صدور كتاب آليات الاستدلال في الفكر الإسلاميّ الوسيط
أصدر مركز الدراسات والبحوث الإنسانيّة والاجتماعيّة بوجدة (سلسة ندوات ومؤتمرات المركز، 4، 2013)،كتابا جماعيّا بعنوان "آليات الاستدلال في الفكر الإسلاميّ الوسيط" في 583 صفحة تحت إشراف الأستاذين سعيد البوسكلاوي وتوفيق فائزي.
وفيما يلي تقديم الكتاب:
يضمّ هذا الكتاب أعمال الندوة العلميّة التي نظّمها مركز الدراسات والبحوث الإنسانيّة والاجتماعيّة بتعاون مع جامعة محمّد الأوّل وكلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة بوجدة يومي 13-14 أبريل 2010 بقاعة نداء السلام وقاعة الاجتماعات برئاسة الجامعةفي موضوع على قدر كبير من الأهمّية العلميّة، ويتعلّق الأمر بآليات الاستدلال في الفكر الإسلاميّ الوسيط.كان هذا اللقاء العلميّ فرصة لتبادل الآراء والتصوّرات بين الباحثين المشاركين الذين سلّطوا الضوء على جوانب مهمّة من هذا الموضوع وعملوا على مقاربة كثير من القضايا المرتبطة بآليات الاستدلال العقليّ كما مارسها المفكّرون المسلمون في العصر الوسيط أو نظّروا لها في مختلف مجالات العلم. وقدتركّز النقاش حول أنماط الاستدلال وطرق التدليل في العلوم النقليّة والعقليّة، وكذا آليات الحوار والخلاف بين المتكلّمين والفلاسفة، وأشكال التنافس والتنافر بين القياس الشرعيّ والقياس الفلسفيّ وغير ذلك.
لقد كان المنطلق هو محاولة الإجابة عن السؤال الرئيس التالي: كيف يشتغل 'العقل' في الفكر الإسلاميّ؟ وعن هذا السؤال تولّدت أسئلة عديدة: هل توجد فروق جوهريّة ومطّردة في طرق التعقّل (raisonnement) لدى الفاعلين في الفقه والنحو والكلام والفلسفة والعلم أم أنّ الطرق تتلوّن حسب فترات معيّنة في تطوّر الأفكار؟ وكيف يفصح 'العقل' عن سبل التدليل (argumentation) في صيغ تواصليّة قصد التبليغ والإقناع؟ هل القياس التمثيليّ والقياس الاستنباطيّ، كما مورسا في الثقافة الإسلاميّة، يمتلكان بنيتين ثابتتين لا تتغيّران ولا تمتزجان أم أنّ النمطين يندمجان حسب ظرفيّات معرفيّة محدّدة وبدرجات مختلفة؟
بالفعل، فقد عرف الفكر الإسلاميّ تصوّرات كثيرة ومتباينة بل متعارضة أحيانا تجلّت في طعون متبادلة في قوّة التدليل لدى هذه الفئة أو تلك؛ وقدّمت تبريرات مختلفة لتلك الطعون. فبعض المتكلّمين مثلاً (الشيعة منهم بالخصوص) طعنوا في إجرائية القياس التمثيليّ مثلما طعن فيها جلّ الفلاسفة؛ لكن لكلّ فريق تبريرات مغايرة لتبريرات الآخر. والخلاف بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متّى القُنّائي، على سبيل المثال، لم يكن منحصراً في مدى وثاقة القياس المنطقيّ وجدواه التطبيقيّة، بل ربّما كان يضمر خلافاً أعمق متعلّقاً بالموقف من اللّغة والفلسفة. ومن محاولات التفضيل أن قام الغزالي بردّ قياس التمثيل إلى قياس الشمول والإعلان عن ضرورة الأخذ بمبادئ قياس الشمول؛ في حين قام ابن تيمية بالضدّ تماماً، إذ اعتبر قياس الشمول غير مفيد، بل ودعا إلى تجاهله ورفضه. وهل من الضروريّ الاستغناء عن أحد النمطين من القياس؟ هل كلّ من رفض القياس التمثيليّ استغنى عنه فعلاً في الممارسة؟ وهل كلّ من رفض القياس البرهانيّ فعَل ذلك عن دراية بالثغرات التي قد تكون منبثّة فيه؟ وكيف يشتغل العلماء في الرياضيات والطبيعيات بفروعها المتنوّعة؟
تلك بعض القضايا من بين أخرى كثيرة يحاول هذا الكتاب دراستها مع التركيز، من جهة، على مختلف أنواع الاستدلال في الفكر الإسلاميّ مثل الاستدلال الرياضيّ، الاستدلال الكلاميّ، الاستدلال اللغويّ، الاستدلال المنطقيّ وغيره؛ ومن جهة أخرى، فقد حظيت طرق الاستدلال عند الفلاسفة وخاصّة ابن رشد منهم بحصّة الأسد من هذه المداخلات. لذا، ليس غريبا أن لا يكون هذا الكتاب يدافع عن أطروحة واحدة وأن لا ينطلق من تصوّر واحد نظرا ومنهجا في التعامل مع موضوعه، بقدر ما يحفل بآراء متنوّعة وأطروحات كثيرة، لكنّها متكاملة تصبّ جميعها في محاولة الكشف عن الآليات المنطقيّة والإبستمولوجيّة التي تحكم الاستدلال عند المسلمين في قضايا فكرية محدّدة كما في أبنيتهم الفكريّة بشكل عامّ. ويسعى إلى أن يساهم في فهم السبل المتنوّعة التي سلكها المفكّرون في الثقافة الإسلامية ومدى اشتراكهم في البناء المعرفي عبر التاريخ.
هكذا، انتظمت عروض المتدخّلين حسب محاور كثيرة ومتنوّعة من رياضيات ومنطق، وكلام، ولغة، وفلسفة. ففيالمحور الأوّل استهل القول بنّاصر البُعزّاتي بقول دقيق حول مفهوم التمييز لدى ابن الهيثم، وتناول أحمـد مصلـح دور البرهـان فـي ديناميـّة التفكيـر الرياضـيّ نموذج الجذر التربيعيّ لدى الحسن بن الهيثـم، في حين قدّم ادريس لمرابط (بالفرنسية) أمثلة عن البراهين المستعملة في الرياضيات العربيّة الإسلاميّة؛ وفي محور المنطق، توقّف محمد مرسلي عند نقد المتكلّمين لقانوني الفكر الأرسططاليسيّين" أو "الخرق الكلاميّ لمبدأ الثالث المرفوع ومبدأ عدم التناقض"، أمّا حسان الباهي فقد أبرز بإيجاز طرق التدليل ومراتب التصديق؛ وفي محور الكلام عمد أحمد علمي حمدان إلى مساءلة قياس الغائب على الشاهد: أصنافه والمقصود منها في نقد ابن حزم لبعض مناهج الاستدلال، وفي دراسة مقارنة تناول سعيد البوسكلاوي دليل الأعراض بين يحيى النحويّ والمتكلّمين؛ وفي محور الأصول واللغة قارب يحي رمضان الاستدلال اللغوي عند الأصوليّين مقاربة تداولية، كما كشف عبد الرحيم بودلال عن طبيعة الاستدلال النحويّ؛ وفي محور الفلسفة اعتنت جلّ المداخلات بابن رشد بشكل مباشر أو غير مباشر.
عمد توفيق فائزي إلى مقارنة الفلسفة بين النموذج البرهانيّ والنموذج الخطابيّ، في حينتتبّع فؤاد بن أحمد مسار تطوّر نظرية المثال عند ابن رشد، وتوقّف محمد مساعد عند ابن رشد والبيان على جهة الاستظهار، بينما تعرّض امحمد أيت حمّو لموضوع استخدام ابن رشد لقياس الغائب على الشاهد والجدل رغم نقده لهما، ومن جهته رصد محمّد أبلاغ تطوّر آليات الاستدلال في المغرب من ابن رشد إلى ابن البنّا المراكشي، وأخيرا حاول عبد الجبّار أبوبكر الوقوف على دلالة الازدواجية الآليّة في الثلاثيّة الرشديّة.