
تأوَّلتَ قرآنا على غير معناه | وقوَّلْتَه ما لم يقُل ربُّنا الله |
وفسرتَ آياتٍ على غير وجهِها | وحمَّلْتَها بالرأي ما الشرعُ يأباه |
فيا ليتَك استمسكتَ فيها بمنهج | من الأخذ بالمأثور لا تتعدَّاه |
فقِدْماً كُفيتَ الهمَّ فيه بمن مضى | بما دونوا في الكتب لا تتحاشاه |
هُدُوا منه للتأويل حقا وأُلهِموا | معانيَه واستنبطوا سرَّ نَجواه |
ولم يُمعِنوا في الغَوص فيما طريقُه | روايتُه عمن بِنقلٍ تَقصَّاه |
وكانوا هم الأعلَيْنَ في العلم والنُّهى | وفي القول بالمأثور رَعْياً لجَدواه |
وفيهم إمامُ العلم والفضل والحِجا | هو الطبَريُّ الحَبر حلَّاه مولاه |
ومن لَفَّ ذاك اللَّفَّ ممن تصدَّرُوا | وقاموا بتفسيرٍ وفقهٍ لِمَقراه |
وقد نَهَجوا للناس في ذاك مَهْيَعاً | لتأويله ما ضلَّ من يتوخَّاه |
به عِصمةٌ للمهتدين بهديه | عن الزيغ عن إِحكامِه لِمُعَمَّاه |
كما رَتَّبوا للوِرد منه مَناهلا | إذا أَمَّها الظمآنُ فاضت رواياه |
فمن يبْتغ التفسيرَ يَقْفُ سبيلَهم | على مَسلك فيه بلوغُ مُغَيَّاه |
وبعد فللتفسير في رُتَب العلا | معالمُ لم يُخْلِلْ بها مَن تَعَنَّاه |
فأجوَدُه ما جاء فيه تلاوة | من الآي مَعنيّاً به عين معناه |
وما جاء في التفسير عن سيد الوَرى | بنصّ، وصح النقلُ عمن تَلَقَّاه |
فما كان عن أصحابه سُرُجِ الهدى | فهم شَهِدوا تنزيله إذ يُلقَّاه |
وهم عرفوا أسبابَه حين خوطبوا | به، ودَرَوا أحوالَه وحكاياه |
وفيما رآه التابعون مواردٌ | غزارٌ لمن رام الهدى وتحرّاه |
لقد صَحِبوا الصحبَ الكرام وأدركوا | من السمع منهم ما استفاض بسُقياه |
وأتباع جيل التابعين تتابعوا | على إثرهم مستمسكين بوُثقاه |
ففي الفقه في أحكامه قد تفننوا | بما استنبَطوا من لفظه وثناياه |
وقد نَفَضوا نفضاً جليَّ بيانه | وغاصوا على السر الخفيّ ومجراه |
وبالمقتضى قد فسروا وتأولوا | مدارك من فقه الخطاب وفَحواه |
فباحت بمكنون اللآلئ آيُه | وفاحت بما دَلّت عليه خَباياه |
فتوجِزُه طوراً كقصة يونسٍ | بنونٍ وفي اليقطينِ بَسْطٌ لبَلْواه |
تَبَيَّنَ فيها صاحبُ الحوت مَن عُنِي | به وأمورٌ أُجمِلَت عند أُولاه |
وذو الكِفْلِ لم يُذكَر لنا كُنْهُ أمرِه | فلا أحدٌ يَدريه والذِّكْرُ أَخفاه |
(وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ) كافٍ بحقِّه | ولو تحته عِلْمٌ لزاد فسمَّاه |
وما يك عن مثلِ ابنِ عباسِ نقْلُه | إذا صَحَّ عنه فاعتمِدْ منه أَصفاه |
ولا يَسلُمُ النَّبعُ الصفيُّ من القَذَى | وإن عَذُبَتْ منه لدى الورد أمواه |
فقد طلعت تلك العهودُ بمعشر | أعاجِمَ عن روحِ البيان ومنحاه |
خُذِ الحِذْرَ واستعصِم بمنهاجِ مَن مَضى | على السَّنن المرسومِ مما وصفناه |
ففي عصرهم قد خالفَ النهْجَ مَعشرٌ | بغير الذي قد أخبر النصُّ قد فاهوا |
وخاضوا بمَحضِ الرأي فيه بمَهْمَهٍ | بلا غاية، والرَّكْبُ يَطلبُ أَقصاه |
ويضرِب في طول الكلام وعَرْضه | يُحَكِّمُ بالتأويل ما بات يَرْآه |
هنا زَلَّتِ الأقدامُ عن سَنَن الهُدى | فكَم قائلٍ في الدين ما راح يَهواه |
إذا قيل هذا الوحيُ قد قال أَجفَلُوا | وخاموا عن التنزيل جَحداً لفَحْواه |
وقالوا كلامٌ شأنه شأن كلِّ ما | يُشاكِله من جنسه قد عَرَفناه |
وفيه مجالات قضى العقلُ والحِجا | بها غيرَ ما يُروى وللفكر مَرْآه |
فلا بد من تأويل ما خالف الحِجا | وبانت بتوجيه الكلام نواياه |
هنالك طَفَّ الكيل واعتاصت الرؤى | وأُبرِمَ حكمُ الرأي، والعصرُ حاباه |
فعمَّتْ به البلوى بتأويل عُصبةٍ | لكل امرئ منهم على الدين دَعواه |
أجال بها النَّظَّامُ جُندَ نِظامه | وبثَّ بها العَلَّاف جيشَ سَراياه |
وفي كل جيل بعد ذاك بقيةٌ | تَحِنُّ إلى هذا الصنيع وترضاه |
أثاروا خصوماتٍ وخاضوا مَعامعاً | فردُّوا كلام الله نفيا لرؤياه |
وقالوا: استواءُ العرش محضُ كنايةٍ | عن الْمُلك، لا عرشٌ على الماء سَوَّاه |
وردوا صفاتٍ للإلهِ أتى بها | مفصَّلةً تنزيلُه، وهْيَ أَسماه |
وقد أنكَروا سَبْقَ القضاء بما جرَى | ويَجري على المخلوق من قبلِ مَحياه |
وفي الوعد قالوا والوعيد وخَلْقهم | لأفعالهم، كلٌّ أقامَ قضاياه |
نقيضاً لما في محكم الآي وانتحَى | مَناحيَ في التأويل تُعلِي دَعاواه |
فيا ليت قوما يعرفون حدودَهم | فيوقَفَ شأنُ العقل عند قُصاراه |
ويُعلَمَ أن العقلَ فيه سِماتُنا | من النقص في المخلوق في كلِّ مَسْعَاه |
وليس بنِدِّ الشرع أو بَدلاً له | فأقصى مَقامِ العقل أن يَتَقَفَّاه |
وهم قلبوا الميزان جهلا وأجلَبوا | على النص بالتأويل يَلْوون مَعناه |
وقد كَرَّم الله العقولَ وصانَها | بتشريعه عما دَهَتْهُم بلاياه |
وفيهم أتى التحذير ثالثَ سورة | من الذكر ممن في التشابُهِ قد تاهوا |
يريدون تأويلَ الكتاب على الهَوى | فقالوا به ما غَيرَه أنزلَ الله |
وما يَعلم التأويلَ فيه سوى الذي | به اختَصَّ في عَليائه، وهْوَ أوحاه |
فليس يزيدُ الراسخون بعِلمه | بقولٍ سوى إيمانِهم بمُؤَدَّاه |
فمن عَزَّهُ ما أدركوه أصابه | إذا ما تَلاه واستعانَ بمولاه |
وسار على الهَدْي الذي استمسَكوا به | فدَرَّ له من فَهمِه فَيْضُ نُعمَاه |
ففي كُتُب التفسير بُثَّت علومُهُم | وأُسندَ عن أهل اللسان مُروَّاه |
وفي النحو في كتْب الأَعاريب صفوةٌ | بها يصل الراقي إلى أَوْجِ مرقاه |
وفيه غريب اللفظ يُدْرَى قَبيلُه | وتُدركُ من كُتْب اللغاتِ جَلَاياه |
ومنه لَدى أهلِ المعاني مَعارضٌ | مُحَبَّرَةٌ يقتصُّها مَن تَصَبَّاه |
ومنه مَجَازٌ في الفصاحة ضاربٌ | بسهم، وفي علم البلاغة مَغْنَاه |
ولَحْظُ سياق النص يُفْضي بسرّه | ففيه على المعنى دليلٌ وإنباه |
وبالعلم بالأسباب يُجلَى خَفيُّه | ويُعرَف من كُتْب الروايةِ مَنحاه |
وفي كُتُب الأَحكام يُعنى بفقهه | وفاقا وتوجيها لِما اللفظُ أبداه |
بها عُنيَ الأعلام في كل مذهب | على وَفْقِ ما شَدُّوا وشادوا حَكاياه |
وما قيل في إِحكامه أو بنسخه | فذاك صَنيعٌ في الأصول صَفاياه |
وما قيل فيه: مُجملٌ أو مقيَّد | وما قيل مخصوص بنصٍّ تلافاه |
وما جاء عن خير الأنامِ بيانُه | بقولٍ وفعلٍ أو بوصفٍ تَحلَّاه |
وجاءَ جوابا عن سُؤالٍ، وربَّما | أتى خبرا عن بعض ما قصه الله |
فذاك هو التأويلُ أو ذاك بابه | وما يَكُ من فقه فتلك مطاياه |
فلا تَعْدَوَنْ عنه إلي غير مذهب | فتَغْرَقَ في بحر تَطُمُّ بلاياه |
ولكنْ سؤالٌ ههنا عَزَّ أهلَه | جوابٌ، وكم من مرةٍ قد سمعناه |
لماذا وَفَى الشرعُ الحكيمُ بمن مضى | وفي عصرنا هذا الوفاءُ افتقدناه؟ |
مشاكلُنا فيه عَوَالِقُ لم تجد | حلولا، وكم من مُعْضِلٍ قد بلوناه |
أمِنْ ضِيقِ نصٍّ عن وقائعَ لم تَزَلْ | تَجِدُّ، أم الفهمُ الأصيلُ منِعْنَاه |
وعصْمة شرْعِ الله تنفي قُصورَه | وإيمانُنا جَزْمٌ بها قد عَقَدْناه |
ومن أين يأتيه القُصورُ ووحْيُه | من الله تنزيل عزيز وَعَيْنَاه |
وما حادثٌ في الكوْن إلا وحُكمُه | تَقرَّرَ في تَنزيله وحَفِظناه |
فما فيه تَفريطٌ لشيءٍ وما به | قصورٌ وضيقٌ عن جديد تَحدَّاه |
لقد "أُحْكِمَتْ آياتُه ثم فُصِّلَتْ" | حكيمٌ خبيرٌ قصها إنه الله |
وفي شأنه في سورة النحل قد أتى | دليل على تِبيانِه، قد تَلَوْناه |
فَقد جاءنَا بالفَصل في كلِّ طارئٍ | وما فاتَه شيءٌ من الحكمِ أَعْراه |
ومِن قَبْلِنا أبدى الأئمةُ حِذقَهم | بما استنبَطوا من عِلمه وثَناياه |
وما وَقَفوا في حادثٍ ثم أحْجَمُوا | وقالوا: جديدٌ ما لنا فيه أَشْباه |
فقاسوا على المنصوص ما فيه وَصْفُه | وما أشبَهَ المنصوصَ حُكْماً وحاكاه |
وهُمْ أَصَّلُوا فقهَ الْمَقاصد، واعتَنَوْا | بفقهِ مآلاتِ الفِعالِ ومَنحاه |
وقد وَجدوا فيه الدَّلالاتِ حُفَّلاً | قَوابلَ للإجراء كلٌّ بِمُجراه |
فما نزَّلوه نزَّلوه بحقه | مَقيسا على أصل الدليل ومَبْناه |
وما أخرجوه أخرجوه لعلةٍ | ووصفٍ به قد شذَّ عن حُكْمِ قرباه |
وكانوا من التقوى بحالِ حَصانةٍ | وما عَصَمَ العبدَ الْمُنيب كتَقْواه |
فما صادموا نصّاً، ولا وضعوا له | قياسا يصُدُّ الناسَ عن فهم مَجْلاه |
فمَن ظَنَّ تأويل النصوصِ بحملها | على غير ما نَصَّت فقد خاب مَسْعَاه |
ولكنَّ إدراكَ الدَّلالاتِ بالحِجا | بديعٌ إذا وجهُ البيان تقاضاه |
ودل عليه اللفظُ في أصل وضعِه | لدى أهله عُرفاً، وصح مُؤدَّاه |
وللأمر مِعيارٌ فلا تك مُخْسِراً | فتعْدُوَ باللفظ المؤوَّل فُصحاه |
وتُلْبِسَه ما ليس من زِيِّ أهله | فبيس الدَّعِيُّ الوَغْدُ مَن تتبَّناه |
ولا تَجْفُ عن روح البيان فإنه | هو السِّمَةُ الحُسْنى، وماءُ مُحَيَّاه |
به عُرِفَ الإعجازُ واتضح الهدَى | ودَوَّتْ به آياتُه ووصاياه |
وفي الوحي ألفاظٌ أتت في سياقها | فلا تَنْحُ فيها للذي السَّرْدُ يأباه |
وكُلُّ كلامِ الناس حاجَتُه إلى | سياقٍ يُراعَى كي تضيء مراياه |
فكيف كلامُ الله ثم كلامُ من | له الله بالتبليغ للوحي أصفاه |
وقال الإمام الشاطبيُّ مقالة | بها احتجَّ في فهم الدليل ومغزاه |
لو اعْتُبِرَ اللفظُ المجردُ وحدَه | بكل كلام لم تَبِنْ قَطُّ فحواه |
ولكنْ سياقُ اللفظ يحكي حديثه | ويكشف عن معنى الكلام ومَسْراه |
وما شَذَّ عن جاري السياق تطَوَّحَتْ | به سُبُلُ الدعوى وزادت لُغَيْزَاه |
وقد بُلِيَ التفسر منه بمَنهج | غريب، وبعضٌ تيَّمَتْه سباياه |
ك "أنتم سكارى" أَوَّلُوا السُّكرَ شَهوةً | وقالوا: مرادُ اللفظ سُكْرٌ بدنياه |
و"تغتسلوا" قد أولوا الغُسْلَ توبةً | وقالوا: لكي يغشى طَهورا مُصَلَّاه |
و "من ذا الذي يشفَعْ" يزيلون عينَه | يقولون: داءُ النفس بالذُّلِّ مَشْفاه |
و "نعليك فاخلع" قيل: يخلع كلَّ ما | سواه من الأكوان، لا يُبْقِ إلَّاه |
وهذا من التأويل عُسْفٌ تتابعوا | على مثله نَهْجاً وهاموا بسُعْداه |
وما هكذا فَهْمُ الذين عليهمُ | تنزَّلَ في لفظ الكتاب ومعناه |
وهم زعموا للَّفظِ ظهرا وباطنا | وقالوا: المرادُ البطنُ لا ما تردَّاه |
فساروا مع التأويل حتى تقَحَّموا | مَجاهلَ من نسْج الخيال وعُدْواه |
وتلك معانٍ لا السياقُ يفيدُها | ولا مثلَهُن العُرْبُ كانت تَقَرَّاه |
وقِسْ مثلها، إذ لا اعتبارَ بشَرْعنا | بغير الذي في عُرفهم قد عهدناه |
وما يُدَّعَى في لفظه من إشارةٍ | فدَعْوَى، وما كُلٌّ تُسَلَّمُ دَعواه |
وقومٌ أبَوْا تركَ الظواهر فاعتدَوْا | على الشرع في أمر دَهَتْنَا فتاواه |
فأفتوا بتحليل الربا وتلوْا بما ال | خطاب به في آل عمران مثواه |
ب "لا تاكلوا الربا" استُهِلَّ وقد نهى | عن الأكل أضعافا تُضاعِف بلواه |
وقد زعموا أن المحرَّم منه ما | تضاعَفَ أضعافا، كما اللفظ أداه |
ليُعْطوا لِمدلول الخطابِ خصوصَه | لِما خصَّ بالنهي الذي النصُّ أملاه |
ويخرجَ بالمفهوم ما ليس وصفُه | على الضِّعف أضعافا، فلا نَصَّ ينهاه |
وهم مَوَّهوا مكرا، وقالوا: دليلُنا | صريحُ مقولِ اللفظ لا نَتَخَطَّاه |
وألغوْا من المأثور كل مقالةٍ | عن السلف الماضين مما رويناه |
فلا هُمْ بتدريج النزول قد احتَفَوْا | ولا عرفوا أسبابَه حين أوحاه |
ولا أدرَكوا من لفظه أن وصفَه | بتضعيفه فِقْهُ القواعد أَلْغَاه |
رَعى أنه في غالب الأمر شَأْنُه | كذاك فَسِيقَ الوصفُ رَعْياً لأعلاه |
نهى عن كثيرٍ شاع فيهم مُضاعَفاً | فجاء على ما عَمَّت القومَ عُدْواه |
وما حَظَرَ الشرعُ الحنيفُ بنصه | تَساوَى كثيرُ القدر منه وأدناه |
وما جاء فيه العَفوُ فهو ضرورةٌ | فأنَّى لباغي الشِّبْهِ تحقيقُ دعواه؟ |
فيا قاضيا بالرأي في شرع ربِّه | تبدَّلْتَ من رأس الدليل ذُناباه |
تأَوُّلُكَ اللفظَ الصريحَ جنايةٌ | على النص لا تخفَى ونَقْضٌ لِمَبْناه |
فما قد أتى نصّاً وبانَ دَلالةً | بظاهره في لفظه ومُهَجَّاه |
وجاءت نصوصُ الوحي شاهدةً له | مسلَّمةً من أهله حين مَأتاه |
على اللغة الفصحى التي خوطبوا بها | فليس لِذِي رأيٍ به ما تَمنَّاه |
هي الشاهد الأزكى على السَّنَن الذي | عليه جَرَى الحكم الذي شرع الله |
بها أُنزِلَ التنزيلُ من عند ربنا | على عبدِه في قومِه إذ تلقاه |
وقامتْ عليهِمْ حُجَّةٌ ببيانِه | وقامت علينا، كُلُّنا فيه أَشباه |
فما في لسانِ القوم يومَ نزوله | بمدلوله اللفظيِّ باقٍ على ما هو |
وقد نَوَّهَ الذكر الحكيم بكونه | لسانَ رسولٍ في العروبة منماه |
فَدلَّ على أن المرادَ اشتمالُه | على الوحي مَدلولا عليه بلُغْواه |
وتأويلُه تنزيلُه في كثيرِه | ومن لَفظه المقروء يَبْدُرُ مَرماه |
لذلك يحتجُّون فيه بما رووا | من الأدب المأثور والشعرُ أسماه |
معانٍ على جاري الخطاب الذي به | عُنُوا، وبه الإعجازُ لاحت مزاياه |
وفيه قراءاتٌ يؤولُ كثيرُها | لمعنىً، فخُلْفٌ في اسمِها لا مُسمّاه |
وفي بعضها تأويلُ بعضٍ، وربما | تعدَّدَ تأويلٌ لما في طواياه |
وما هيَ إلا في الأداء تنوُّعٌ | وبابٌ من الإعجاز عَمَّتْ حُدَيَّاه |
أقول وفي نفسي على الحال حُرْقَةٌ | وماذا عسى المحزونُ تُجديه شَكواه |
وقد حَزَّ في نفسي تقهقرُ أمتي | وعَهْدُ سُباتٍ أنهكتْها رزاياه |
وطال عليها الصَّمْتُ والدهر حولَها | يموج كأن لم تَبْقَ للناس أفواه |
وللعلماء السَّبقُ كان ولم يَعُدْ | وكلٌّ توَلَّى في الهَوى ما تولاه |
لمن تُقرَع الأجراسُ أهو لراقد | فنوقظَه أم قادمٍ نترجَّاه؟؟ |
ومن يضبطُ الإيقاعَ والجوقُ صاخبٌ | وقد زَفَنَتْ في كل جوقٍ رعاياه |
وقالوا لنا رأيٌ نراه ومذهبٌ | ومن حقٍّ كُلٍّ يَحتذي ما تراءاه |
فإن يكُ ذا رأيٍ صوابٍ فأجره | على الضَّعف أو يخطِئْ فعفوٌ خطاياه |
وكلٌّ له حقُّ اجتهاد بدينه | وكلٌّ له في النص فهمٌ برؤياه |
ولا أحدٌ حاز الحقيقة كلَّها | على زَعمهم، فالفكر حُرٌّ بمبداه |
كذلك قالوا واطمأنَّ لفيفُهم | بما لَفَّقُوا من مَنطق قد بلوناه |
وفتحُ مَجالِ الاجتهاد فضيلةٌ | ولكنْ تَخَلَّفْنا فصِرْنا ضحاياه |
وقَفْنا وسار الآخرون وشيَّدوا | مواقع َواحتَلُّوا مجالا تركناه |
وجاؤوا بفِكرٍ صِيغَ في ظِل مَنطقٍ | تَجاذبَه الوضع الذي كان يحياه |
فما زال حتى اجتاحَ ما في طريقه | ولُذْنا بصَمتٍ لم نُطقْ وقْف مجراه |
وثارتْ بنا شتَّى المعاضِل فانبرَوْا | لها وعجَزْنا، والزمامُ فقدناه |
وقلنا: قُصورُ النص والجهلُ ضارب | بأَطنابه، والنص وافٍ على ما هو |
ولكنما الإشكالُ فينا، وعمْرُه | مديدٌ ولم نفتأ نضَمِّدْ جرحاه |
وكم قد عدَدْنا في الأصول أصولَنا | ولا واحدٌ منها أخيرا فَرَضناه |
وكنا التزمنا دهرَنا فقهَ مالك | وسُحنونَ قد هِمْنَا به وحفظناه |
وخُضْنا خلافا ضَافيا لابن قاسمٍ | وأشهبَ، كلٌّ عن إمامٍ تبِعناه |
فما مَرةً صرنا إلى نقل أشهَبٍ | ولا قوله، إذ فقهُنا قد تَحاماه |
وظل ابنُ رشدِ (الجدُّ) صاحبَ أمرنا | نقول بما في شرحه وفتاواه |
ونُعرِض عن فقهِ الحفيدِ ونهجِه | وما نصَّ في فقه الخلافِ ومبناه |
وبات ابن عبد البر خارجَ فقهِنا | وما ارتاد من فِقهِ الدليل وأَحياه |
وما ساق في استذكارِه من مذاهبِ | وما نقل الباجي وصحَّحَ مأتاه |
ومن عَجَبٍ تأييدُ ما لابنِ قاسمٍ | وتأويل ما عن مالكٍ في موَطَّاه |
فنَترُكُ أصلا ثم نقضي بفرعه | لأن فلانا عن فلان تلقاه |
وجاء خليل بالتآويل فاعتلى | قرونا وصار الفقهُ فكَّ مُعَمَّاه |
وأُبْنَا إلى مَيارةٍ وابنِ عاشرٍ | قُنوعاً بما من فِقهنا قد طويناه |
وجَدَّتْ ومازالت تجِدُّ مسائلٌ | ولَمَّا يَجُزْ إعرابُنا "شابَ قَرْنَاهُ" |
وباتَتْ زمانا دارُ لقمانِ فِقْهِنا | على حالها، والدهر يُمْلي قضاياه |
عَكَفْنا على شرح المتون حياتَنا | وشرحِ حواشي الشرح حتى سئمناه |
وَعُدنا لنظم لخَّص الشرحَ نستقي | مضامينه شرحاً ونثرا لمبناه |
ولسنا على حكمٍ نجيء بآية | دليلا، ولا من سُنةٍ نتعاطاه |
ويتلَى كتاب الله فينا تعبُّدا | ولكننا من فقهِنا قد نبذناه |
وظلَّ دليل الشرع عنا بِمَعزِلٍ | فلا الشرعَ أعمَلْنا، ولا ما شرحناه |
تَواَرى جمالُ النص خلْفَ حواجزٍ | سِماكٍ، وصار الفقهُ صفراً ليمناه |
شروحٌ وأقوال وسردُ مذاهبٍ | وخُلفُ ابنِ رشدٍ وابنِ لبٍّ بفُتواه |
شُغِلْنا بِمسحِ الخُف نُحصي شروطَه | وهل جَوْرَبٌ في حكمه حين نُكساه |
فقال فريق شرطُه الجلدُ وحده | وقال فريقٌ كلُّ ما العضو غطّاه |
وظل فريقٌ ممسكاً متوقفاً | يُراوح في طرد القياس ومنفاه |
وقد نَسيَ الناسُ الخِفافَ ولُبسَها | ولَمَّا نَزَلْ في الخلف لا نتعداه |
وطارَ "حُنَيْنٌ" بالْمَطِيَّة لم نجد | لها أثرا بعد الذي قد درسناه |
ومن زمنٍ فقهَ النواقضِ لم نَجُزْ | وتقسيمَها، والخلفَ فيها ومنشاه |
وفي القَبْضِ والإرسالِ ما زال خلفنا | كما هو عن ثاني القرون ورِثناه |
وتسليمُنا في الفرض ثِنْتَيْنِ فِعلُه | نذيرٌ بِشَرٍّ ليس تُحْمَدُ عقباه |
ومنذ عهود أُلغيَ الرِّقُّ وانتهى | ولَمَّا نَزَلْ في فقهنا نتلقّاه |
ونبحث في شرط الإمامةِ حكمَه | وفي كل أبواب العقود بحثناه |
وقد شغلتْ أحكامُه ربعَ فقهنا | ففي كل بابٍ ذكره وقضاياه |
ونهدِرُ فيه الوقتَ بين مُكاتَب | وقِنٍّ ومَن تدبيره موتُ مولاه |
ولما نُفِقْ حتى نُدبِّرَ فقهنا | وننقذَ من أعمارنا ما أضعناه |
وما العيبُ في فقهٍ يُخاطِب عصره | ولكنه فيما إلى اليوم نَقْراه |
وفي الشعر والآداب لم يكُ حالنا | بأحسنَ مما من تُراث هجرناه |
ففي الشعر من بَرح الأسى مُتَرَوَّحٌ | وفيه حديث النفس عما تمناه |
وفيه سِجلٌّ للحياة ونَبضِها | كما هي والإنسان يسعى بدنياه |
وفيه خلالٌ سَنَّها الشعرُ علَّمَتْ | بُنَاةَ العُلا كيف البلوغُ لعَلْيَاه |
غدوْنا إلى دار الخليل بن أحمد | والَاخفشِ نستوحي القَريضَ وذِكراه |
ونَسألُ عن "أضْحى التنائي" و"هل درى" | وشِعرِ ابن وَنّانٍ وشاعرِ حمراه |
ومن منتقى "العقد الفريد" سُموطَه | ومن "نفح طيب" الْمَقَّريّ خُزاماه |
ومن بعدِ إحضار القصائد لم نَجدْ | زمانا وإنسانا يَعي ما جمعناه |
كأنْ قد نزلنا من كواكبَ لم يكن | لها أدبٌ يرْوَى، ولا الشِّعر تُحْداه |
بنو عامرٍ عن "دارِمَيَّةَ" قد جَلَوْا | وخيَّم في "الجولان" رهْطُ نتانياهو |
وقد هلكت غَسَّانْ والشامُ دُمِّرَتْ | وسيقَ عُكَاظٌ للمَزادِ فبِعناه |
وأُلغِي ميزان العَروض وصودرَت | بحورُ تفاعيلِ الخليلِ وشطراه |
وكم وقف العقاد في وجه شاعر | تَصَرَّف في علم الخليل بطَغْواه |
ورام جديدا يَنتحيه بشعره | على نَهْج ما في الغرب مسَّته عدواه |
فلا ذاك أبقينا ولا ما نَخالُه | بَديلاً فكلٌّ أدركته مناياه |
قفا نبك من ذكرى حبيب[1] كما بكى امـ | ـرؤ القيس مُلْكا لم تساعِفْه دنياه |
وماتت عَذاراه بدَارَة جُلْجُلٍ | هُزالا ولم يعْقِر لهن مَطاياه |
ولم يغن عنه قيصرٌ حين أَمَّه | ولكنه في حُلَّة السُّمِّ أرداه |
فلا ملكُهُ ولًّى عليه بنجدةٍ | حباه بها فضلا ولا العُمر أبقاه |
كذلك كان الشعر فينا مُمَلَّكا | زمانا وفي أقطارنا اليومَ مَنعاه |
وفي النحو والإعراب حدِّثْ بحالنا | حديثا طويلا ليس يبلغ أقصاه |
كأن ابن آجرومَ ما حط رَحْلَهُ | لدينا ولا كنا زمانا رعاياه |
وكم سيبويهٍ قد قتلنا بِغَمِّهِ | أبَى "النَّصْبَ" والأعرابُ بالباب تَلْحاه[2] |
وفَرَّخَ زُنبورُ الكسائيِّ عَالَماً | حكى النحلَ في نَسْجٍ له وخلاياه |
ظنَنَّاه مثلَ النحلِ بالشَّهد مُتْحفاً | إذا هُو هِي في لَسْعِهِ وزُباناه |
فيا ليتَ شعري كيف نَبعثُ فقهَنا | وهذا تراثُ الضاد حيًّا دفنَّاه |
وكدنا من التاريخ نُنْسَخُ جُملةً | وعن لغة القرآن مما انتقيناه |
وكم قد تلونا قولَه: (فيه ذِكْرُكُمْ) | ولكننا سرعان ما قد نسيناه |
دَهَتْنا بُنَيَّاتُ الطريق فلم نَصِلْ | إلى غاية أو مطمح قد رَسمناه |
وصرنا ذيولا بعد عزٍّ وصَوْلَةٍ | ففاجأنا عهدٌ جديد دخلناه |
نظرنا حوالينا مَلِيًّا فلم نجد | سوى عودةٍ للأمر تأسو بَقَاياه |
تعالوا بنا نسلك سبيلا ومنهجا | يعالج فينا الداء من حيث مَنشاه |
تعالوا إلى القرآن ندرسْ بيانه | ونَبْسُطَ من إعجازه ما طويناه |
تعالوا إلى الآداب ننشر فنونها | ونبعثَ من أسفارها ما هجرناه |
لعل مَعاداً للمسار مُصَحِّحا | بإنجازنا تبدو على الأُفق بُشراه |
فما زالت الأحوالُ يُرجى صلاحُها | ومازال هذا الزَّرع تزكو خُضاراه |
وأُمَّتُنا كالغيث عمَّ نوالُه | تُنافِس أخراه على الخير أُولاه |
لرابطةِ العلياءِ ألفُ تحية | وألفُ سلام تَملأُ الأُفْقَ رَيَّاه |
ونُهدي أميرَ المؤمنين ولاءَنا | وندعو بموفور الهَناء لعَلياه |
وللحسَنِ الغُصنِ النضير سليلِه | وشافِعِه المولى الرشيدِ مُثَنَّاه |
ولا بَرِحت أيامُه وسُعودُه | تجود كما طابت وجادت سجاياه |
وصلى إلهي ثم سلمَ سَرْمَدا | على أحمدَ المختارِ خيرِ براياه |
وآله والأصحابِ والتابعين ما | تنامَتْ أياديه وعَمَّتْ عَطاياه |
ومِسكُ الختامِ الحمدُ لله وحده | وحيَّاكُمْ مِنْ عِندهِ ربُّنا اللَّهُ |
شارك بها الأستاذ الدكتور عبد الهادي حميتو في الندوة العلمية الدولية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء
حول موضوع:
"التأويل.. سؤال المرجعية ومقتضيات السياق"
بتاريخ الأربعاء والخميس 26–27 يونيو 2013م.
بفندق فرح، الرباط-المملكة المغربية
الهوامش
[1] المراد به الشاعر العباسي أبو تمام حبيب بن أوس الطائي.
[2] النصب: المكر والاحتيال وحركة الإعراب، وتلحاه: تلومه. والإشارة إلى المسألة الزنبورية بين سيبويه والكسائي رحمهما الله.