما هجع الرقد

من نام حتى ينقضي ليله *** لم يبلغ المنزل أو يجهد

قل لأولي الألباب أهل التقى *** قنطرة العرض لكم موعد([21]) .

إن قيام هذه الليلة يكون بصلاة التراويح التي يؤذيها المسلم جماعة مع الإمام في المسجد بعد صلاة العشاء مباشرة، وإن رغب أن يصليها منفردا أو مع أهله في بيته آخر الليل مما تيسير له منها فله ذلك، لينال فضل صلاة جوف الليل ؛ لأنها مشهودة مكتوبة، ينزل الله عز وجل في ثلثها الأخير كما ورد في الحديث: “ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له”([22]).

وكذلك يقيمها بتلاوة القرآن الكريم، والإكثار من ذكر الله عز وجل من تسبيح ، وتحميد، وتهليل، وتكبير، واستغفار، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتضرع إلى المولى عز وجل بالدعاء، وأفضل دعاء علمه النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها لتدعو به في هذه الليلة هو: “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”([23])

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى أن:

1-الله سبحانه وتعالى خصص أوقاتا وفضلها على غيرها وخصها بالأجر والثواب.

2-فضل ليلة القدر عظيم؛ لأنها ليلة أنزل فيها القرآن، وهي خير من ألف شهر تتنزل فيها الملائكة والروح بإذن ربها من كل أمر، وأنها ليلة مباركة تقدر فيها أرزاق العباد، وتكتب آجالهم، ويستجاب فيها الدعاء.

3-أن عظم فضل هذه الليلة المباركة يتجلى في: غفران ما تقدم من ذنوب العباد، وذلك لمن وفق ووافقها، وأقام ليلها بالصلاة والقرآن إيمانا واحتسابا.

4-أن المحققين من العلماء قالوا: أن غفران الذنوب في هذه الليلة مخصوص بالصغائر دون الكبائر التي لا يكفرها إلا التوبة النصوح، وتوسع في ذلك بعض الأئمة، وقالوا بغفران الكبائر والصغائر معا، وهو قول رده العلماء.

5-قيام هذه الليلة بإحيائها يكون بصلاة التراويح التي يؤديها المسلم جماعة مع الإمام في المسجد بعد صلاة العشاء مباشرة، وله أن يصليها منفردا مع أهله في بيته آخر الليل يقرأ فيها ما تيسر له من القرآن.

6-على المسلم أن يغتنم قيام هذه الليلة المباركة بالصلاة، والقيام، والذكر، والدعاء، وتلاوة القرآن، وأن يحث أهله وأبناءه على قيامها أيضا.

والحمد لله رب العالمين.

********************

هوامش المقال:

([1]) سورة القدر من الآية:  (1).إلى: (5).

([2]) سورة الدخان من الآية:  (3) إلى: (5).

([3]) أخرجه مسلم في صحيحه (ص: 343)، في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح برقم: (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([4]) لسان العرب (5 /74) مادة: “قدر”.

([5]) سورة الدخان  (4).

([6]) التوشيح شرح الجامع الصحيح (4 /1480).

([7]) سورة القدر (1).

([8]) سورة القدر (3).

([9]) سورة القدر (4-5).

([10]) سورة الدخان  (3).

([11]) سورة الدخان (4-5).

([12]) تقدم تخريجه.

([13]) سورة الزمر : (9).

([14]) سورة الإسراء : (79).

([15]) تقدم تخريجه.

([16]) أخرجه مسلم في صحيحه (ص: 343) كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح برقم: (760).

([17]) أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 7)، كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم: (1) بلفظ: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى”

([18])شرح صحيح البخاري (4 /21).

([19])فيض القدير  (6 /191).

([20])أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 486)، كتاب: فضل ليلة القدر ، باب: العمل في العشر الأواخر من رمضان برقم: (2024) من حديث عائشة رضي الله عنها.

([21])لطائف المعارف (ص: 342).

([22]) أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 277)كتاب: التهجد بالليل، باب: الدعاء في الصلاة من آخر الليل برقم: (1145) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([23]) أخرجه ابن ماجه في سننه (ص: 634)كتاب: الدعاء، باب: الدعاء بالعفو والعافية برقم: (3850).

*****************

لائحة المراجع:

التوشيح شرح الجامع الصحيح. لعبد الرحمن السيوطي، تحقيق: رضوان جامع رضوان، مكتبة الرشد، الرياض، ط1/ 1419هـ- 1998مـ..

السنن لابن ماجه لمحمد بن يزيد، حكم على أحاديثه: محمد ناصر الدين الألباني، اعتنى به: أبو عبيدة مشهور حسن آل سلمان، مكتبة المعارف، الرياض ط1 (د.ت).

شرح صحيح البخاري لأبي الحسن علي بن خلف ابن بطال القرطبي، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد الرياض، ط2/ 1423هـ- 2003مـ.

صحيح البخاري. لمحمد بن إسماعيل البخاري. دار ابن كثير، دمشق، ط1 /1423هـ- 2002مـ..

صحيح مسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجاج. تحقيق: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي. دار طيبة. ط1 /1427هـ- 2006مـ.

قيض القدير شرح الجامع الصغير لزين الدين محمد عبد الرؤوف المناوي، دار المعرفة، بيروت، ط2/ 1391هـ-1972م.

لسان العرب لابن منظور الإفريقي، دار صادر بيروت، ط3/ 1414هـ- 1994مـ

لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف. لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي. تحقيق: ياسين محمد السواس. دار ابن كثير  دمشق – بيروت. ط5/ 1420هـ – 1999مـ .

*راجع المقال الباحث: يوسف أزهار

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق