صور من مراجعات الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
إن كتابة بعض الأسطر عن صور من مراجعات الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما يروم إلى تسليط الضوء، والإشارة إلى موضوع مهم، وهو: مراجعات الصحابة رضي الله عنهم ، وهم أفضل الناس بعض النبيئين، لما يرونه صوابا، أو يستشكلون أمرا، بحكم الطبيعة البشرية، وقد قسمت هذا المقال إلى ثلاثة أقسام: أولا: مكانة الصحابة، ثانيا: تعريف المراجعة، ثالثا: صور من مراجعات الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أوان الشروع في المطلوب، والله الموفق للصواب.
أولا: مكانة الصحابة:
تعددت النصوص الدالة على مكانة الصحابة العالية، وحبهم الذي هو من حب الله تعالى ورسوله الكريم، فمنها: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»[1]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مد أحدهم، ولا نصيفه»[2]، وغيرها، وقد عقد علماء الحديث كتبا وأبوابا في كتب الحديث، كما تعددت التصانيف المفردة في فضائلهم، ومناقبهم، وسيرهم، وأحوالهم، ورواياتهم، وفقههم، ابتداء من القرن الثالث الهجري.
ثانيا: تعريف المراجعة:
في اللغة: من: راجع فلانا في أمره مراجعة ورجاعا، رجع إليه وشاوره، والكتاب: رجع إليه، والكتاب أو الحساب: أعاد النظر فيه، وزوجته: ردها بعد طلاق، وفلانا الكلام: جاوبه وجادله وجعله يعيده[3].
في الفقه: المراجعة: يقصد بها: عودة المرأة إلى زوجها بعد بينونتها، أي: تكون بعد العدة وبينونة الزوجة بينونة صغرى، وتتوقف على تجديد العقد، في حين أن الرجعة يقصد بها: رجوع الزوجة المطلقة إلى عصمة زوجها في عدتها، من غير تجديد العقد[4].
والمراجعة تكون بين اثنين، ومن استعمالاتها اللغوية: المعاودة، والمحاورة، والمخاطبة، والمناقرة، والمناقلة، والمشاورة، المراددة، والمناظرة، والمسائلة، والمجادلة، والمناقشة[5].
ولقد استعملت لفظة: المراجعة في أسمى معانيها عند الصحابة، للدلالة على سؤال لم يتبينوا أمره، أو رجوع عن أمر رغب فيه ابتداء، استفسارا لأمور الدين، ودفعا لشبهات قد تعلق في النفس، مع استحضار التأدب والتوقير والمحبة لجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من لدن آل بيته الطاهرين، وصحابته الكرام البررة رضي الله عنهم أجمعين.
ثالثا: صور من مراجعات الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن حسن المراجعة من أسباب الانتفاع بالجواب، هي من صفات الصحابة رضوان الله عليهم، وقد كانوا أقرب مجلسا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشد انتفاعا بحديثه، إما بطرح سؤال أو انتظار من يقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستفسر عن أمر فيسمعوا جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه بعض مراجعات آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام رضي الله عنهم.
1-مراجعة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مروا أبا بكر يصلي بالناس، فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ القرآن لم يملك دمعه، فلو أمرت غير أبي بكر قالت: وما بي إلا أن يتشاءم الناس بمقام أول من يقوم مقام -تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- فراجعته مرتين أو ثلاثا، قال: مروا أبا بكر يصلي بالناس، فإنكن صواحب يوسف»[6].
وقالت رضي الله عنها: «لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته، إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا، قام مقامه أبدا، وإلا أني كنت أرى أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر»[7].
وأن عائشة رضي الله عنها: «كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه، إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حوسب عذب، قالت عائشة: فقلت أوليس يقول الله تعالى: ﴿فسوف يحاسب حسابا يسيرا﴾[8]، قالت: فقال: إنما ذلك العرض، ولكن: من نوقش الحساب يهلك»[9].
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: «لم أزل حريصا أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: ﴿إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما﴾[10]؟ حتى حج عمر وحججت معه، فلما كنا ببعض الطريق، عدل عمر، وعدلت معه بالإداوة، فتبرز، ثم أتاني، فسكبت على يديه، فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله عز وجل لهما: ﴿إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما﴾؟ قال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس - قال الزهري: كره والله ما سأله عنه، ولم يكتمه - قال: هي: حفصة، وعائشة، ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة، وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي، فتغضبت يوما على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك، فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فانطلقت فدخلت على حفصة، فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعم»[11].
2-مراجعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاث مائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض»، فما زال يهتف بربه، مادا يديه مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: ﴿إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين﴾[12]، فأمده الله بالملائكة»[13].
3-مراجعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم جمعة، فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أبا بكر، ثم قال: إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة، ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري، وقال: «يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء، وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن، ومن لا يقرأ القرآن»[14].
صفوة القول: إن ما يستفاد من إيراد ما تقدم من مراجعات الصحابة رضوان الله عليهم لرسول صلى الله عليه وسلم، وغيرها المبثوثة في كتب الحديث والسير، إنما كانت في بعض الأقوال والأفعال، الصادرة عنهم بحكم الطبيعة البشرية، ودفعا لما يشوب النفس من شبهات، مع غاية الأدب والتوقير والمحبة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعذرهم، ويراعي الطبيعة البشرية وما يصدر عنها، لأنه منهم: ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم﴾[15].
*******************
هوامش المقال:
[1] - رواه الشيخان: البخاري في: صحيحه 5/ 3، كتاب: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث: 3651، ومسلم في: صحيحه 4/ 1963، كتاب: فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، رقم الحديث: 2533.
[2] - رواه الشيخان: البخاري في: صحيحه 5 /8، كتاب: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا خليلا»، رقم الحديث: 3673، ومسلم في: صحيحه 4/ 1967، كتاب: فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب: تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم، رقم الحديث: 2540.
[3]- المعجم الوسيط ص: 331.
[4]- كشف المصطلحات الفقهية من خلال مختصر خليل بن إسحاق المالكي ص: 154.
[5]- راجع: كتاب العين للفراهيدي 3 /287، 4 /222، 5/ 145-162، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 1 /433-491، 2/ 198، 5/ 464، والمخصص لابن سيده 1 /217، 1 /355، 3 /318، ولسان العرب لابن منظور 4/ 217، 5 /227، 8 /114.
[6]- صحيح البخاري 6 /12، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، رقم الحديث: 4445، صحيح مسلم 1 /313، كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر، وغيرهما من يصلي بالناس، وأن من صلى خلف إمام جالس لعجزه عن القيام لزمه القيام إذا قدر عليه، ونسخ القعود خلف القاعد في حق من قدر على القيام، رقم الحديث: 418، واللفظ لمسلم.
[7]- نفسه.
[8]- سورة الانشقاق، الآية: 8.
[9]- صحيح البخاري 1 /32، كتاب: العلم، باب: من سمع شيئا فلم يفهمه فراجع فيه حتى يعرفه، رقم الحديث: 103.
[10]- سورة التحريم، الآية: 4.
[11]- صحيح مسلم 2 /1111، كتاب: الطلاق، باب: في الإيلاء، واعتزال النساء، وتخييرهن وقوله تعالى: ﴿وإن تظاهرا عليه﴾، رقم الحديث: 1479، سنن الترمذي 5/ 420_422، أبواب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة التحريم، رقم الحديث: 3318.
[12]- سورة الأنفال، الآية: 9.
[13]- صحيح مسلم 3 /1383_1385، كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم، رقم الحديث: 1763، سنن الترمذي 5 /269-270، أبواب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأنفال، رقم الحديث: 3081، واللفظ لمسلم.
[14]- صحيح مسلم 3 /1236، كتاب: الفرائض، باب: ميراث الكلالة، رقم الحديث: 1617.
[15]- سورة التوبة، الآية: 128.
*********************
جريدة المراجع
الجامع الصحيح (السنن) لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي، تحقيق ج5: إبراهيم عطوه عوض، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثانية: 1395 /1975.
الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه لمحمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، بيروت-لبنان، دار المنهاج، جدة-السعودية، الطبعة: الأولى: 1422، طبعة مصورة عن الطبعة الكبرى الأميرية، بولاق- مصر، 1311.
كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق : مهدي المخزومي ود.إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، (د-ت).
كشف المصطلحات الفقهية من خلال مختصر خليل بن إسحاق المالكي لمحمد المصلح، منشورات مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي، الرابطة المحمدية للعلماء، دار الأمان، الرباط- المغرب، الطبعة الأولى: 1435 /2014.
لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، دار صادر، بيروت- لبنان، الطبعة الثالثة: 1414 /1994.
المخصص لعلي بن إسماعيل ابن سيده الأندلسي، تحقيق: خليل إبراهم جفال، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى: 1417 /1996.
مراجعات الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم نماذج من السيرة النبوية: دراسة توثيقية تحليلية عبد السلام بن محسن آل عيسى، مجلة البحث العلمي في الآداب، جامعة عين شمس، مصر، العدد: العشرون، الجزء: الخامس، السنة: 2019.
المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان، (د-ت).
المعجم الوسيط لإبراهيم مصطفى، وأحمد الزيات، وحامد عبد القادر، محمد النجار، منشورات مجمع اللغة العربية بمصر، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الرابعة: 1425/ 2004.
معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399 /1979.
*راجع المقال الباحث: محمد إليولو