وحدة الإحياءشذور

طرائق التفسير ومزالق التأويل

تأوَّلتَ قرآنا على غير معناهوقوَّلْتَه ما لم يقُل ربُّنا الله
وفسرتَ آياتٍ على غير وجهِهاوحمَّلْتَها بالرأي ما الشرعُ يأباه
فيا ليتَك استمسكتَ فيها بمنهجمن الأخذ بالمأثور لا تتعدَّاه
فقِدْماً  كُفيتَ الهمَّ فيه بمن مضىبما دونوا في الكتب لا تتحاشاه
هُدُوا منه للتأويل حقا وأُلهِموامعانيَه واستنبطوا سرَّ نَجواه
ولم يُمعِنوا في الغَوص فيما طريقُهروايتُه عمن بِنقلٍ تَقصَّاه
وكانوا هم الأعلَيْنَ في العلم والنُّهىوفي القول بالمأثور رَعْياً لجَدواه
وفيهم إمامُ العلم والفضل والحِجاهو الطبَريُّ الحَبر حلَّاه مولاه
ومن لَفَّ ذاك اللَّفَّ ممن تصدَّرُواوقاموا بتفسيرٍ وفقهٍ لِمَقراه
وقد نَهَجوا للناس في ذاك مَهْيَعاًلتأويله ما ضلَّ من يتوخَّاه
به عِصمةٌ للمهتدين بهديهعن الزيغ عن إِحكامِه لِمُعَمَّاه
كما رَتَّبوا للوِرد منه مَناهلاإذا أَمَّها الظمآنُ فاضت رواياه
فمن يبْتغ التفسيرَ يَقْفُ سبيلَهمعلى مَسلك فيه بلوغُ مُغَيَّاه
وبعد فللتفسير في رُتَب العلامعالمُ لم يُخْلِلْ بها مَن تَعَنَّاه
فأجوَدُه ما جاء فيه تلاوةمن الآي مَعنيّاً به عين معناه
وما جاء في التفسير عن سيد الوَرىبنصّ، وصح النقلُ عمن تَلَقَّاه
فما كان عن أصحابه سُرُجِ الهدىفهم شَهِدوا تنزيله إذ يُلقَّاه
وهم عرفوا أسبابَه حين خوطبوابه، ودَرَوا أحوالَه وحكاياه
وفيما رآه التابعون مواردٌغزارٌ لمن رام الهدى وتحرّاه
لقد صَحِبوا الصحبَ الكرام وأدركوامن السمع منهم ما استفاض بسُقياه
وأتباع جيل التابعين تتابعواعلى إثرهم مستمسكين بوُثقاه
ففي الفقه في أحكامه قد تفننوابما استنبَطوا من لفظه وثناياه
وقد نَفَضوا نفضاً جليَّ بيانهوغاصوا على السر الخفيّ ومجراه
وبالمقتضى قد فسروا وتأولوامدارك من فقه الخطاب وفَحواه
فباحت بمكنون اللآلئ آيُهوفاحت بما دَلّت عليه خَباياه
فتوجِزُه طوراً كقصة يونسٍبنونٍ وفي اليقطينِ بَسْطٌ لبَلْواه
تَبَيَّنَ فيها صاحبُ الحوت مَن عُنِيبه وأمورٌ أُجمِلَت عند أُولاه
وذو الكِفْلِ لم يُذكَر لنا كُنْهُ أمرِهفلا أحدٌ يَدريه والذِّكْرُ أَخفاه
(وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ) كافٍ بحقِّهولو تحته عِلْمٌ لزاد فسمَّاه
وما يك عن مثلِ ابنِ عباسِ نقْلُهإذا صَحَّ عنه فاعتمِدْ منه أَصفاه
ولا يَسلُمُ النَّبعُ الصفيُّ من القَذَىوإن عَذُبَتْ منه لدى الورد أمواه
فقد طلعت تلك العهودُ بمعشرأعاجِمَ عن روحِ البيان ومنحاه
خُذِ الحِذْرَ واستعصِم بمنهاجِ مَن مَضىعلى السَّنن المرسومِ مما وصفناه
ففي عصرهم قد خالفَ النهْجَ مَعشرٌبغير الذي قد أخبر النصُّ قد فاهوا
وخاضوا بمَحضِ الرأي فيه بمَهْمَهٍبلا غاية، والرَّكْبُ يَطلبُ أَقصاه
ويضرِب في طول الكلام وعَرْضهيُحَكِّمُ بالتأويل ما بات يَرْآه
هنا زَلَّتِ الأقدامُ عن سَنَن الهُدىفكَم قائلٍ في الدين ما راح يَهواه
إذا قيل هذا الوحيُ قد قال أَجفَلُواوخاموا عن التنزيل جَحداً لفَحْواه
وقالوا كلامٌ شأنه شأن كلِّ مايُشاكِله من جنسه قد عَرَفناه
وفيه مجالات قضى العقلُ والحِجابها غيرَ ما يُروى وللفكر مَرْآه
فلا بد من تأويل ما خالف الحِجاوبانت بتوجيه الكلام نواياه
هنالك طَفَّ الكيل واعتاصت الرؤىوأُبرِمَ حكمُ الرأي، والعصرُ حاباه
فعمَّتْ به البلوى بتأويل عُصبةٍلكل امرئ منهم على الدين دَعواه
أجال بها النَّظَّامُ جُندَ نِظامهوبثَّ بها العَلَّاف جيشَ سَراياه
وفي كل جيل بعد ذاك بقيةٌتَحِنُّ إلى هذا الصنيع وترضاه
أثاروا خصوماتٍ وخاضوا مَعامعاًفردُّوا كلام الله نفيا لرؤياه
وقالوا: استواءُ العرش محضُ كنايةٍعن الْمُلك، لا عرشٌ على الماء سَوَّاه
وردوا صفاتٍ للإلهِ أتى بهامفصَّلةً تنزيلُه، وهْيَ أَسماه
وقد أنكَروا سَبْقَ القضاء بما جرَىويَجري على المخلوق من قبلِ مَحياه
وفي الوعد قالوا والوعيد وخَلْقهملأفعالهم، كلٌّ أقامَ قضاياه
نقيضاً لما في محكم الآي وانتحَىمَناحيَ في التأويل تُعلِي دَعاواه
فيا ليت قوما يعرفون حدودَهمفيوقَفَ شأنُ العقل عند قُصاراه
ويُعلَمَ أن العقلَ فيه سِماتُنامن النقص في المخلوق في كلِّ مَسْعَاه
وليس بنِدِّ الشرع أو بَدلاً لهفأقصى مَقامِ العقل أن يَتَقَفَّاه
وهم قلبوا الميزان جهلا وأجلَبواعلى النص بالتأويل يَلْوون مَعناه
وقد كَرَّم الله العقولَ وصانَهابتشريعه عما دَهَتْهُم بلاياه
وفيهم أتى التحذير ثالثَ سورةمن الذكر ممن في التشابُهِ قد تاهوا
يريدون تأويلَ الكتاب على الهَوىفقالوا به ما غَيرَه أنزلَ الله
وما يَعلم التأويلَ فيه سوى الذيبه اختَصَّ في عَليائه، وهْوَ أوحاه
فليس يزيدُ الراسخون بعِلمهبقولٍ سوى إيمانِهم بمُؤَدَّاه
فمن عَزَّهُ ما أدركوه أصابهإذا ما تَلاه واستعانَ بمولاه
وسار على الهَدْي الذي استمسَكوا بهفدَرَّ له من فَهمِه فَيْضُ نُعمَاه
ففي كُتُب التفسير بُثَّت علومُهُموأُسندَ عن أهل اللسان مُروَّاه
وفي النحو في كتْب الأَعاريب صفوةٌبها يصل الراقي إلى أَوْجِ مرقاه
وفيه غريب اللفظ يُدْرَى قَبيلُهوتُدركُ من كُتْب اللغاتِ جَلَاياه
ومنه لَدى أهلِ المعاني مَعارضٌمُحَبَّرَةٌ يقتصُّها مَن تَصَبَّاه
ومنه مَجَازٌ في الفصاحة ضاربٌبسهم، وفي علم البلاغة مَغْنَاه
ولَحْظُ سياق النص يُفْضي بسرّهففيه على المعنى دليلٌ وإنباه
وبالعلم بالأسباب يُجلَى خَفيُّهويُعرَف من كُتْب الروايةِ مَنحاه
وفي كُتُب الأَحكام يُعنى بفقههوفاقا وتوجيها لِما اللفظُ أبداه
بها عُنيَ الأعلام في كل مذهبعلى وَفْقِ ما شَدُّوا وشادوا حَكاياه
وما قيل في إِحكامه أو بنسخهفذاك صَنيعٌ في الأصول صَفاياه
وما قيل فيه: مُجملٌ أو مقيَّدوما قيل مخصوص بنصٍّ تلافاه
وما جاء عن خير الأنامِ بيانُهبقولٍ وفعلٍ أو بوصفٍ تَحلَّاه
وجاءَ جوابا عن سُؤالٍ، وربَّماأتى خبرا عن بعض ما قصه الله
فذاك هو التأويلُ أو ذاك بابهوما يَكُ من فقه فتلك مطاياه
فلا تَعْدَوَنْ عنه إلي غير مذهبفتَغْرَقَ في بحر تَطُمُّ بلاياه
ولكنْ سؤالٌ ههنا عَزَّ أهلَهجوابٌ، وكم من مرةٍ قد سمعناه
لماذا وَفَى الشرعُ الحكيمُ بمن مضىوفي عصرنا هذا الوفاءُ افتقدناه؟
مشاكلُنا فيه عَوَالِقُ لم تجدحلولا، وكم من مُعْضِلٍ قد بلوناه
أمِنْ ضِيقِ نصٍّ عن وقائعَ لم تَزَلْتَجِدُّ، أم الفهمُ الأصيلُ منِعْنَاه
وعصْمة شرْعِ الله تنفي قُصورَهوإيمانُنا جَزْمٌ بها قد عَقَدْناه
ومن أين يأتيه القُصورُ ووحْيُهمن الله تنزيل عزيز وَعَيْنَاه
وما حادثٌ في الكوْن إلا وحُكمُهتَقرَّرَ في تَنزيله وحَفِظناه
فما فيه تَفريطٌ لشيءٍ وما بهقصورٌ وضيقٌ عن جديد تَحدَّاه
لقد "أُحْكِمَتْ آياتُه ثم فُصِّلَتْ"حكيمٌ خبيرٌ قصها إنه الله
وفي شأنه في سورة النحل قد أتىدليل على تِبيانِه، قد تَلَوْناه
فَقد جاءنَا بالفَصل في كلِّ طارئٍوما فاتَه شيءٌ من الحكمِ أَعْراه
ومِن قَبْلِنا أبدى الأئمةُ حِذقَهمبما استنبَطوا من عِلمه وثَناياه
وما وَقَفوا في حادثٍ ثم أحْجَمُواوقالوا: جديدٌ ما لنا فيه أَشْباه
فقاسوا على المنصوص ما فيه وَصْفُهوما أشبَهَ المنصوصَ حُكْماً وحاكاه
وهُمْ أَصَّلُوا فقهَ الْمَقاصد، واعتَنَوْابفقهِ مآلاتِ الفِعالِ ومَنحاه
وقد وَجدوا فيه الدَّلالاتِ حُفَّلاًقَوابلَ للإجراء كلٌّ بِمُجراه
فما نزَّلوه نزَّلوه بحقهمَقيسا على أصل الدليل ومَبْناه
وما أخرجوه أخرجوه لعلةٍووصفٍ به قد شذَّ عن حُكْمِ قرباه
وكانوا من التقوى بحالِ حَصانةٍوما عَصَمَ العبدَ الْمُنيب كتَقْواه
فما صادموا نصّاً، ولا وضعوا لهقياسا يصُدُّ الناسَ عن فهم مَجْلاه
فمَن ظَنَّ تأويل النصوصِ بحملهاعلى غير ما نَصَّت فقد خاب مَسْعَاه
ولكنَّ إدراكَ الدَّلالاتِ بالحِجابديعٌ إذا وجهُ البيان تقاضاه
ودل عليه اللفظُ في أصل وضعِهلدى أهله عُرفاً، وصح مُؤدَّاه
وللأمر مِعيارٌ فلا تك مُخْسِراًفتعْدُوَ باللفظ المؤوَّل فُصحاه
وتُلْبِسَه ما ليس من زِيِّ أهلهفبيس الدَّعِيُّ الوَغْدُ مَن تتبَّناه
ولا تَجْفُ عن روح البيان فإنههو السِّمَةُ الحُسْنى، وماءُ مُحَيَّاه
به عُرِفَ الإعجازُ واتضح الهدَىودَوَّتْ به آياتُه ووصاياه
وفي الوحي ألفاظٌ أتت في سياقهافلا تَنْحُ فيها للذي السَّرْدُ يأباه
وكُلُّ كلامِ الناس حاجَتُه إلىسياقٍ يُراعَى كي تضيء مراياه
فكيف كلامُ الله ثم كلامُ منله الله بالتبليغ للوحي أصفاه
وقال الإمام الشاطبيُّ مقالةبها احتجَّ في فهم الدليل ومغزاه
لو اعْتُبِرَ اللفظُ المجردُ وحدَهبكل كلام لم تَبِنْ قَطُّ فحواه
ولكنْ سياقُ اللفظ يحكي حديثهويكشف عن معنى الكلام ومَسْراه
وما شَذَّ عن جاري السياق تطَوَّحَتْبه سُبُلُ الدعوى وزادت لُغَيْزَاه
وقد بُلِيَ التفسر منه بمَنهجغريب، وبعضٌ تيَّمَتْه سباياه
ك "أنتم سكارى" أَوَّلُوا السُّكرَ شَهوةًوقالوا: مرادُ اللفظ سُكْرٌ بدنياه
و"تغتسلوا" قد أولوا الغُسْلَ توبةًوقالوا: لكي يغشى طَهورا مُصَلَّاه
و "من ذا الذي يشفَعْ" يزيلون عينَهيقولون: داءُ النفس بالذُّلِّ مَشْفاه
و "نعليك فاخلع" قيل: يخلع كلَّ ماسواه من الأكوان، لا يُبْقِ إلَّاه
وهذا من التأويل عُسْفٌ تتابعواعلى مثله نَهْجاً وهاموا بسُعْداه
وما هكذا فَهْمُ الذين عليهمُتنزَّلَ في لفظ الكتاب ومعناه
وهم زعموا للَّفظِ ظهرا وباطناوقالوا: المرادُ البطنُ لا ما تردَّاه
فساروا مع التأويل حتى تقَحَّموامَجاهلَ من نسْج الخيال وعُدْواه
وتلك معانٍ لا السياقُ يفيدُهاولا مثلَهُن العُرْبُ كانت تَقَرَّاه
وقِسْ مثلها، إذ لا اعتبارَ بشَرْعنابغير الذي في عُرفهم قد عهدناه
وما يُدَّعَى في لفظه من إشارةٍفدَعْوَى، وما كُلٌّ تُسَلَّمُ دَعواه
وقومٌ أبَوْا تركَ الظواهر فاعتدَوْاعلى الشرع في أمر دَهَتْنَا فتاواه
فأفتوا بتحليل الربا وتلوْا بما الخطاب به في آل عمران مثواه
ب "لا تاكلوا الربا" استُهِلَّ وقد نهىعن الأكل أضعافا تُضاعِف بلواه
وقد زعموا أن المحرَّم منه ماتضاعَفَ أضعافا، كما اللفظ أداه
ليُعْطوا لِمدلول الخطابِ خصوصَهلِما خصَّ بالنهي الذي النصُّ أملاه
ويخرجَ بالمفهوم ما ليس وصفُهعلى الضِّعف أضعافا، فلا نَصَّ ينهاه
وهم مَوَّهوا مكرا، وقالوا: دليلُناصريحُ مقولِ اللفظ لا نَتَخَطَّاه
وألغوْا من المأثور كل مقالةٍعن السلف الماضين مما رويناه
فلا هُمْ بتدريج النزول قد احتَفَوْاولا عرفوا أسبابَه حين أوحاه
ولا أدرَكوا من لفظه أن وصفَهبتضعيفه فِقْهُ القواعد أَلْغَاه
رَعى أنه في غالب الأمر شَأْنُهكذاك فَسِيقَ الوصفُ رَعْياً لأعلاه
نهى عن كثيرٍ شاع فيهم مُضاعَفاًفجاء على ما عَمَّت القومَ عُدْواه
وما حَظَرَ الشرعُ الحنيفُ بنصهتَساوَى كثيرُ القدر منه وأدناه
وما جاء فيه العَفوُ فهو ضرورةٌفأنَّى لباغي الشِّبْهِ تحقيقُ دعواه؟
فيا قاضيا بالرأي في شرع ربِّهتبدَّلْتَ من رأس الدليل ذُناباه
تأَوُّلُكَ اللفظَ الصريحَ جنايةٌعلى النص لا تخفَى ونَقْضٌ لِمَبْناه
فما قد أتى نصّاً وبانَ دَلالةًبظاهره في لفظه ومُهَجَّاه
وجاءت نصوصُ الوحي شاهدةً لهمسلَّمةً من أهله حين مَأتاه
على اللغة الفصحى التي خوطبوا بهافليس لِذِي رأيٍ به ما تَمنَّاه
هي الشاهد الأزكى على السَّنَن الذيعليه جَرَى الحكم الذي شرع الله
بها أُنزِلَ التنزيلُ من عند ربناعلى عبدِه في قومِه إذ تلقاه
وقامتْ عليهِمْ حُجَّةٌ ببيانِهوقامت علينا، كُلُّنا فيه أَشباه
فما في لسانِ القوم يومَ نزولهبمدلوله اللفظيِّ باقٍ على ما هو
وقد نَوَّهَ الذكر الحكيم بكونهلسانَ رسولٍ في العروبة منماه
فَدلَّ على أن المرادَ اشتمالُهعلى الوحي مَدلولا عليه بلُغْواه
وتأويلُه تنزيلُه في كثيرِهومن لَفظه المقروء يَبْدُرُ مَرماه
لذلك يحتجُّون فيه بما رووامن الأدب المأثور والشعرُ أسماه
معانٍ على جاري الخطاب الذي بهعُنُوا، وبه الإعجازُ لاحت مزاياه
وفيه قراءاتٌ يؤولُ كثيرُهالمعنىً، فخُلْفٌ في اسمِها لا مُسمّاه
وفي بعضها تأويلُ بعضٍ، وربماتعدَّدَ تأويلٌ لما في طواياه
وما هيَ إلا في الأداء تنوُّعٌوبابٌ من الإعجاز عَمَّتْ حُدَيَّاه
أقول وفي نفسي على الحال حُرْقَةٌوماذا عسى المحزونُ تُجديه شَكواه
وقد حَزَّ في نفسي تقهقرُ أمتيوعَهْدُ سُباتٍ أنهكتْها رزاياه
وطال عليها الصَّمْتُ والدهر حولَهايموج كأن لم تَبْقَ للناس أفواه
وللعلماء السَّبقُ كان ولم يَعُدْوكلٌّ توَلَّى في الهَوى ما تولاه
لمن تُقرَع الأجراسُ أهو لراقدفنوقظَه أم قادمٍ نترجَّاه؟؟
ومن يضبطُ الإيقاعَ والجوقُ صاخبٌوقد زَفَنَتْ في كل جوقٍ رعاياه
وقالوا لنا رأيٌ نراه ومذهبٌومن حقٍّ كُلٍّ يَحتذي ما تراءاه
فإن يكُ ذا رأيٍ صوابٍ فأجرهعلى الضَّعف أو يخطِئْ فعفوٌ خطاياه
وكلٌّ له حقُّ اجتهاد بدينهوكلٌّ له في النص فهمٌ برؤياه
ولا أحدٌ حاز الحقيقة كلَّهاعلى زَعمهم، فالفكر حُرٌّ بمبداه
كذلك قالوا واطمأنَّ لفيفُهمبما لَفَّقُوا من مَنطق قد بلوناه
وفتحُ مَجالِ الاجتهاد فضيلةٌولكنْ تَخَلَّفْنا فصِرْنا ضحاياه
وقَفْنا وسار الآخرون وشيَّدوامواقع َواحتَلُّوا مجالا تركناه
وجاؤوا بفِكرٍ صِيغَ في ظِل مَنطقٍتَجاذبَه الوضع الذي كان يحياه
فما زال حتى اجتاحَ ما في طريقهولُذْنا بصَمتٍ لم نُطقْ وقْف مجراه
وثارتْ بنا شتَّى المعاضِل فانبرَوْالها وعجَزْنا، والزمامُ فقدناه
وقلنا: قُصورُ النص والجهلُ ضارببأَطنابه، والنص وافٍ على ما هو
ولكنما الإشكالُ فينا، وعمْرُهمديدٌ ولم نفتأ نضَمِّدْ جرحاه
وكم قد عدَدْنا في الأصول أصولَناولا واحدٌ منها أخيرا فَرَضناه
وكنا التزمنا دهرَنا فقهَ مالكوسُحنونَ قد هِمْنَا به وحفظناه
وخُضْنا خلافا ضَافيا لابن قاسمٍوأشهبَ، كلٌّ عن إمامٍ تبِعناه
فما مَرةً صرنا إلى نقل أشهَبٍولا قوله، إذ فقهُنا قد تَحاماه
وظل ابنُ رشدِ (الجدُّ) صاحبَ أمرنانقول بما في شرحه وفتاواه
ونُعرِض عن فقهِ الحفيدِ ونهجِهوما نصَّ في فقه الخلافِ ومبناه
وبات ابن عبد البر خارجَ فقهِناوما ارتاد من فِقهِ الدليل وأَحياه
وما ساق في استذكارِه من مذاهبِوما نقل الباجي وصحَّحَ مأتاه
ومن عَجَبٍ تأييدُ ما لابنِ قاسمٍوتأويل ما عن مالكٍ في موَطَّاه
فنَترُكُ أصلا ثم نقضي بفرعهلأن فلانا عن فلان تلقاه
وجاء خليل بالتآويل فاعتلىقرونا وصار الفقهُ فكَّ مُعَمَّاه
وأُبْنَا إلى مَيارةٍ وابنِ عاشرٍقُنوعاً بما من فِقهنا قد طويناه
وجَدَّتْ ومازالت تجِدُّ مسائلٌولَمَّا يَجُزْ إعرابُنا "شابَ قَرْنَاهُ"
وباتَتْ زمانا دارُ لقمانِ فِقْهِناعلى حالها، والدهر يُمْلي قضاياه
عَكَفْنا على شرح المتون حياتَناوشرحِ حواشي الشرح حتى سئمناه
وَعُدنا لنظم لخَّص الشرحَ نستقيمضامينه شرحاً ونثرا لمبناه
ولسنا على حكمٍ نجيء بآيةدليلا، ولا من سُنةٍ نتعاطاه
ويتلَى كتاب الله فينا تعبُّداولكننا من فقهِنا قد نبذناه
وظلَّ دليل الشرع عنا بِمَعزِلٍفلا الشرعَ أعمَلْنا، ولا ما شرحناه
تَواَرى جمالُ النص خلْفَ حواجزٍسِماكٍ، وصار الفقهُ صفراً ليمناه
شروحٌ وأقوال وسردُ مذاهبٍوخُلفُ ابنِ رشدٍ وابنِ لبٍّ  بفُتواه
شُغِلْنا بِمسحِ الخُف نُحصي شروطَهوهل جَوْرَبٌ في حكمه حين نُكساه
فقال فريق شرطُه الجلدُ وحدهوقال فريقٌ كلُّ ما العضو غطّاه
وظل فريقٌ ممسكاً متوقفاًيُراوح في طرد القياس ومنفاه
وقد نَسيَ الناسُ الخِفافَ ولُبسَهاولَمَّا نَزَلْ في الخلف لا نتعداه
وطارَ "حُنَيْنٌ" بالْمَطِيَّة لم نجدلها أثرا بعد الذي قد درسناه
ومن زمنٍ فقهَ النواقضِ لم نَجُزْوتقسيمَها، والخلفَ فيها ومنشاه
وفي القَبْضِ والإرسالِ ما زال خلفناكما هو عن ثاني القرون ورِثناه
وتسليمُنا في الفرض ثِنْتَيْنِ فِعلُهنذيرٌ بِشَرٍّ ليس تُحْمَدُ عقباه
ومنذ عهود أُلغيَ الرِّقُّ وانتهىولَمَّا نَزَلْ في فقهنا نتلقّاه
ونبحث في شرط الإمامةِ حكمَهوفي كل أبواب العقود بحثناه
وقد شغلتْ أحكامُه ربعَ فقهناففي كل بابٍ ذكره وقضاياه
ونهدِرُ فيه الوقتَ بين مُكاتَبوقِنٍّ ومَن تدبيره موتُ مولاه
ولما نُفِقْ حتى نُدبِّرَ فقهناوننقذَ من أعمارنا ما أضعناه
وما العيبُ في فقهٍ يُخاطِب عصرهولكنه فيما إلى اليوم نَقْراه
وفي الشعر والآداب لم يكُ حالنابأحسنَ مما من تُراث هجرناه
ففي الشعر من بَرح الأسى مُتَرَوَّحٌوفيه حديث النفس عما تمناه
وفيه سِجلٌّ للحياة ونَبضِهاكما هي والإنسان يسعى بدنياه
وفيه خلالٌ سَنَّها الشعرُ علَّمَتْبُنَاةَ العُلا كيف البلوغُ لعَلْيَاه
غدوْنا إلى دار الخليل بن أحمدوالَاخفشِ نستوحي القَريضَ وذِكراه
ونَسألُ عن "أضْحى التنائي" و"هل درى"وشِعرِ ابن وَنّانٍ وشاعرِ حمراه
ومن منتقى "العقد الفريد" سُموطَهومن "نفح طيب" الْمَقَّريّ خُزاماه
ومن بعدِ إحضار القصائد لم نَجدْزمانا وإنسانا يَعي ما جمعناه
كأنْ قد نزلنا من كواكبَ لم يكنلها أدبٌ يرْوَى، ولا الشِّعر تُحْداه
بنو عامرٍ عن "دارِمَيَّةَ" قد جَلَوْاوخيَّم في "الجولان" رهْطُ نتانياهو
وقد هلكت غَسَّانْ والشامُ دُمِّرَتْوسيقَ عُكَاظٌ للمَزادِ فبِعناه
وأُلغِي ميزان العَروض وصودرَتبحورُ تفاعيلِ الخليلِ وشطراه
وكم وقف العقاد في وجه شاعرتَصَرَّف في علم الخليل بطَغْواه
ورام جديدا يَنتحيه بشعرهعلى نَهْج ما في الغرب مسَّته عدواه
فلا ذاك أبقينا ولا ما نَخالُهبَديلاً فكلٌّ أدركته مناياه
قفا نبك من ذكرى حبيب[1] كما بكى امــرؤ القيس مُلْكا لم تساعِفْه دنياه
وماتت عَذاراه بدَارَة جُلْجُلٍهُزالا ولم يعْقِر لهن مَطاياه
ولم يغن عنه قيصرٌ حين أَمَّهولكنه في حُلَّة السُّمِّ أرداه
فلا ملكُهُ ولًّى عليه بنجدةٍحباه بها فضلا ولا العُمر أبقاه
كذلك كان الشعر فينا مُمَلَّكازمانا وفي أقطارنا اليومَ مَنعاه
وفي النحو والإعراب حدِّثْ بحالناحديثا طويلا ليس يبلغ أقصاه
كأن ابن آجرومَ ما حط رَحْلَهُلدينا ولا كنا زمانا رعاياه
وكم سيبويهٍ قد قتلنا بِغَمِّهِأبَى "النَّصْبَ" والأعرابُ بالباب تَلْحاه[2]
وفَرَّخَ زُنبورُ الكسائيِّ عَالَماًحكى النحلَ في نَسْجٍ له وخلاياه
ظنَنَّاه مثلَ النحلِ بالشَّهد مُتْحفاًإذا هُو هِي في لَسْعِهِ وزُباناه
فيا ليتَ شعري كيف نَبعثُ فقهَناوهذا تراثُ الضاد حيًّا دفنَّاه
وكدنا من التاريخ نُنْسَخُ جُملةًوعن لغة القرآن مما انتقيناه
وكم قد تلونا قولَه: (فيه ذِكْرُكُمْ)ولكننا سرعان ما قد نسيناه
دَهَتْنا بُنَيَّاتُ الطريق فلم نَصِلْإلى غاية أو مطمح قد رَسمناه
وصرنا ذيولا بعد عزٍّ وصَوْلَةٍففاجأنا عهدٌ جديد دخلناه
نظرنا حوالينا مَلِيًّا فلم نجدسوى عودةٍ للأمر تأسو بَقَاياه
تعالوا بنا نسلك سبيلا ومنهجايعالج فينا الداء من حيث مَنشاه
تعالوا إلى القرآن ندرسْ بيانهونَبْسُطَ من إعجازه ما طويناه
تعالوا إلى الآداب ننشر فنونهاونبعثَ من أسفارها ما هجرناه
لعل مَعاداً للمسار مُصَحِّحابإنجازنا تبدو على الأُفق بُشراه
فما زالت الأحوالُ يُرجى صلاحُهاومازال هذا الزَّرع تزكو خُضاراه
وأُمَّتُنا كالغيث عمَّ نوالُهتُنافِس أخراه على الخير أُولاه
لرابطةِ العلياءِ ألفُ تحيةوألفُ سلام تَملأُ الأُفْقَ رَيَّاه
ونُهدي أميرَ المؤمنين ولاءَناوندعو بموفور الهَناء لعَلياه
وللحسَنِ الغُصنِ النضير سليلِهوشافِعِه المولى الرشيدِ مُثَنَّاه
ولا بَرِحت أيامُه وسُعودُهتجود كما طابت وجادت سجاياه
وصلى إلهي ثم سلمَ سَرْمَداعلى أحمدَ المختارِ خيرِ براياه
وآله والأصحابِ والتابعين ماتنامَتْ أياديه وعَمَّتْ عَطاياه
ومِسكُ الختامِ الحمدُ لله وحدهوحيَّاكُمْ مِنْ عِندهِ ربُّنا اللَّهُ

شارك بها الأستاذ الدكتور عبد الهادي حميتو في الندوة العلمية الدولية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء

حول موضوع:

"التأويل.. سؤال المرجعية ومقتضيات السياق"

بتاريخ الأربعاء والخميس 26–27 يونيو 2013م.

بفندق فرح، الرباط-المملكة المغربية

الهوامش

[1]   المراد به الشاعر العباسي أبو تمام حبيب بن أوس الطائي.

[2] النصب: المكر والاحتيال وحركة الإعراب، وتلحاه: تلومه. والإشارة إلى المسألة الزنبورية بين سيبويه والكسائي رحمهما الله.

Science
الوسوم

الدكتور عبد الهادي حميتو

• عضو المكتب التنفيذي للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق