مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

ضابط اعتبار العربية في ميزان قبول القراءة القرآنية وما إليه

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد؛

فإنّ اعتبار نمط القراءة لأحرف التلاوة ورعْي أسلوب الأداء لأوضاع المتلو بعديد أوجهه ومتفيَّإ ظلاله وشتّى لحونه وظواهره وما إليه؛ كلها وأَشكالها ذرائع لهجية هادية وأنحاءُ صوتية مُعْرِبة متعلقة باللفظ (أصلا ووصفا)، ثم هي – في خويصّتها –  شِيةٌ مبنيَّة على غراس اللغة التي بها تنزَّل النص القرآني وأُوحي، ثم إن هذا التعدد في اللفظ والتنوع في التأدية والسَّوْق؛ إنما يَهنأُ فَيَسوغُ اعتمالاً بانتصابه مُلتحَداً مَأْرزاً نابضا بدواعي الإطاقة الطبعية البشرية وجوالب الاقتدار الجبلّي الإنساني وتذييع موجبات الهناء والرحمة واتخاذه موئل قوم أُمّيين لم يكن لهم باستظهار الشرائع وترجيع تفصيلاتها سابقةُ أنس أو بادئةُ عناية أو ما أشبه، مكافئا لسائر الفروع اللسانية وشُعب النطق فيها ومهيمنا على ما جرت به فطرة اللغة عند العرب من الأوضاع المتصلة بالنظم والتأليف (جرْسا ومعنى …)، فبمثْل تلك الرعاية الربانية في الوحي والتنزُّل وأسبابها، وباستصفاء ما ثبت صحيحا من بعض ألفاظ القرآن عن النبي الأرأف في قراءاته وأدائه وهو الأكفل الأقعد بوجوه لغة العرب وسَنَنها في التخاطب؛ تملَّك كل عربي (شيخ فانٍ، عجوز كبيرة، غلام، جارية …) أمر حاله في تنزيل أحرف القرآن وكلمه وَفْق لحنه الجبلّي وعلى نهج ما استُرضع من لبان قومه وعشيرته، تنزيلا يتخذ من الملاءمة بين جرْس الحرف وبين طبيعة المعنى والصوت الذي يتأدّى به؛ مطيّة نظمية بيانية تنهض على اعتلاء تصاريف الأبنية اللفظية واحتمال تقلبات الهيآت اللغوية الأفصحية، بالقدر الذي يشبع الحاجة الفطرية الأدائية فيستوي سِداداً أجْدى وأنفع لكل ثغر أو صقع … ثم يلائم خصائصه الصوتية ويناغم شاكلة موسيقاه اللغوية بالذي يُضـرَبُ مثلاً أرقى في لغة العرب ويُتَّخذ مثابةً وأَمْنا وهداية للناطق المجود بالقدْر الذي يصير به أجلى بيانا وأعلى فصاحة، فليتأمل، ثم هذا التعدد في التأدية والتنوع في البلاغ ليس بضارّ القرآن شيئا أن لو كان نزل على لفظ واحد وأُدِّيَ وَفْق نمطٍ من البيان لا يَرْعى أحوال المُنزل عليه، وهو في شأنه ما هو دقة وجزالة وإحكاما وإبداعا وسُموّا…، بل كل ذلك وغيره مما يَشـي بتمام معاني الإعجاز واستطالة معالم الإبانة والحجّة واستيلائه على جوانب الفطرة اللغوية في نفسها، فلا وربِّك لن يهدأ رُوعُك أويُفَرَّغ عن قلبك حتى تنقاد فتردّ أمر إعجاز القرآن وبراعة نظمه إلى مُولي البِرِّ العليّ الذي ركز في العرب فطرة اللغة ثم مَنَّ ففتَّق من كُنه روح اللغة ومادة بقائها ما رجع على تلك الفطرة بالعجز والهدنة وتَصَـرُّم دواعي المعارضة أو ما أشبه، فنعْت البيان متصل أبداً بعربية القرآن مُحتبٍ بحيّزها لنْ يُزيَّل بينهما بحال وذلك في مثل قوله تعالى: (وَهَذا كِتاب مصدِّق لساناً عربيّاً) [الأحقاف/12] وقوله تعالى: (وَهَذا لِسانٌ عَربيّ مبين) [النحل/103] وما أشبه ذلك، ثم إن التعدد في الأوجه والتنوع في الأداء سمات خاصة تشكل غراس أساس البيان العربي في أدبيته التامة المتصلة بتثقيف اللسان وتنقيح الجَنان وشرائط إحكام الصَّنَع وما إليه، فلأجله استوى القرآن مبينا كافلا معجزا، فكانت وجوه قراءاته من محاسن خِلال البيان المعجز ونازلةً على وَفق مألوف العرب وطِبْق ما كانوا يستحسنون، فهذا نبذٌ نامٍ مجلٍّ لميسم البيان والإعجاز والحجةوما إليه.

وعليه؛ فالأداء القرآني المُمْرَنُ لا يتمثَّل أو يتحقق إلا في أحشاء رواياته المشهورة المعتبرة التي نزل عليها منمشكاة الأحرف السبعة، قال العلامة مكّي القيسـي(ت‍ 437 ه‍) في الإبانة: [إن هذه القراءات كلها التي يقرأ الناس بها اليوم وصحت روايتها عن الأئمة؛ إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووافق اللفظ بها خط المصحف، مصحف عثمان رضي الله، الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه واطّرح ما سواه مما يخالف خطه] [ص 32، تح عبد الفتاح شلبي]، فيبقى النص القرآني وحيا منزلا على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ثابتا على وجه التواتر ثبوتا باتا قاطعا من تطرق الريبة أو الشك أو ما شابه، خلافا للقراءات التي هي طرائق في التأدية وأوجه في التبيلغ يعتريها المتواتر والمشهور والصحيح والشاذ وما إليه، لتعلقها باللفظ والنطق لا بالتركيب والنظم، فكل من يقرأ بقراءة معتبرة فإنه يجري عليه أنه يتلو القرآن وَفق مذهب إمام معين في نظام الأداء ذي ملامح لهجية مستوفاة لسمت القرشية التي يستحسنها كل قبيل عربي من إمالة أو إدغام أو تخفيف همز أو ما شابه، فهو كلام الله ووحيه تأدّى إلينا وتُلقي بأداء نبوي مصطفوي مصفّى صلوت ربنا وسلامه عليه وعلى آله، قال أبو شامة (ت‍ 665 ه‍): [واعلم أن القراءات الصحيحة المعتبرة المجمع عليها؛ قد انتهت إلى السبعة القراء …، واشتهر نقلها عنهم لتصديهم لذلك وإجماع الناس عليهم، فاشتهروا بها كما اشتهر في كل علم من الحديث والفقه والعربية أئمة اقتدي بهم وعُوّل فيه عليهم، ونحن فإن قلنا: إن القراءات إليهم نسبت وعنهم نقلت، فلسنا ممن يقول: إن جميع ما روي عنهم يكون بهذه الصفة، بل قد روي عنهم ما يطلق عليه أنه ضعيف وشاذ … فلهذا ترى كتب المصنفين في القراءات السبع مختلفة في ذلك، ففي بعضها ذكر ما سقط في غيرها، والصحيح بالاعتبار الذي ذكرناه موجود في جميعها إن شاء الله تعالى، فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة، وأنها هكذا أنزلت، إلا إذا دخلت في ذلك الضابط، وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره، ولا يختص ذلك بنقلها عنهم، بل إن نقلت عن غيرهم من القراء؛ فذلك لا يخرجها عن الصحة، فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من تنسب إليه]. [المحرر الوجيز 90 – 91]، فلأجل ذلك وغيره قامت سُنّة العرْض والمدارسة في تلقي أحرف القرآن الكريم على عرْف نافذ مستمر ناهض على اعتماد المضمَّنات السبعية والعشـرية النثرية والشعرية النصيّة منذ ابن مجاهد إلى الآن لما  لها من الكفالة التامة المعينة في ضبط مخارج طرق الأداء وتعيين منازع حكمها من الكتب والمصنفات التي اشترط أصحابها الأَوْجَه الأشهر واختاروا ما قُطع به عند الجلّة، وتلقاه الناس بأيْد القبول والتسليم، بل أجمعوا عليها من غير معارض حتى تعصم قلب القارئ المبتدئ – خاصة – من التيه أو السقوط في مَضلَّة تركيب ما لا يقبل التركيب من بعض الأوجه على بعض، فيقع في المحذور بتخليط المعاني أو إحالة المباني وما شابه، خاصة إذا عُلم أن الواحد من أهل الصدر الأول من الصحابة ومن بعدهم؛ كان يعْكُف زمناً على القراءة على الشيخ الواحد عدَّةً من الروايات والكثير من القراءات، كل ختمة برواية، إذ لم يكونوا يجمعون رواية إلى أخرى أو ما شابه، واستمر الحال على ذلك إلى حدود المائة الرابعة وصدر الخامسة زمن مكّي (ت‍ 437 ه‍) والداني (ت‍ 444 ه‍) وابن شريح (ت‍ 476ه‍ ) وغيرهم، فظهر جمع القراءات في الختمة الواحدة، واستمر العمل على ذلك إلى اليوم، وإن كان مِنْ بعض السلف مَنْ ينكره ولا يراه (غيث النفع للصفاقسي 1278/، طبعة سالم الزهراني)، … ثم إن الطريقة المثلى في ضبط الحروف عند جمعها ؛ حفظ كتاب جامع معتبر في استحضار مسائل الخلف القرائي (أصلا وفرشا) كما سلف، قال الصفاقسي(ت‍ 1118 ه‍): لا بد لكل من أراد أن يقرأ بمضمَّن كتاب؛ أن يحفظه على ظهر قلبه، ليستحضر به اختلاف القراء أصلا وفرشا، ويميز قراءة كل قارئ بانفراده، وإلا فيقع له من التخليط والفساد كثير غيث النفع 1/285، وعليه فلقد تفنن الناس في التأليف في قراءة نافع منذ عهد التدوين إلى الآن فكا ن منهم الموجز والباسط والمقتصد رعيا لمقام العلم وما فُرض له ووعْيا بحال الآخذ المتعلم ورفقا بجانبه، وسياق حديثنا هنا إلى النهضة النافعية التي طبعت الإسهام الفكري القرائي في القرن السابع الهجري وانتشـرت لأجلها كراسي الإقراء والتعليم واستطالت مجالس الشيوخ والإفادة خاصة سبتة وفاس  ومراكش ومكناسة وتازا وغيرها من معاقل العلم، إذ كان الاعتماد في التلقي والأخذ على مقرّرات ومصنفات مُجمَعٌ على ما فيها مثل: الكافي والمفردات كلتا اثنيهما لابن شريح وعلى القصيدة الحصرية ثم يزاد على ذلك تيسير الحافظ أبي عمرو ونظمُه (التبيين والتبصير) لمالك بن المرحّل الذي عارض بنظمه قصيدة حرز الأماني لولي الله الشاطبي رحم الله الجميع ورضي عنهم، فمن الشيوخ في القراءات والعربية ورجالات السند المغربي الذين برَّزوا في القطر المغربي لهذا العهد (ق 7): ابن القصاب وابن آجروم وأبو عمران ابن حدادة المرسي وأبو الحسن القرطبي  صاحب التجريد والتهذيب وابن آجطا وأبو الحسن ابن برّي وأبو عبد الله الخراز ومحمد بن شعيب المجاصي…

على أنه ليس من حسابنا وهمِّنا – هنا – إلا أن نقضي بعض الحقّ أو أَثارته للذي يتصل بالوجهة الصناعية الفنية – قراءة وأداء – واتخاذ سَبْق التفقه بأدبيات حرف الكتاب العزيز إلى القلب فاتحة الطالب الدارس في نظام الأخذ والتحمل لأوجه القرآن الكريم المعتبرة وتلقي أجزاء رواياته وفنون أدائه المشتهرة (قراءة ورسما وأداء وعزوا وتحريرا وعلة …)؛ منصرفين عن الخوض فيما سوى ذلك، فما زالت الوجهة الفنية من كل مطلوب خبري هي الفَننن الأورق من أصل حدوثه ونبْعه في التوريخ.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع

 

Science

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق