مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات وأبحاث

شواهد من مقامات الحريري في كتب البلاغة

كتبته: فرح الشويخ الباحثة بمركز ابن أبي الربيع السبتي
الحلقة 1
تمهيد
  ظهر في  الأدب العربي خلال القرن الرابع الهجري فن أدبي نثري جديد هو فن المقامات، وقد تولد هذا الفن من رحم السجع الذي تطور وذاع صيته كثيرا في القرن الثالث الهجري، وإذا ما عدنا إلى المعنى اللغوي لكلمة – مقامة – في العصر الجاهلي نجدها تستعمل بمعنيين؛ فتارة تستعمل بمعنى مجلس القبيلة أو ناديها، وتارة تستعمل بمعنى الجماعة التي يضمها هذا المجلس أو النادي؛ فالكلمة تستعمل بمعنى المجلس أو من يكونون فيه، ونجدها في العصر الإسلامي تستعمل بمعنى المجلس يقوم فيه شخص بين يدي خليفة أو غيره يتحدث واعظا ثم نتقدم أكثر فنجدها تستعمل بمعنى المحاضرة(1).
أما المقامة بمعناها الاصطلاحي فهي: حكاية خيالية تقال في مقام معين، وتشتمل على حادث لشخص يطلب الاستجداء والرزق مستخدما حيله الماكرة والخادعة، ويرى شوقي ضيف أن بديع الزمان الهمذاني هو أول من أعطى كلمة مقامة معناها الاصطلاحي بين الأدباء؛ إذ عبر بها عن مقاماته المعروفة وهي جميعها تصور أحاديث تلقى في جماعات، فكلمة مقامة عنده قريبة المعنى من كلمة حديث.

الحلقة 1

تمهيد 

ظهر في  الأدب العربي خلال القرن الرابع الهجري فن أدبي نثري جديد هو فن المقامات، وقد تولد هذا الفن من رحم السجع الذي تطور وذاع صيته كثيرا في القرن الثالث الهجري، وإذا ما عدنا إلى المعنى اللغوي لكلمة – مقامة – في العصر الجاهلي نجدها تستعمل بمعنيين؛ فتارة تستعمل بمعنى مجلس القبيلة أو ناديها، وتارة تستعمل بمعنى الجماعة التي يضمها هذا المجلس أو النادي؛ فالكلمة تستعمل بمعنى المجلس أو من يكونون فيه، ونجدها في العصر الإسلامي تستعمل بمعنى المجلس يقوم فيه شخص بين يدي خليفة أو غيره يتحدث واعظا ثم نتقدم أكثر فنجدها تستعمل بمعنى المحاضرة(1).

 أما المقامة بمعناها الاصطلاحي فهي: حكاية خيالية تقال في مقام معين، وتشتمل على حادث لشخص يطلب الاستجداء والرزق مستخدما حيله الماكرة والخادعة، ويرى شوقي ضيف أن بديع الزمان الهمذاني هو أول من أعطى كلمة مقامة معناها الاصطلاحي بين الأدباء؛ إذ عبر بها عن مقاماته المعروفة وهي جميعها تصور أحاديث تلقى في جماعات، فكلمة مقامة عنده قريبة المعنى من كلمة حديث.

وتحتوي المقامات على الكثير من درر اللغة وفرائد الأدب والحكم والأمثال، والأشعار النادرة التي تدل على سعة اطلاع وغزارة مادة وطول باع وعلو مقام في عالم الأدب (2)، وغالبا ما تنتهي هذه المقامة بضروب من الموعظة أو الفكاهة التي تنشأ من تعرف الراوي على البطل واكتشافه وقوعه ضحية لحيل البطل وخدعه الماكرة.

وتتميز المقامة عن غيرها من الفنون الأدبية النثرية بأسلوبها الأدبي البليغ والمتميز، القائم على الحلية اللفظية المرصفة بالسجع والمزخرفة بكافة أنواع البديع، والمبنية على بلاغتي الشعر والنثر معا، ما يؤكد انتصار كتاب المقامات لبلاغة عامة لا تميز بين الشعر والنثر.

إن المقامات عبارة عن نمط تعليمي بديعي أنشأه أصحابه لكي يتعلم منه شداة الأدب طريقة الكتابة البديعية فصاغوه قصصا جعلوا موضوعها الكدية، ووصفوا فيها أحوالا اجتماعية، وجمعوا فيها آراء نقدية؛ فكانت على جانب عظيم في البلاغة(3).

وإذا كان فضل السبق والابتكار يعود لبديع الزمان الهمذاني، فإن الحريري قد سلك سبيله في هذا المضمار وولج الباب الواسع الذي فتحه البديع وتخصص في فن المقامات غاية التخصص، واكتسبت مقاماته شهرة علمية وأدبية واسعة، حتى إنه يقال إن الحريري وقع وكتب بخطه سبعمائة نسخة(4)، الأمر الذي يدل على ما تمتعت به المقامات من شهرة أدبية واسعة في حياته وحتى بعد مماته، حتى قال الزمخشري:

      أقــــسـم بالله وآياتـه            ومشعر الحج وميقاتــــه

      أن الحريري حري بأن             نـكتب بالتبر مقامـــــاته(5)

وذلك لقيمتها الفنية وأهميتها العلمية، ونجد الشريشي يقول في فضله وسعة علمه وأهمية مقاماته: «وكان آخر البلغاء وخاتمة الأدباء، أولهم بالاستحقاق، وأولاهم بسمة السباق، والفذ الذي عقمت عن توءمه فتية العراق، وفارس ميدان البراعة، ومالك زمام القرطاس واليراعة، والملبي عند استدعاء درر الفِقَرِ بالسمع والطاعة، أبو محمد القاسم بن علي الحريري – سقى الله ثراه صوب رحماه، وكافأ إحسانه في الثناء عليه بحسناه – فبسط لسان الإحسان، ومد أفنان الافتنان، ومهد جادة الإجادة، وقوى مادة الإفادة، ولم يبق في البلاغة متعقبا، ولا للريادة مترقبا، لا سيما في المقامات التي ابتدعها، والحكايات التي نوعها وفرعها، والملح التي وشحها بدرر الفِقَرِ ورصعها؛ فإنه بَرَّزَ فيها سابقا، وبَزَّ البلغاء فائقا، وأتى بالمعنى الدقيق للفظ الرقيق مطابقا، وخلدها تاجا على هامة الأدب، وتِقْصَارا في جِيدِ لغة العرب، وروضة تحوم أنفاس الهمم عليها، ولا تصل أيدي المطامع إليها»(6).

حظيت مقامات الحريري بكثير من العناية والاهتمام بحيث انكب عليها عدد كبير من الشراح أحصى منهم حاجي خليفة صاحب «كشف الظنون» أكثر من خمسة وثلاثين شرحا، ولعل أول من قام بشرحها واشتهر بذلك ابنه محمد، وتوالت بعده العديد من الشروح أبرزها شرح الشريشي(619هـ)، وتعود كثرة الشروح كما يقول محقق شرح الشريشي إلى ما زخرت به من الألفاظ والأمثال والأحاجي والألغاز والنكت النحوية والبلاغية مما جعلها ميدانا رحبا للشرح والتفسير والاستطراد(7).

يرى شوقي ضيف أن الأسلوب هو غاية الحريري من مقاماته(8) أو بصيغة أخرى الشكل الخارجي لمقاماته، ولما كان السجع سمة الأدب في عصره وصفته شعرا ونثرا كان لزاما عليه اتباعه كي ينال استحسان معاصريه وقبولهم، ويعلق شوقي ضيف على أسلوب الحريري بقوله: «وخضع الحريري في سجعه لألوان البديع، وللجناس خاصة، ولكنه لم يثقل عنده، فقد كان يعرف كيف يسر النفس، ويشرح الصدر، وكان لديه من الإحساس بألفاظ اللغة ما جعله ينفي عن عمله كل غضاضة وكل ضيق، فما تقرؤه  حتى تشعر أنك ارتبطت به، وأنه عقد بينه وبينك رابطة مودة، لا لسبب إلا لأنه يعرف كيف يختار ألفاظه، وكيف ينتخبها، بحيث تلتئم مجموعاتها على نحو ما تلتئم الأنغام الصادرة من آلات موسيقية مختلفة»(9).

وكان هذا الأسلوب وهذه الصياغة البلاغية المتميزة مما حمل البلاغيين على الاستشهاد بدرر مقامات الحريري شعرا ونثرا في أشهر كتب البلاغة التي جاءت بعده، وخاصة في أبواب البديع الذي أولاه الحريري أهمية قصوى، فضلا عن بعض أبواب البيان، بحيث أصبحت المقامات على مر العصور كالمعين يستخرج منه البلغاء شواهدهم على قدر تأملهم وذكائهم واجتهادهم.

منهجي في العمل:

  آثرت من خلال عرضي لشواهد الحريري في مقاماته جرد هذه الشواهد المبثوثة في كتب البلاغة، ثم وصفها وتصنيفها تبعا للباب الذي تندرج ضمنه في أبواب البلاغة، وكذلك بيان وجه الاستشهاد فيها، ثم تَعَقُّبُ مرور هذه الشواهد في كتب البلاغة التي جاءت بعد الحريري، بدءا بأقدمها ممثلة بـ«سر الفصاحة» لابن سنان الخفاجي(466هـ)، إلى جانب “المثل السائر” لابن الأثير(673هـ)، و«المصباح» لبدر الدين بن مالك الدمشقي الشهير بابن الناظم(686هـ)، مرورا بـ “التلخيص” و “الإيضاح” وكلاهما للقزويني(739هـ)، ثم «مفتاح تلخيص المفتاح» للعلامة شمس الدين محمد بن مظفر الخطيبي الخلخالي(745هـ)، وكذلك كتاب «الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز» للإمام يحيى بن حمزة العلوي اليماني(745هـ)،  ثم بعض من شروح التلخيص كـ«عروس الأفراح»، لبهاء الدين السبكي(773هـ)، و«المطول» للتفتازاني(792هـ)، و«الأطول» لابن عربشاه(943هـ)، و«بغية الإيضاح» لعبد المتعالى الصعيدي (1391هـ)، ثم كتاب «خزانة الأدب وغاية الأرب» لابن حجة الحموي، وانتهاء بنظم التلخيص للسيوطي (911هـ) الموسوم بـــ«عقود الجمان» بشرحيه للناظم، وللعلامة أبي الوجاهة عبد الرحمن بن عيسى المعروف بالمرشدي(1037هـ) ، وثم كتاب «معاهد التنصيص» للعباسي(963هـ).

وقد حرصنا عند عرض شواهد الحريري في كتب البلاغة على وضع كل شاهد في باب معين من أبواب البلاغة يندرج ضمنه، ثم التعريف بعد ذلك بالمصطلح البلاغي الذي اندرج تحته هذا الشاهد، ثم عرض هذا الأخير مرفوقا بتعليقات البلاغيين عليه، وما إلى ذلك من الإضافات والملاحظات، وهذه الشواهد هي:

أولا:

العكس والتبديل: وهو أن يقدم في الكلام جزء ثم يؤخر، ويقع على وجوه منها أن يقع بين أحد طرفي جملة وما أضيف إليها، ومنها أن يقع بين متعلقي فعلين في جملتين(10)، ومنه قول الحريري في المقامة الدمشقية (ص:119):” فأجِدّوا سعْدي، وأسْعِدوا جِدّي”، هكذا في  مقامات الحريري بشرح الشريشي (11) والذي في «التنبيهات» لابن عميرة المخزومي ” فأسعدوا جدي وأجدوا سعدي”، وقد جعله من جنس ما يقع في التركيب من تشاكل الألفاظ (12) ، وعلى اختلاف الروايتين والعبارتين يظل الشاهد قائما، إلا أن القزويني في إيضاحه اقتصر على شواهد من القرآن الكريم ومن الشعر ولم يذكر شاهد الحريري على الرغم من أنه يدخل في باب من أبواب البديع الذي خص الحريري مقاماته بكثير من ضروبه وأنواعه.

ثانيا:

التلميح: وهو أن يشار إلى قصة أو شعر من غير ذكره(13) وشاهده من مقامات الحريري قوله في المقامة الكرجية (ص:251-252):” وإني واللهِ لَطالَما تلقّيتُ الشّتاءَ بكافاتِهِ، وأعدَدْتُ الأُهَبَ لهُ قبل مُوافاتِهِ “، هكذا في المقامات، وذكره القزويني في الإيضاح كالتالي: “وأعددت له الأهب” وعلق عليه بقوله” أشار إلى قول ابن سكرة:

جاء الشتاء وعندي من حوائجه          سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا

كن وكيس وكانون وكأس طلا           بعد الكباب وكس ناعم وكســـا”(14)

ومن شواهد الحريري أيضا في كتب البلاغة مما يتعلق بالتلميح ما ذكره القزويني أخذا  عن المقامة الوبرية(ص:276):” فبِتُّ بلَيلَةٍ نابِغيّةٍ. وأحْزانٍ يَعقوبيّةٍ “، وقد علق عليه القزويني بقوله:” أومأ به إلى قول النابغة :

فبت كأني ساورتني ضئيلة              من الرقش في أنيابها السم ناقع”(15)

وكذلك استشهد به التفتازاني في معرض حديثه عن أقسام التلميح حيث قال: “وأما في النثر فالتلميح إلى القصة وإلى الشعر كقول الحريري:” فبِتُّ بلَيلَةٍ نابِغيّةٍ. وأحْزانٍ يَعقوبيّةٍ “أشار إلى قول النابغة (البيت)، وإلى قصة يعقوب – عليه الصلاة والسلام-)(16).وأورد الشاهدين معا ابن حجة الحموي في باب ذكر التشبيه بالتلميح وأشار إلى تلميحه إلى بيت النابغة في الشاهد الثاني(17).

ومن الملاحظ أن مقامات الحريري تحفل بهذا الضرب المسمى بالتلميح وخاصة تلميحه إلى الأمثال العربية التي عرفت بتضمينها لكثير من القصص، ومن ذلك قوله في المقامة الوبرية أيضا (ص:277):”فَأَلْحَقَ بِالقَارِظَيْنِ، فَأَصِيرَ أَثَراً بَعْدَ عَيْن”، فقوله القارظين تلميح إلى الرجلين اللذين يضرب بهما المثل فيمن لم يرجع من ذهابه.[ مجمع الأمثال، 2/212].

ثالثا:

الفصاحة في الكلام: وهي خلوصه من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات والتعقيد مع فصاحتها (18)، وقد جاء شاهد الحريري في كتب البلاغة منافيا لهذا المبدأ حيث أوردت كتب البلاغة هذا الشاهد للدلالة على المعاظلة وتنافر الكلمات، وانعدام الفصاحة التي تتحقق بالبيان والسلاسة في التعبير شكلا ومضمونا، ويتمثل هذا الشاهد في قوله في المقامة التفليسية (ص:355):

وازْوَرّ مَنْ كانَ لهُ زائِراً                    وعافَ عافي العُرْفِ عِرْفانَهُ

استشهد ببيت الحريري ابن الأثير في سياق حديثه عن المعاظلة اللفظية التي تختص بتكرير الحروف حيث قال: ” ورد قول الحريري في مقاماته

وازْوَرّ مَنْ كانَ لهُ زائِراً                  وعافَ عافي العُرْفِ عِرْفانَهُ 

فقوله: ( وعاف عافي العرف عرفانه ) من التكرير المشار إليه “(19)، كما ذكره السبكي في «عروس الأفراح» في سياق حديثه عن التكرار وجعله من التكرار القبيح(20)، واستشهد به الصعيدي أيضا في باب تنافر الكلمات(21).

ويمكن أن نرجع هذا التنافر وهذه المعاظلة اللفظية في كلام الحريري إلى أن هذا الأخير كان يريد أن يظهر مقدرته البديعية وخاصة فيما يتعلق بالجناس، مما أسقطه في الاعتماد على الكلمات المتقاربة المخارج والمتناهية في الثقل على اللسان فيعسر النطق بها. بل أيضا تكرير الحروف والكلمات بأكملها مما ينبو عنه الذوق الأدبي السليم، ومما جعل شواهده تدخل في باب التكرار القبيح المردود عند البلغاء.

رابعا:

الطباق: وهو الجمع بين المتضادين أي معنيين متقابلين في الجملة ويكون ذلك إما بلفظين من نوع واحد اسمين كقوله تعالى في سورة الكهف (الآية:18) { وَتَحْسِبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } أو فعلين كقوله تعالى في سورة آل عمران(الآية:26) { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ } (22)، وشاهده من مقامات الحريري قوله في المقامة البغدادية (ص:129):

” فمُذْ اغْبرّ العيشُ الأخضَرُ، وازْوَرّ المحْبوبُ الأصفَرُ، اسوَدّ يوْمي الأبيضُ، وابيَضّ فَوْدي الأسوَدُ حتى رثَى ليَ العدوّ الأزرَقُ، فحبّذا الموتُ الأحمَرُ”.

وممن استشهد به القزوينيُّ في «الإيضاح» مع اختلاف في ترتيب الجمل، وذكر الشاهد في سياق حديثه عن الفن الثالث من فنون البديع الذي يعرف بوجوه تحسين الكلام وهو الطباق؛ حيث عرضه إلى جانب شواهد أخرى من القرآن الكريم ومن الشعر(23)، وبين أن هناك من سمى هذا النوع من الطباق تدبيجا للتورية.

 ومما تجدر الإشارة إليه أن السبكي ذكر هذا الشاهد في سياق حديثه عن الطباق، كما أفاد من قول القزويني وجعله أيضا من تدبيج التورية؛ وهو أن يذكر المتكلم في معنى من المدح أو غيره ألوانا لقصد الكناية أو التورية، ثم مثل لهذه الأخيرة بقول الحريري وعلق عليه بقوله:” فقول: المحبوب الأصفر تورية عن الذهب، وإنما كان تورية لأن المحبوب الأصفر معناه القريب” الإنسان” والبعيد” الذهب”، ولا شك في كون الأصفر هنا مرادا به الذهب، ومن عادة الحريري استعمال ذلك فيه كقوله (المقامة الدينارية ص:34) :

 أكْرِمْ بهِ أصفَرَ راقَتْ صُفرَتُهْ

وقوله (ص: 36):

 أصْفَرَ ذي وجْهَيْنِ كالمُنافِقِ

ولمنازع أن ينازع في أن ذلك تورية، ويمنع تبادر الذهن من المحبوب الأصفر إلى الإنسان، وقد يعترض على المصنف في قوله:” ألوان”، وليس في البيت السابق إلا لونان، وليست التورية في كلام الحريري إلا في واحد منها، وجوابه عن الثاني أن المراد أن يُذكَر ألوان تقع التورية في بعضها وعنه وعن الأول أنه أراد جنس الألوان لا حقيقة الجمع ” (24) والملاحظ أن السبكي لم يكتف بنقله عن القزويني فقط بل شرحه شرحا مفصلا وبين وجه الشاهد فيه والعلة في جعله من باب الطباق المسمى تدبيجا للتورية.

وقد استشهد به أيضا ابن حجة الحموي في باب ذكر التدبيج على طريق التورية(25)، ومن المحدثين الصعيدي في «بغية الإيضاح» وشرح معناه وبَيَّنَ أنه من باب الطباق المسمى تدبيجا للتورية(26)؛ لأن لكلامه معنى قريبا غير مراد ومعنى بعيدا هو المراد وهو الظاهر في الشاهد أعلاه.

ويبدو أن قصد الحريري بالأصفر الدينار أو الذهب، وبالأخضر الناعم، وكذلك الكناية عن المعيشة الطيبة، وأراد بالعدو الأزرق الروم فهم أعداء العرب، كما أراد بالموت الأحمر القتل.

خامسا:

الجناس: تحفل مقامات الحريري بكافة أنواع الجناس المتعارف عليها في كتب البلاغة قديمها وحديثها، والتي أكثر منها الحريري في مقاماته، بل قد تكون أحيانا الغرض الأساس من وراء بعض المقامات، كالمقامة الحلبية مثلا؛ وذلك بغية إظهار براعة كاتب المقامات في مثل هذا النوع من المحسنات البديعية التي يتوق إليها الحريري ويتحين الفرص لإظهارها، بل قد يكون باب الجناس من أكثر الأبواب التي استشهد بها البلغاء من كلام الحريري في مقاماته شعرا ونثرا، ومن هذه الأنواع جناس التركيب وهو أن يكون أحد لفظي الجناس تاما والآخر مركبا، وشاهده من مقامات الحريري قوله في المقامة الرازية (ص:209):

  ولا تلهُ عن تَذكارِ ذنبِكَ وابكِهِ          بدمعٍ يُضاهي المُزْنَ حالَ مَصابِهِ

ومثّلْ لعينَيْكَ الحِمامَ ووقْعَـــهُ             وروْعَةَ مَلْقاهُ ومطْعَمَ صـــابِــهِ

استشهد به ابن الناظم في «المصباح» في باب التجنيس المركب واكتفى به،  وجعله من المرفو حيث قال:” المرفو قسمان: أحدهما ما رفي إحدى كلمتيه ببعض الأخرى كقول الحريري:

ولا تله عن تذكار ذنبك وابكه                      بدمع يحاكي الوبل حال مصابه 

  ومثل لعينيك الحمام ووقعــه                      وروعة ملقاه ومطعم صـابه”(27)

ذكره القزويني في «الإيضاح» وجعله من شواهد جناس التركيب حيث قال:”  إن كان المركب منهما مركبا من كلمة وبعض كلمة سمي مرفوا كقول الحريري ثم ذكر البيتين”(28).

وذكره بعد ذلك السبكي في «عروس الأفراح» بعد عرضه لكلام القزويني؛ وعلق على الشاهد  بقوله: “يعنى أنض المصاب في الأول مفرد، والثاني مركب من «صاب»، و«ميم» مطعم، ولا نظر إلى الضمير المضاف إليه فيهما، فالأول مفرد، والثاني مركب من كلمة وبعض أخرى”(29)

وممن استشهد به ابن عربشاه في «الأطول» وجعله أيضا من الجناس المرفو(30)، وعلق عليه الصعيدي وذكر موضع الشاهد فيه وهو (مصابه ومطعم صابه)(31).

ومن شواهد الجناس أيضا في مقامات الحريري والتي أوردتها كتب البلاغة قوله في المقامة الحلبية(ص:501):

والمكْرُ مهْما استطَعْتَ لا تــأتِهِ                      لتَقْتَني السّؤدَدَ والمَكرُمَــــهْ

وقد أورد هذا الشاهد ابن حجة الحموي إلى جانب الشاهد الأول وجعله من أنواع الجناس المركب وسماه أيضا مرفوا، وعرفه بأن يكون أحد الركنيين جزءا مستقلا والآخر مجزءا من كلمة أخرى، وعلق على الشاهدين معا بقوله:” وهذا النوع لا يخلو من تعسف وعقادة في التركيب”(32)، كما أورده المرشدي في «شرح عقود الجمان»، وجعله من الجناس التام المركب المفروق المرفو(33).

ومن شواهد الجناس أيضا والتي أوردها ابن حجة الحموي في «خزانة الأدب» قول الحريري في المقامة الحلبية (ص:499) أيضا:” زُيّنتْ زينَبٌ بقَدٍّ يقُدُّ ” وجعله الحموي من الجناس الذي اجتمع فيه التصحيف والتحريف(34). ويبدو من كلام الحموي أنه يذم هذا النوع من المحسنات التي تشهد على شدة تكلف الكاتب  من أجل إظهارها؛ لأنها لا تأتي عفو الخاطر بل تأتي عن مشقة وطلب وتكلف.

 تعتبر المقامات بالنسبة للبلاغيين مجالا خصبا لاستقاء شواهد الجناس على اختلاف أنواعه ومن شواهده في مقامات الحريري ما ذكره القزويني في «الإيضاح» وهو قوله في المقامة المغربية (ص:163):” وبَيْني وبينَ كِنّي ليلٌ دامِسٌ. وطريقٌ طامِسٌ”، وجعله القزويني من الجناس المضارع لتقارب حرفيه المختلفين(35).

كما استشهد به السبكي في باب الجناس الناقص حيث قال:” ثم الحرفان اللذان وقع الاختلاف بهما، إن كانا متقاربين سمي الجناس مضارعا، وهو أي اختلاف الحرفين بالنوع إما في الأول، كقول الحريري: بيني وبين كنى ليل دامس وطريق طامس فالاختلاف بالطاء والدال، وهما حرفان متقاربان، كلاهما من الحروف الشديدة”(36)، ونجد السبكي يذكر العلة في الشاهد أعلاه وهو تقارب الحرفين المختلفين الطاء والدال، ودخولَ الشاهد في باب الجناس الناقص.

وجعل العباسي أبيات الحريري (المقامة الكرجية ص:254):

                  للهِ من ألبَسَني فَـروةً                           أضحتْ من الرِّعدَةِ لي جُنّــهْ

ألبَسنِيها واقِياً مُهجَتــي                           وُقّيَ شرَّ الإنْسِ والجِنّـــهْ

سيَكتَسي اليومَ ثَنائي وفي                             غدٍ سيُكسى سُندُسَ الجَنّـهْ

من شواهد الجناس المحرف.

ومن شواهد الجناس في مقامات الحريري والتي ذكرها ابن عربشاه في الأطول(37) قول الحريري في المقامة الشتوية (ص:475):

    وذا ذِمامٍ وفَتْ بالعَهْدِ ذمّتُهُ                        ولا ذِمامَ لهُ في مذهَبِ العرَبِ

وقد استشهد به ابن عربشاه  في باب الجناس المتماثل، وعلق عليه بقوله:” مع أن الذمام الأول مفرد بمعنى العهد والثاني جمع ذمة بالفتح وهي البئر القليلة الماء” (38)، وذكر هذا الشاهد أيضا المرشدي في “شرح عقود الجمان” وعلق عليه أيضا(39).

وأضاف القزويني شاهدا آخر في باب الجناس وهو قول الحريري في المقامة الدمياطية (ص:42): ” ولا أُعطي زِمامي، مَنْ يُخْفِرُ ذِمامي” وجعله من الجناس اللاحق(40) لأن حرفيه المختلفين غير متقاربين، وقد وقع في أول الكلمتين (زمامي/ذمامي).

ـــــــــــــ

الهوامش: 

*الحريري: هو أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري الحرامي، وكانت ولادته في سنة ست وأربعين وأربعمائة ببلد قريب من البصرة يسمى المشان. قرأ الأدب على أبي القاسم الفضل بن محمد القصباني البصري بها، وكان غاية في الذكاء والفطنة والفصاحة والبلاغة،  ويحكى أنه كان دميما قبيح المنظر، عين صاحب الخبرة بالبصرة وظل بهذا المنصب حتى وفاته. وللحريري تصانيف حسان تشهد بفضله وتقر بنبله، ومنها:« درة الغواص في أوهام الخواص»، ومنها «ملحة الإعراب» وهي عبارة عن منظومة في النحو، وكتاب «المقامات» وكذلك له شعر كثير غير شعره الذي في المقامات، توفي سنة ست عشرة، وقيل خمس عشرة وخمسمائة بالبصرة.[معجم الأدباء، 5/2202-2216]، [وفيات الأعيان، 4/63-68].

1 – المقامة شوقي ضيف ص:7.

2 – مقدمة تحقيق شرح مقامات الحريري للشريشي لإبراهيم شمس الدين ص:3.

3- دراسات أدبية وإسلامية ص:128.

4- معجم الأدباء(إرشاد الأريب)،5/2205.

5- المقامة شوقي ضيف، ص:77.

6- شرح مقامات الحريري للشريشي 1/8.

7- مقدمة تحقيق شرح مقامات الحريري، ص:4.

8- المقامة شوقي ضيف ص:65.

9-المصدر نفسه ص:66.

10- الإيضاح للقزويني ص:299.

11- شرح مقامات الحريري للشريشي 1/339.

12- التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات ص:110.

13-الإيضاح ص:358.

14- المصدر نفسه ص:359.

15- المصدر نفسه ص: 359-360.

16-المطول ص:732.

17-خزانة الأدب وغاية الأرب1/408.

18- الإيضاح ص:14.

19-المثل السائر 1/289.

20-عروس الأفراح1/77.

21-بغية الإيضاح 1/18.

22- الإيضاح ص:288.

23- المصدر نفسه ص:291.

24- عروس الأفراح2/230.

25- خزانة الأدب وغاية الأرب2/453.

26- بغية الإيضاح4/578.

27-المصباح ص:206-207.

28- الإيضاح ص:324.

29- عروس الأفراح2/285.

30-الأطول2/457.

31-بغية الإيضاح 4/241-242.

32- خزانة الأدب وغاية الأرب1/60.

33- شرح عقود الجمان للمرشدي، ص:162.

34-  خزانة الأدب وغاية الأرب، 1/86.

35- الإيضاح ص:326.

36- عروس الأفراح2/289.

37- الأطول2/454.

38-المصدر نفسه.

39- شرح عقود الجمان للمرشدي، ص:161.

40- الإيضاح ص:326.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق