وحدة الإحياءدراسات عامة

ضوابط المنهج المقاصدي

إن المنهج المقاصدي مصطلح معاصر يقصد به: “العمل بمقاصد الشريعة، والالتفات إليها، والاعتداد بها في عملية الاجتهاد الفقهي” والحديث عن المقاصد ومدارستها ليس بدعة جديدة معاصرة تستدعي التشنيع أو الإنكار كما يزعم البعض، فالعمل بالمقاصد منهج شرعي قديم وقع تطبيقه في العصر النبوي وعصور الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، كما كانت مقاصد الأحكام حاضرة ومؤثرة في الفهم والاستنباط والتطبيق لدى عموم المجتهدين وأغلب الفقهاء والأصوليين، مما جعل الحديث عن مقصود الشرع، ومقصود الحكم، وحكمة الشريعة ومقاصد الشريعة، حديثا مألوفا ومتداولا بل ومعتمدا عند عامة علماء الشريعة،‏ ذلكم أن اعتبار المقاصد في الاجتهاد وسيلة لإنضاجه وتقويمه، وأداة لتوسيعه وتمكينه من استيعاب نوازل الحياة بكل تقلباتها وتشعباتها، ومن فاته النظر في مقاصد الشريعة، وقع في التخبط والاضطراب وأتى بالأقوال الشاذة المجافية لمقاصد الشرع، قال الشاطبي: “حتى لتجد أحدهم آخذاً ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها ولا راجع رجوع الافتقار إليها ولا مسلم لما روي عنهم في فهمها ولا راجع إلى الله ورسوله في أمرها”.

والمنهج المقاصدي وإن كان منهجا في الاجتهاد، فإنه ليس على عمومه وإطلاقه، بل هو منضبط ومقيد بعموم الأدلة والقواعد والضوابط الشرعية، وبسائر الأبعاد العقدية والأخلاقية والعقلية المقررة، حتى لا يتنصل من الأحكام الشرعية باسم المقاصد، ذلك أن مفهوم المقاصد في الشريعة ليس مطاطا، ولا ذاتيا يخضع لتقلبات الأمزجة، أو يتبع الأنظار الفردية القاصرة، بل هو منضبط بضوابط محكمة، تجعل منه مفهوما واضح المعالم، متسقا على وتيرة واحدة لا تغيره ضغوط الواقع وضرورات المواقف، ولا نزوات النفس، وفورة العواطف.

وقد كان المبحث المقاصدي جزءاً من مباحث علم أصول الفقه، بل قسماً من أقسامه تحكمه قواعده، وهو إلى اليوم لا يزال كذلك على رغم دعوة الاستقلالية التي رفع لوائها الإمام ابن عاشور، بداية القرن العشرين وتبعه في ذلك غير واحد.

إن مقاصد الشريعة تعد الرابط الجامع لكل فروع التشريع الإسلامي، ولا تخرج عن الكليات الشرعية الثابتة العائدة إلى حفظ الضروريات الخمس: الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وهذه الكليات الرئيسة للتشريع حاكمة للفروع وليست محكومة بها، ويسير الاجتهاد الفقهي في نسقها ووفق مآلاتها وليس وفق مقاصد المكلفين وأهوائهم، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في وجوب موافقة قصد المكلف من عمله قصد الشارع سواءً كان متعلماً أو مجتهداً: “قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصده في التشريع والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة.. والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله ولا يخالف ما قصد الشارع”.

فالمقاصد إذن ليست كلمة تقال أو شعاراً يرفع وإنما هي مبدأ أصولي له ضوابطه ومعاييره التي تحكمه حتى لا تصبح ذريعة يُتوصل بها إلى تأريخية النص الشرعي وإلغائه وتمييعه، فتحديد مقاصد الشارع لا ينبني على ظنون وتخمينات غير مطردة، بل هي داخلة غير منفكة عن نطاق نصوص الشارع ذاته. بل إن النصوص جاءت لتحقيقها، فلا ينبغي أن تفهم أو تؤول بتأويل بعيد عن تلك المقاصد والأهداف العامة. إذ أن كل نص يحمل تحقيق مقصد إلهي ينبغي أن يعتبر ذلك المقصد ويجري على أساسه فهم النص.

وقد جعل العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله للمقصد المعتبر أربعة شروط لابد من توافرها وهي:

ـ الظهور؛ بمعنى أن يكون المقصد واضحاً لا تختلف أنظار المجتهدين في الاتجاه إليه وتشخيصه بعيداً عن كل التباس أو مشابهة، وذلك مثل اتفاقهم على تشريع القصاص لحفظ النفوس وتشريع الحد لحفظ العقول والأعراض.

ـ الثبوت؛ بمعنى أن تكون تلك المعاني مجزوماً بتحققها أو مظنوناً بوجودها ظناً قريباً من الجزم.

ـ الانضباط؛ أي أن يكون للمقصد الشرعي حدّ معتبر وقدر معين لا يتجاوزه، فلا يؤدي إلى وقوع الحرج المرفوع شرعاً أو نفور المكلف من التشريع أو التقصير في أداء التكاليف مما يؤدي إلى ضعف الوازع الديني في النفوس وفقدان الشريعة لهيبتها وسلطانها على الخلق.

ـ الاطراد؛ بمعنى أن لا يكون المعنى مختلفاً باختلاف أحوال الأفكار والقبائل والأعصار.

وما نص عليه الطاهر بن عاشور، من الشروط لاعتبار المقاصد ذكره الشاطبي، إضافة إلى أمور أخرى عامة لازمة أيضا، في الاعتبار، من أبرزها:

ـ الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف المتعبد دون الالتفات إلى المعاني، والأصل في أحكام العادات الالتفات إلى المعاني.

ـ المقصد الشرعي من وضع الشريعة هو: إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً.

ـ مشقة مخالفة الهوى ليست من المشاق المعتبرة ولا رخصة فيها ألبتة.

ـ العزيمة أصل والرخصة استثناء، ولهذا فالعزيمة مقصودة للشارع قصداً أصلياً، أما الرخصة فمقصودة قصداً تبعياً.

ـ لم يقصد الشارع إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه، ولا نزاع في أن الشارع كلف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما، ولكنه لا يقصد نفس المشقة، بل يقصد ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف.

ـ إذا كانت المشقة خارجة عن المعتاد بحيث يحصل للمكلف فساد ديني أو دنيوي فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة.

ـ من سلك إلى مصلحة غير طريقها المشروع فهو ساع في ضد تلك المصلحة.

ـ علل الأحكام تدل على قصد الشارع فيها فحيثما وجدت اتُّبعت.

ـ إذا سكت الشارع عن أمر مع وجود داعي الكلام فيه، دل سكوته على قصده إلى الوقوف عند حد ما شرع.

ـ الاحتكام إلى لغة النص وقوانين خطابه  وأصول المواضعة التي تعاهد عليها العرب، وقد أكد على هذا الضابط جميع من يعتد به في علوم الشرع من السلف والخلف.

ـ موافقة القرآن كله على تفسير بعضه فإن القرآن كله كالآية الواحدة فلا يحكم ببعضه دون بعض.

الأمر بالفعل يستلزم قصد الشارع إلى وقوع ذلك الفعل، والنهي يستلزم القصد إلى من وقوع المنهي عنه.

 إن هذه الشروط والضوابط لاعتبار المقاصد هي لاشك ضوابط منهج النظر والاستدلال الصحيح بالخطاب الإسلامي ومدى موائمته للمتغيرات الراهنة من حيث كونه تجسيداً لتنزيل النصوص والقيم الدينية في واقع الحياة ومدى قدرتها على المعالجة والتبيين والإصلاح والتغيير. ويجدر التنبيه هنا إلى أن العمل بضوابط المقاصد هو العمل بالمقاصد نفسها، والتفويت فيها أو في ضابط منها هو عينه التفويت في ما جعله الشارع مرادًا لشرعه ودينه. فالضوابط في علاقتها مع المقاصد كالشرط مع المشروط والدليل مع المدلول، ويعلم بداهة وعقلاً أن المشروط متوقف على شرطه، وأن المدلول مبني على دليله، لذلك فإن المقصد متوقف على ضوابطه وجودًا وعدمًا، على أساس أن المقصد الذي أراده الشارع إنما قد اعتبره بوجه ما، وعلى وفق أمر ما، وذلك هو عين الضابط ونفس القيد في اعتبار المقصد من قبل الشارع الحكيم.

إن المنهج المقاصدي، إضافة إلى ما قرره علماء الشريعة من قواعد الفهم والاستدلال، هو المنهج الأنسب لفهم أحكام الشريعة الإسلامية واستنباطها في الوقت ذاته، إذ أنه المنهج الذي يضبط عملية الاستدلال بالنص الشرعي من حيث الفهم والتطبيق في ضوء الملاءمة بين ظروف النازلة التي يتناولها النص والمقصد الذي يستشرفه النص نفسه من تطبيقه.

ويستلزم العمل بالمنهج المقاصدي جملة أمور شرعية ولغوية وواقعية حتى يقوم بدوره على أحسن الوجوه وأتمها، وإجمالا فإن العمل بالمقصد في العملية الاجتهادية يقوم على ثلاثة عناصر بديهة، هي:النص، والواقع، والمكلف.

فالنص: هو الدليل الذي يُراد تطبيق حكمه وعلته ومقصده، والواقع: هو ميدان الفعل والتصرف الذي سيكون محكومًا بذلك النص وموجهًا نحو مقاصده وغاياته، والمكلف: هو المؤهل عقلاً وشرعا للملاءمة بين النص والواقع، أي هو المجتهد في تنزيل أحكام الشريعة ومقاصدها على الواقع وتقويم الواقع بها، وصولا إلى تحقيق معالجات شرعية لمشكلات ذلك الواقع وأقضيته وأحواله.

وتحيط بتلك العناصر الثلاثة “النص والواقع والمكلف” جملة من الصفات الهامة والمعطيات اللازمة والشروط الضرورية في عملية الاستنباط الفقهي في ضوء مراعاة المقاصد الشرعية، تلك المعطيات التي عبّر عنها العلماء بأنها سائر صفات وشروط المجتهد، وقواعد وضوابط كيفية الاستنباط وأدواته، وجملة شروط التأويل التي ينبغي استحضارها في الاستدلال على أي حكم شرعي للواقعة المستجدة، بغرض أن يتحقق في واقع الناس مراد الشارع على سبيل القطع واليقين أو الظن الغالب والراجح.

فالنص “العنصر الأول” يستلزم جملة من القواعد والمعلومات اللغوية والأصولية التي يستحضرها المجتهد في التعامل مع النص الشرعي، فهمًا وتطبيقًا، وكل تلك المعلومات اللغوية والأصولية وغيرها، المبثوثة في كتب الأصول، تشكل الأساس الضروري الذي لابد منه في الاجتهاد والاستنباط، وهي في علاقتها بمعانيها ومقاصدها ودلالاتها كعلاقة الشرط بمشروطه، والسقف بجدرانه، فهي أمارات وعلامات دالة على مراد الشارع الحكيم ومقاصده، وأسباب لتحققها وتطبيقها في الواقع، وباعتبار أنها النصف الثاني الذي يشكل مع المقاصد كيان النص ووجوده، “فما أطلقه الله من الأسماء، وعلّق به الأحكام، من الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، لم يكن لأحد أن يقيده إلا بدلالة من الله ورسوله”.

 وفهم الواقع الذي يراد تحكيمه بالتعاليم الشرعية، وليس العكس، يعد عنصرا ثانيًا للعمل بالمنهج المقاصدي، فالنصوص الشرعية لم تأت إلا لتخاطب الواقع وتتنزل فيه على أحسن حال، وأفضل منهج، وأقوم سبيل، وواجب المجتهد الاطلاع على أحوال زمانه، وإلمامه بالأصول العامة لأحوال عصره، وبمقدار فقهه للواقع وبحجم استيعابه، وبمقدار إبصار مقاصد النصوص وأبعادها ينجح المجتهد في تحقيق أغراض الدين وخدمة الدنيا، فالدين كما يقول الشاطبي ما وضع إلا لمصالح العباد في العاجل والآجل.

وتتأكد عملية فهم الواقع في العصر الحالي، حيث استجدت الكثير من الحوادث والنوازل في مجالات مختلفة وبخلفيات متنازعة، وجدّت على ساحة الفكر والسياسة والاقتصاد والطب والأخلاق مشكلات مستعصية ودقيقة لا يمكن الحسم فيها من الوجهة الشرعية إلا بمعرفة أحوالها ودقائقها وخلفياتها ودوافعها مما يجلي حقيقتها ويحرر طبيعتها، ويساعد على إدراجها ضمن أصولها وإلحاقها بنظائرها وتأطيرها في كلياتها وأجناسها.

والواقع ليس إلا مجموع الوقائع الفردية والجماعية، الخاصة والعامة، ومن ثم فإن فهم ذلك الواقع هو فهم تلك الوقائع واستيعابها، وتبين طبيعتها وخصائصها، حتى يسهل تنزيل الحكم الشرعي عليها، وهذا هو الذي عبّر عنه الأصوليون بتحقيق المناط الخاص، والعام، وهو من أعظم المسالك الاجتهادية الناظرة في الوقائع المختلفة التي لا تنتهي، والتي لم ينص عليها في ذواتها وأعيانها، فالشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدة، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادًا لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين.

وتحقيق المناط تتفاوت مراتبه ودرجاته بتفاوت العقول والقرائح والملكات، علمًا وصلاحًا، ودربة وخبرة، باختلاف الوقائع والظواهر، ومدى ظهور أو خفاء خصائصها وملابساتها ودوافعها وغير ذلك، وهو قدر كل مجتهد ومفت وقاض وحاكم، بل هو قدر المكلف نفسه الناظر في ما يتعلق به من أحكام، فهمًا وتنزيلاً. وإذا كان تحقيق المناط ينبني أولاً على معرفة الموضوع كما هو، فإن معرفة الحوادث متوقفة على أربابها وأصحاب التخصص فيها، فلا يجوز الحكم على قضية معينة في البنوك أو الطب أو القانون أو الفن إلا بما يقوله المتخصصون في ذلك، ثم تتوضح شرعيته بما يقوله خبراء الشريعة وأرباب التخصص الاجتهادي المقاصدي.

إن ذلك التنسيق بين الوحي والواقع ليس بالأمر الهين، ولا يقدر عليه إلا مَن رزقه الله عقلاً نيرا وفكرا رصينا ورأيا حصيفا، متمتعا بحظ وافر من الفهم والإدراك والتمييز والإلحاق والتقعيد والإدراج والمقارنة والترجيح والاستقراء، وغير ذلك مما يعد شروطا أساسية لفهم التكليف وفعله في الواقع.

والعنصر الثالث في إعمال المنهج المقاصدي المكلف، إذ هو محور عملية الاجتهاد ومدارها، فالنصوص ما جاءت إلا للمكلف، والواقع ما حدث إلا به، والذي يهمنا من المكلف عقله الذي يلائم بين مدلول النص وحوادث الواقع، وهو يشمل عقل المكلف العادي فيما كلف به من خطاب شرعي، أمرًا ونهيًا، يتعلق بجملة الأوامر والنواهي التي يجب عليه فهمها وفعلها وأخذها من كتب العلم وكلام الفقهاء، ويشمل كذلك المكلف بالاجتهاد والاستنباط والمأمور ببيان أحكام الشريعة في حوادث عصره ونوازل مجتمعه.

فالشرع ما نزل إلا ليخاطب عقل المكلف، ويجعله مناطا لتكاليفه وأحكامه، تحملا وأداء، فهما وتنزيلا.

والعقل الذي يهمنا هنا ليس عموم أي عقل: بل هو العقل الإسلامي الاجتهادي الذي هو أداة التنسيق والربط بين الوحي الثابت والواقع المتغير، والذي يتحرك في دائرة الشرع وضوابطه و يتخذ من ذلك منهجًا له في تحركه وفعله واستنتاجه وحكمه، بعيدا عن الهوى والتلذذ والتشهي لتكون عملية التنزيل لفهمه الديني قائمة بالأساس على الاستبصار بالوحي لا الانفصال عن بصائر التوجيه الرباني..

إن العقل الإسلامي الذي يحيط بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها، ويكون على بينة من اختلاف مراتبها، ويفهم معانيها ووجوه دلالات تلك المدارك على مدلولاتها، ويستنبط مراميها وأسرارها ومقاصدها، هو كذلك يباشر الوقائع والحوادث ويفهم حقيقتها وطبيعتها ويفقه ملابساتها وحيثياتها وظروفها، ويقارع صعاب النوازل ويعمل على تقويم اعوجاج ملتويات المسائل، ثم بعد ذلك يلجأ إلى موازنة الوحي بالوقائع، ويتحقق من وجود مناط الحكم الشرعي الذي تحصّل في الذهن في الواقعة المسؤول عنها لينطبق عليها الحكم، فالشريعة الإسلامية لم تنص على حكم كل جزئية بخصوصها وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة، تتناول أعداداً لا تنحصر من الوقائع، ولكل واقعة معيّنة خصوصية ليست في غيرها، قال الشاطبي: “وليست الأوصاف التي في الوقائع معتبرة في الحكم كلها، ولا هي طردية كلها بل منها ما يعلم اعتباره، ومنها ما يعلم عدم اعتباره، وبينهما قسم ثالث متردد بين الطرفين فلا تبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلاَّ وللمفتي فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل، وهل يوجد مناط الحكم في الواقعة أم لا؟ فإذا حقق وجوده فيها أجراه عليها، وهذا اجتهاد لابد منه لكل قاض ومفت، ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام على أفعال المكلفين إلاَّ في الذهن؛ لأنها عمومات ومطلقات، منزّلة على أفعال مطلقة كذلك، والأفعال التي تقع في الوجود لا تقع مطلقة، وإنما تقع معينة مشخّصة، فلا يكون الحكم واقعاً عليها إلاَّ بعد المعرفة بأن هذا المعيّن يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلاً وقد لا يكون وذلك كله اجتهاد”.

والذي يتمكن من كل هذا كما قال ابن القيم هو المحصل لنوعين من الفهم، أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والإمارات والعلامات حتى يحيط به علما، والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر.

وواجب العلماء اليوم تشكيل عقل جماعي متخصص ينظر للواقع بشمول وإحاطة واستيعاب، ويزن الأمور بميزان الجماعية التي بارك الله فيها من جهة، والتي يتوقف فهم الواقع المعاصر عليها، لما بلغته قضاياه وأحواله من تشعب وتعقيد واختلاط وتداخل في صوابه وخطئه، في حلاله وحرامه، وبخاصة في زماننا الذي انمحت فيه الحدود وزالت فيه الحواجز، وغزت العالم الإسلامي في عقر داره أعراف العالم الآخر ونظمه وقوانينه، وغدت المبادلات فيه على أسس لا توافق في أحايين كثيرة الأسس الفقهية المعروفة . وقد ازداد الأمر تعقيداً بظهور المخترعات العلمية الحديثة التي جرت معها قطاراً من المسائل العويصة التي يتوقف فهمها على ذوي الاختصاص والخبرة لطبيعتها وماهيتها، هذا فضلاً عما شاب العقل الإسلامي من اختلالات واهتزازات في الفهم والتمييز بسبب اختلاط الثقافة الإسلامية بثقافات أخرى، وليس مع ذلك الاختلاط من تحصين ووقاية.

قال الدكتور نور الدين الخادمي: “إن التحديات الفكرية والاقتصادية والحضارية المعاصرة التي تواجه الكيان العام، وتستهدف البناء القيمي التشريعي الإسلامي لن يكون مقدورًا عليها إلا بتشكيل العقل العام والضمير الجماعي المتشبع بالروح العقدية والفكرية الأصيلة، والروح المعنوية والوجدانية العالية، والنفس الإصلاحي التعميري الشامل، والرغبة في الشهادة على العالم، وإحياء الخيرية والرحمة لكافة الناس”. انتهى.

إن إعمال دور المقاصد الشرعية في المساهمة في معرفة الخلل الذي أصاب منهج النظر والاستدلال في إيجاد الحلول الإسلامية لما استجد من الوقائع والأحداث آكد ومعتبر لأجل تصحيح مساره واستشراف الحلول من خلاله. فالمجتمعات الإسلامية أصبحت تنحو إلى الكماليات والإسراف في استعمالها والإغراق في تعاطيها ونشرها، بينما الردّ إلى مقاصد الشريعة يعيد الاعتبار إلى فقه الأولويات ويثبت في الذهن ميزان المنافع أو المضار بدأً بحفظ الضروريات التي لا يقوم مجتمع إلا بها في كل شؤونه الحياتية والفكرية ثم الحاجيات ثم التحسينيات، والإخلال في هذا إخلال في بنية المجتمع والأفراد.

يقول العز بن عبد السلام رحمه الله، في كون تصرفات الناس العامة لا تخلو في ماهيتها من قبيل المصالح أو المفاسد ولضبط هذه الأفعال قال رحمه الله،: “الأفعال ضربان: أحدهما المصالح وهي أقسام:

(أحدهما) ما هو مصلحة خالصة من المفاسد السابقة واللاحقة والمقترنة و لا يكون إلا مأذوناً فيها إما إيجابا أو ندباً أو إباحة “القسم الثاني” ما هو مصلحة على مفسدة أو مفاسد وهي ما دونه. “القسم الثالث” ما هو مصلحة مساوية لمفسدته أو مفاسده. “القسم الرابع” ما هو مصلحة مساوية لمصلحة أو مصالح فإن أمكننا الجمع جمعنا وإن تعذر الجمع تخيرنا، ومهما تمحصت المصالح قدمنا الأفضل فالأفضل، والأحسن فالأحسن ولا نبالي بفوات المرجوح.

الضرب الثاني: المفاسد وهي أقسام: “أحدها” ما هو مفسدة خالصة لا يتعلق بها مصلحة سابقة ولا لاحقة ولا مقترنة، فلا تكون إلا منهياً عنها، إما حظراً، وإما كراهة. “القسم الثاني” ما هو مفسدة راجحة على مصلحة أو مصالح وهي منهية. “القسم الثالث” ما هو مفسدة مساوية لمصلحة أو مصالح، فإن أمكن درء المفسدة وجلب المصلحة أو المصالح قلنا بذلك وتركنا المفسدة وأثبتنا المصلحة أو المصالح. وإن تعذر الجلب والدرء ففيه نظر.

“القسم الرابع” ما هو مفسدة مساوية لمفسدة أو مفاسد فإن أمكن درء الجميع درأناه وإن تعذر تخيرنا ومهما تمحصّت المفاسد درأنا الأرذل فالأرذل والأقبح فالأقبح”.

ونظراً لصعوبة الترجيح في المصالح والمفاسد المتعارضة سطر لنا كذلك علماء القواعد والفقه قواعد فقهية تساعد على الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارض، يحفظها الفقيه ليفتي بها ويحفظها غيره ليتزن على وفقها، ومن أمثال هذه القواعد:

-درء المفاسد مقدم على جلب المصالح – تفوت أدنى المصلحتين لحفظ أعلاهما -المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة، الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف – الضرر لا يزال بمثله – يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام -الضرورات تبيح المحظورات- الضرورات تقدر بقدرها- إذ تعارضت مصلحتان أمام الفرد، فعليها أن يقدم المصلحة المتعلقة بأمر ضروري على الحاجي والحاجي على التحسيني وإذا تعارضت مصلحتان في نفس الرتبة تقدم مصلحة حفظ الدين على حفظ النفس والنفس على العقل والعقل على النسل والنسل على المال. وإذا تعارضت مصلحتان في نفس المرتبة وتتعلق بنفس الأمر تقدم المصلحة العامة التي تتعلق المجموع على المصلحة الخاصة، المتعدي أفضل من القاصر والفرض أفضل من النفل، لا عبرة  بالظن البين خطؤه – ويغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد. إلى غير ذلك من القواعد المنظّمة للعقل والمؤسسّة لمنهج الاجتهاد المقاصدي القائد نحو مدارج الرقي.

فالشريعة الإسلامية نظام متكامل ونسيج يكمل بعضه بعضًا، ويفسر بعضه بعضًا، ولذلك كان النظر المقاصدي قائمًا على هذا الاعتبار، إذ لا يمكن مراعاة مقصد معين ومصلحة جزئية إلا إذا كان ذلك غير عائد على ما هو أهم بالإبطال والتعطيل، وأن يكون خادمًا للنظام المقاصدي كله، وعلى هذا الأساس يتم الترجيح بين المصالح عند التعارض، فالمصلحة الخاصة لا يؤخذ بها إذا تعارضت مع المصلحة العامة، والمصلحة الظنية تتفاوت درجات ظنيتها بحسب تواتر الأدلة عليها، إذ واجب المجتهد إذا أراد الحكم على ظنية المقصد أو قطعيته، النظر في أكثر ما يمكن من الأدلة، وأن يكون نظره دائرًا ضمن فهم متكامل ومتناسق لتلك الأدلة.. والمقصد لا يعتبر إذا تركت وسيلته الشرعية المتعينة، وكذلك الوسيلة ترد إذا لم تؤد إلى مقصدها الشرعي المعلوم، وغير ذلك من المسالك الشرعية والمقاصدية، التي يتمظهر فيها بحق البعد التكاملي والطابع الشمولي لدراسة الظواهر والحوادث، وتحديد أحكامها على وفق المقاصد والضوابط الشرعية.

وإجمالا فإن المنهج المقاصدي يشكل النظام الشامل والنسيج الأصولي المتناسق الذي على المجتهد أن يستحضره ويطبقه في عملية الفهم والاستنباط، فهو منهج يسير على خطين متوازيين: الأول فهم الأحكام الشرعية فهماً كلياً مترابطاً لا فهماً تجزيئياً، والثاني مبني على الأول في استنباط أحكام الشريعة لوقائع مستجدة أو في الكشف عن الموهوم والمظنون والمردود والمرجوح من أحكام اجتهادية سابقة، قال الشاطبي: “إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها”.

لذلك كان المنهج المقاصدي منهجا لا يقف عند ظواهر النصوص فقط، بل يتجاوزها إلى إدراك معانيها وبواطنها وعللها، دون الإخلال بقاعدة مقررة عند علماء الشرع “عدم العدول عن الظاهر بلا موجب في الاستدلال بالنصوص”، فهو منهج يحقق الوسطية في فهم النصوص من حيث المبنى والمعنى، إذ يسير بين اتجاهين: بين ظاهرية مفرطة وباطنية مغرضة، وقد أشار الشاطبي إلى:

الأول المتمثل في الاتجاه الظاهري الذي نفى أن تكون الشريعة معقولة المعنى معللة بمقاصدها وعللها ومصالحها، وأن ظواهر النصوص كافية لمعرفة الأحكام، وأنه لا عبرة لما وراء ذلك من أقيسة واستصلاح وعُرف واستحسان واعتبار المآل وغيره.

وإلى الثاني الذي ينفي كون مقصد الشارع في الظواهر، حتى أنه لا يبقى متمسك في أي ظاهر، ورأى رحمه الله استقامة سبيل الاستدلال لمن يقول باعتبار الأمرين جميعاً، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا بالعكس، لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض.

إن المنهج المقاصدي موقف وسط في التعامل مع المقاصد من خلال كليات الشريعة والنصوص الجزئية ، فقد تباينت آراء الباحثين حول المقاصد:

بين مبالغ في اعتبارها متوسع في التماسها دون ضوابط منهجية وثوابت شرعية، متجاوز لحدود عمومها حيث جعله قطعياً وجعل شمولها مطرداً متجاهلاً ما يعتري العموم من التخصيص وما ينبري للشمول من معوقات التنصيص، فألغوا أحكام الجزئيات التي لها معان تخصها بدعوى انضوائها تحت مقصد كلي شامل، فانتهى بهم هذا السبيل إلى التحلل من أحكام الشرع أو تقييد نصوصها ومحاصرتها  باسم المصالح والمقاصد.

وبين مجانب للمقاصد متعلقاً بالنصوص الجزئية إلى غاية تلغي المعاني والحكم الكلية للتشريع والمعارضة للنص الجزئي من حيث اعتباره  بإطلاق دون ضوابط أو حدود.

والمنهج الصحيح وسط بين هذا وذاك، يعطى الكلي نصيبه ويضع الجزئي في نصابه. وقد انتبه لهذه المزالق الشاطبي، رحمه الله تعالى، حيث حذر من تغييب الجزئي عند مراعاة الكلي ومن الإعراض عن الكلي في التعامل مع الجزئي حيث قال: “فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات في هذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فمحال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص في جزئي معرضاً عن كلي، فقد أخطأ، وكما أن مَن أخذ بالجزئي معرضاً عن كلية فقد أخطأ، كذلك مَن أخذ بالكلي معرضاً عن جزئية”.

إن المنهج المقاصدي الذي ينتج فقها يشمل شؤون الحياة كلها، بحيث يستوعب الوحي كإطار مرجعي وضابط منهجي، ويستنفر العقل ويشحذ فاعليته كوسيلة لفهم الوحي وفهم المجتمع والواقع، هو القادر على إصلاح أحوال الأمة وفق أولويات معتبرة شرعا وحسب إمكانات واستطاعات كل مرحلة، بحيث يتم الاستخدام الأفضل للإمكانات، وتصبح قاصدة بعيدة عن الهدر والضياع والضلال.‏

خلاصة القول: إن المنهج المقاصدي بقواعده المحكمة وضوابطه الشرعية يحقق الوسطية التي تأخذ بالعزائم دون التجافي عن الرخص في مواطنها، و تطبق الثوابت دون إهمال للمتغيرات ويقام وزن للزمان والمكان دون تحكيمهما في كل الأحيان، ويتعامل مع تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع، وتضبط قواعد الإعمال للحاجات والمصالح وعموم البلوى وعسر الاحتراز، ويتم بموجبه الربط الواصب بين النصوص وبين معتبرات المصالح في الفتاوى والاجتهاد، فلا شطط ولا وكس.

وأنبه في الأخير إلى أن الاجتهاد الآخذ بالاعتبار مقاصد الشرع أمر يحتاج إلى علم ودراية، وصبر ومثابرة، وتمحيص وتدقيق، فبغير هذا كله سيكون الأمر، لا قدر الله، تألها وتطاولا على الله من خلال نسبة القصد إليه سبحانه دون علم أو دراية.

Science

دة. ريحانة اليندوزي

كلية الشريعة، فاس

عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق