مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةشذور

شرح قصيدة الدعاء الناصري

شرح قصيدة الدعاء الناصري ، د. محمد الحافظ الروسي
يا من إلى رحمته المفـر /// ومن إليه يلجأ المضطر
الفرار إلى رحمة الله يكون من سخطه.وقد ذكروا أنه يكون أيضا من النفس، جهلها، وهواها، وشكها، وغفلتها، ومن الشيطان، ومن ظلم الناس. وهذه جميعا عند التحقيق تؤول إلى الأولى. لأن العبد إذا رضي عنه الله تعالى لم يضره شيء.قال تعالى:{قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم}.
ومما قيل في تفسير قوله تعالى، على لسان إبراهيم عليه السلام:{وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين}الصافات.99.أنه ذهب بعمله وعبادته، وقلبه ونيته. فكان ذهابه بالعمل لا بالبدن.غير أنه عبر هنا بالذهاب لا بالفرار، لأن الفرار أنسب بمن هو في مقام من يطلب التربية العامة، والذهاب إلى الله أنسب بمقام من يطلب التربية الخاصة. وقد كان إبراهيم عليه السلام في مقام النبوة. ولذلك استعمل من أسماء الله الحسنى اسم الرب. إذللرب معنى خاص هو: تربيته لأصفيائه، بإصلاح قلوبهم، وأرواحهم، وأخلاقهم. ولهذا أكثر دعائهم له بهذا الاسم الجليل؛ لأنهم يطلبون منه التربية الخاصة.وله معنى عام متعلق بجميع عباده، إذهو المربي لهم بالتدبير، وأصناف النعم.
ولك أن تقول إن الذهاب إلى الله تعالى فيه معنى الطمأنينة، والسكينة، والبشرى. وهو فرار خاصة الخاصة. والفرار من الشيطان أو النفس أو سائر المخلوقات إلى الله سبحانه فيه معنى الحماية واللياذ والأمن.وهو فرار المؤمنين. والفرار منه إليه فيه معنى المعرفة والخشية. وهوفرار الخاصة. وهو فرار مما سوى الله إلى الله.
وبيان ذلك أن الطمأنينة تحصل بالشهود. وهو الذي طلبه إبراهيم عليه السلام في قوله:{رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تومن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي}. البقرة. 260. والسكينة تحصل بتجاوز الظواهر والرسوم إلى الحقائق والأذواق والواردات. فيخشع السر للعرفان، بجمعه بين الرسم والسر، والمقصود والصورة. والبشرى تحصل بالرسوخ في العلم بالله وأمره، وبالنفس وصفاتها وأحوالها. فلا يكون فرح إلا بالله، ولا استغناء إلا به، ولا خوف إلا من سقوط العبد من عين الله، واحتجاب الله عنه. فكله بالله، ولله، ومع الله، وسيره دائما إليه.
وأما الحماية واللياذ والأمن فيشعر بكلها من غلب عليه الخوف ممن سوى الله تعالى، ثم فزع إليه سبحانه. غير أن أهل الإيمان يثبتون عليها، وأهل الكفر إذا أمنوا نكصوا على أعقابهم. قال الله تعالى:{قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَيتنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ *قُلِ اللَّهُ يُنْجِيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُون}الأنعام: 63، 64.وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمُ إِلَى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الاِنسَانُ كَفُوراً}الإسراء: 67، وقال سبحانه:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمُ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}العنكبوت: 65، وقال عز من قائل:{وَإِذَا مَسَّ الاِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً اَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}يونس: 12.
وأما المعرفة فهي سبب في الخشية. وعلامة الخشية الدمعة. وعلامة الغفلة كثرة الضحك، وقسوة القلب، وجمود الدمع. وقد دل صلى الله عليه وسلم على أن العلم والمعرفة سبب في الخشية، وأن الخشية علامتها البكاء، في قوله عليه السلام:”عُرضت عليَّ الجنة والنار فلم أر كاليوم من الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً”.
والخشية واحدة، وأسبابها عدة، وقدْرها مختلف. لذلك تجد البكاء عند النبي فمن دونه، ولكن الأسباب مختلفة بقدر تفاوت المعرفة بين العارفين. فقد بكى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبكى الأنبياء، والصالحون. فمن البكاء شكرا ما ورد في الصحيحين عَن ابن مَسعودٍ – رضي اللَّه عنه – قالَ : قال لي النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : ” اقْرَأْ علَّي القُرآنَ ” قلتُ : يا رسُولَ اللَّه، أَقْرَأُ عَلَيْكَ ، وَعَلَيْكَ أُنزِلَ ؟، قالَ : ” إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي” فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية: { فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيداً } النساء / 40  قال ” حَسْبُكَ الآن ” فَالْتَفَتُّ إِليْهِ ، فَإِذَا عيْناهُ تَذْرِفانِ .ومن البكاء تذكرا، وفهما، وانقيادا، وطاعة، بكاء من سمع آيات الله تتلى عليه. قال تعالى:{ أولئكالذين أنعم الله عليهم من النبيينمن ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هديناواجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً }مريم / 58 .ومن البكاء صدقا وتذكرا، بكاء من ذكر الله خاليا. وفي ذلك يقول رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم:” سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّه تَعالى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّق بالمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه، اجتَمَعا عَلَيهِ وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجَلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمالٍ، فَقَالَ: إِنّي أَخافُ اللَّه، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفاها حتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمالهُ ما تُنْفِقُ يَمِينهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاه”.
وأما الفرار إلى الله مطلقا فيحصل بمجرد ترك الشرك إلى الإيمان، لقوله تعالى:{فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌوَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِإِلَـٰهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}. قال الشيخ ابن عاشور في تفسير هذه الآية:”..والأنسب بالسياق أن الفرار إلى الله مستعار للإِقلاع عن ما هم فيه من الإِشْراك وجحود البعث استعارة تمثيلية بتشبيه حال تورطهم في الضلالة بحال من هو في مكان مخوف يدعو حاله أن يفرّ منه إلى من يجيره، وتشبيه حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال نذير قوم بأن ديارهم عرضة لغزو العدوّ فاستعمل المركَّب وهو { فروا إلى الله } في هذا التمثيل.فالمواجه بــــ { فرّوا إلى الله } المشركون لأن المؤمنين قد فرّوا إلى الله من الشرك.
قال عبد الرحمن السعدي:”وسمى الله الرجوع إليه فرارًا: لأن في الرجوع لغيره أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب والأمن والسعادة والفوز، فيفر العبد من قضائه وقدره إلى قضائه وقدره، وكل من خفت منه فررت منه، إلا الله تعالى؛ فإنه بحسب الخوف منه، يكون الفرار إليه”.
والفرار من الله إلى الله يكون من صفات الجلال ومعانيها إلى صفات الجمال ومعانيها. ومما يدل على ذلك حديث عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ{ : اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَاأُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنــْـتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ}.
والرحمة من صفات الجمال، لذلك قال الناظم: يا من إلى رحمته المفر. وصفات الجمال أسبق وأظهر، لذلك استعاذ صلى الله عليه وسلم بها، وقدمها في الكلام فلم يقل: أعوذ من سخطك برضاك، ومن عقوبتك بمعافاتك. ولكنه قال: أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ. فكان حقها التقديم من الناظم أيضا، إذ جعلها مطلع قصيدته، وأول كلامه.
ثم إن عين المعرفة مشاهدة الحق، والغيبة عن الخلق، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم:{ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ..}ففيه قطع الالتفات إلى ما سوى الله عز وجل، وإفراده بالاستعانة والاستغاثة وتمام العبودية. وهذا ما جرى عليه الناظم في قوله: ومن إليه يلجأ المضطر. فتناسبُ الشطرين هنا من هذا الوجه، كتناسب أجزاء الحديث الذي ذكرناه.وقدم الجار والمجرور على فعلهما ليدل على أن لجوء المضطر لا يكون لسوى الله عز وجل، لتفرده بالقوة والنفع والرحمة.إذ من سوى الله تعالى لا يملك من ذلك شيئا على الحقيقة.وذلك كتقدمهما في قوله تعالى من سورة الملك:{وعليه توكلنا}. وذلك لأن التوكل لا يكون على من سوى الله عز وجل، لتفرده بالقدرة والعلم الباقيين القديمين.
وهذه هي فائدة توجه الناظم بالدعاء في مطلع قصيدته، فقد كانت غايته إظهار العبودية، والفاقة، ومناجاة المحبوب. قال ابن عطاء الله السكندري، رحمه الله تعالى:”لا يكن طلبك سبباً إلى العطاء منه, فيقل فهمك عنهوليكن طلبك لإظهار العبودية، وقياماً ما بحقوق الربوبية”.
وقد بدأ الشيخ منظومته بذكر الاضطرار، والإشارة إلى الافتقار، لأن ذين هما باب المواهب. قال في الحكم:”ما طَلَبَ لك شيءٌ مثل الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب إليك مثل الذلة والافتقار”.
وجمع في البيت بين الإشارة إلى صفات الجمال بذكر الرحمة، وبين الإشارة إلى صفات الجلال بقوله: ومن إليه يلجأ المضطر. وذلك أن الإشارة إلى الاضطرار والافتقار إشارة إلى تجليه سبحانه باسمه العزيز أو القهار. فإنه من المعروف عند القوم أنهم إذا تجلى لهم بهذين الاسمين وما ناسبهما تلقوه بالذلة والافتقار، كما أشار إلى ذلك الشيخ سيدي أحمد ابن عجيبة في شرحه للحكم العطائية.
والناس في الدعاء إلى خمسة أصناف:
صنف تارك للدعاء بالجملة، وهم أهل العناد.
وصنف يدعو عند الاضطرار والحاجة فقط، وهم المشار إليهم في أكثر من موضع في القرآن الكريم، كقوله تعالى في الإسراء:{وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ كَفُوراً}، وقوله عز وجل في النحل:{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَلِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.وقوله سبحانه في النحل:{أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَٱلأَرْضِأَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}.
وصنف يدعو طلبا لحظ نفسه، وهو الدعاء على الحظ.
وصنف يدعو على مراد الله منه، وهو الدعاء على التجريد.
وصنف يدعو بالحالوالذكر. وهو المشار إليه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:{من شغله ذكري عن مسألتي؛ أعطيته أفضل ما أعطي السائلين}.
ولا يجوز ترك الدعاء بحال، لقوله تعالى في سورة غافر:{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين}.وقوله صلى الله عليه وسلم:{ الدعاء هو العبادة }.وقولهصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من لا يدع الله, يغضب عليه}. وقول عائشة ـ رضي الله عنها: سلوا الله كل شيء، حتى الشسع، فإن الله عز وجل، إن لم ييسره لم يتيسر.
وقد ضمن الله تعالى الإجابة لكل من يتوجه إليه بالدعاء. قال القرطبي، رحمه الله تعالى، في تفسيره:” ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه؛ والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه؛ وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمّة، وُجِدَ من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر؛ كما قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ}[يونس: 22] وقوله: {فَلَمَّا نَجَّاهُمُ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم. وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ}[العنكبوت: 65] فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه”.
ولهذا السبب خص الناظم، رحمه الله تعالى، المضطر بالذكر في قوله: ومن إليه يلجأ المضطر. وذلك لموضع الإخلاص فيه، وعموم وقوعه. إذ من أصناف الدعاء ما لا يكون من كل أحد. ومعنى الالتجاء هنا: التحصن بالله، والاعتضادبه، والاستناد إليه.والمضطر مفتعل من الضر، وأصله: مضترر، فأدغمت الراء، وقلبت التاء طاء لأجل الضاد. فأصل الاضطرار من الضرر، وهو الضيق. وهذا معنى واسع، إذ يشمل كل أمر ينشأ عنه ضيق. واستعمله إشارة إلى أن العبد يحتاج ربه في كل أمر يصيبه بغض النظر عن نوعه وسببه،لمطلق قدرة الله عز وجل، وكون ما يصيب الإنسان من أمور في نفسه، وأهله، وبدنه، وماله،مما لا يمكن حصر تفاصيله وصوره.
وبدأ بالدعاء لعدم جواز تركه، وكونه مخ العبادة، ولأنه مفتاح الفرج، وفيه حلاوة مناجاة المحبوب، واستدامة التذلل له.وهذا من جودة المطلع، وبراعة الاستهلال، وملاءمته لمعاني القصيدة، ومقاصد الدين، وآداب المخاطبة.

يا من إلى رحمته المفـر /// ومن إليه يلجأ المضطر

الفرار إلى رحمة الله يكون من سخطه. وقد ذكروا أنه يكون أيضا من النفس، جهلها، وهواها، وشكها، وغفلتها، ومن الشيطان، ومن ظلم الناس. وهذه جميعا عند التحقيق تؤول إلى الأولى. لأن العبد إذا رضي عنه الله تعالى لم يضره شيء. قال تعالى:{قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم}.

ومما قيل في تفسير قوله تعالى، على لسان إبراهيم عليه السلام:{وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين}الصافات.99. أنه ذهب بعمله وعبادته، وقلبه ونيته. فكان ذهابه بالعمل لا بالبدن. غير أنه عبر هنا بالذهاب لا بالفرار، لأن الفرار أنسب بمن هو في مقام من يطلب التربية العامة، والذهاب إلى الله أنسب بمقام من يطلب التربية الخاصة. وقد كان إبراهيم عليه السلام في مقام النبوة. ولذلك استعمل من أسماء الله الحسنى اسم الرب. إذ للرب معنى خاص هو: تربيته لأصفيائه، بإصلاح قلوبهم، وأرواحهم، وأخلاقهم. ولهذا أكثر دعائهم له بهذا الاسم الجليل؛ لأنهم يطلبون منه التربية الخاصة. وله معنى عام متعلق بجميع عباده، إذ هو المربي لهم بالتدبير، وأصناف النعم.

ولك أن تقول إن الذهاب إلى الله تعالى فيه معنى الطمأنينة، والسكينة، والبشرى. وهو فرار خاصة الخاصة. والفرار من الشيطان أو النفس أو سائر المخلوقات إلى الله سبحانه فيه معنى الحماية واللياذ والأمن. وهو فرار المؤمنين. والفرار منه إليه فيه معنى المعرفة والخشية. وهو فرار الخاصة. وهو فرار مما سوى الله إلى الله.

وبيان ذلك أن الطمأنينة تحصل بالشهود. وهو الذي طلبه إبراهيم عليه السلام في قوله:{رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تومن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي}. البقرة. 260. والسكينة تحصل بتجاوز الظواهر والرسوم إلى الحقائق والأذواق والواردات. فيخشع السر للعرفان، بجمعه بين الرسم والسر، والمقصود والصورة. والبشرى تحصل بالرسوخ في العلم بالله وأمره، وبالنفس وصفاتها وأحوالها. فلا يكون فرح إلا بالله، ولا استغناء إلا به، ولا خوف إلا من سقوط العبد من عين الله، واحتجاب الله عنه. فكله بالله، ولله، ومع الله، وسيره دائما إليه.

وأما الحماية واللياذ والأمن فيشعر بكلها من غلب عليه الخوف ممن سوى الله تعالى، ثم فزع إليه سبحانه. غير أن أهل الإيمان يثبتون عليها، وأهل الكفر إذا أمنوا نكصوا على أعقابهم. قال الله تعالى:{قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَيتنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ *قُلِ اللَّهُ يُنْجِيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ }الأنعام: 63، 64.وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمُ إِلَى البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الاِنسَانُ كَفُوراً [الإسراء: 67، وقال سبحانه:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمُ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }العنكبوت: 65، وقال عز من قائل:{وَإِذَا مَسَّ الاِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً اَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}يونس: 12.

وأما المعرفة فهي سبب في الخشية. وعلامة الخشية الدمعة. وعلامة الغفلة كثرة الضحك، وقسوة القلب، وجمود الدمع. وقد دل صلى الله عليه وسلم على أن العلم والمعرفة سبب في الخشية، وأن الخشية علامتها البكاء، في قوله عليه السلام:”عرضت عليَّ الجنة والنار فلم أر كاليوم من الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً”.

والخشية واحدة، وأسبابها عدة، وقدْرها مختلف. لذلك تجد البكاء عند النبي فمن دونه، ولكن الأسباب مختلفة بقدر تفاوت المعرفة بين العارفين. فقد بكى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبكى الأنبياء، والصالحون. فمن البكاء شكرا ما ورد في الصحيحين عَن ابن مَسعودٍ – رضي اللَّه عنه – قالَ : قال لي النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : ” اقْرَأْ علَّي القُرآنَ ” قلتُ : يا رسُولَ اللَّه، أَقْرَأُ عَلَيْكَ ، وَعَلَيْكَ أُنزِلَ ؟، قالَ : ” إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي” فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية: { فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيداً } النساء / 40  قال ” حَسْبُكَ الآن ” فَالْتَفَتُّ إِليْهِ ، فَإِذَا عيْناهُ تَذْرِفانِ . ومن البكاء تذكرا، وفهما، وانقيادا، وطاعة، بكاء من سمع آيات الله تتلى عليه. قال تعالى:{ أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً }مريم / 58 . ومن البكاء صدقا وتذكرا، بكاء من ذكر الله خاليا. وفي ذلك يقول رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم:” سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ : إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّه تَعالى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّق بالمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه، اجتَمَعا عَلَيهِ وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجَلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمالٍ، فَقَالَ: إِنّي أَخافُ اللَّه، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةَ فأَخْفاها حتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمالهُ ما تُنْفِقُ يَمِينهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاه”.

وأما الفرار إلى الله مطلقا فيحصل بمجرد ترك الشرك إلى الإيمان، لقوله تعالى:{ فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}. قال الشيخ ابن عاشور في تفسير هذه الآية:” ..والأنسب بالسياق أن الفرار إلى الله مستعار للإِقلاع عن ما هم فيه من الإِشْراك وجحود البعث استعارة تمثيلية بتشبيه حال تورطهم في الضلالة بحال من هو في مكان مخوف يدعو حاله أن يفرّ منه إلى من يجيره، وتشبيه حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال نذير قوم بأن ديارهم عرضة لغزو العدوّ فاستعمل المركَّب وهو { فروا إلى الله } في هذا التمثيل. فالمواجه بــــ { فرّوا إلى الله } المشركون لأن المؤمنين قد فرّوا إلى الله من الشرك.

قال عبد الرحمن السعدي:”وسمى الله الرجوع إليه فرارًا: لأن في الرجوع لغيره أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب والأمن والسعادة والفوز، فيفر العبد من قضائه وقدره إلى قضائه وقدره، وكل من خفت منه فررت منه، إلا الله تعالى؛ فإنه بحسب الخوف منه، يكون الفرار إليه”.

والفرار من الله إلى الله يكون من صفات الجلال ومعانيها إلى صفات الجمال ومعانيها. ومما يدل على ذلك حديث عَائِشَةَ، رضي الله عنها، قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ{ : اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنــْـتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ}.

والرحمة من صفات الجمال، لذلك قال الناظم: يا من إلى رحمته المفر. وصفات الجمال أسبق وأظهر، لذلك استعاذ صلى الله عليه وسلم بها، وقدمها في الكلام فلم يقل: أعوذ من سخطك برضاك، ومن عقوبتك بمعافاتك. ولكنه قال: أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ. فكان حقها التقديم من الناظم أيضا، إذ جعلها مطلع قصيدته، وأول كلامه.

ثم إن عين المعرفة مشاهدة الحق، والغيبة عن الخلق، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم:{ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ..}ففيه قطع الالتفات إلى ما سوى الله عز وجل، وإفراده بالاستعانة والاستغاثة وتمام العبودية. وهذا ما جرى عليه الناظم في قوله: ومن إليه يلجأ المضطر. فتناسبُ الشطرين هنا من هذا الوجه، كتناسب أجزاء الحديث الذي ذكرناه. وقدم الجار والمجرور على فعلهما ليدل على أن لجوء المضطر لا يكون لسوى الله عز وجل، لتفرده بالقوة والنفع والرحمة. إذ من سوى الله تعالى لا يملك من ذلك شيئا على الحقيقة. وذلك كتقدمهما في قوله تعالى من سورة الملك:{وعليه توكلنا}. وذلك لأن التوكل لا يكون على من سوى الله عز وجل، لتفرده بالقدرة والعلم الباقيين القديمين.

وهذه هي فائدة توجه الناظم بالدعاء في مطلع قصيدته، فقد كانت غايته إظهار العبودية، والفاقة، ومناجاة المحبوب. قال ابن عطاء الله السكندري، رحمه الله تعالى:”لا يكن طلبك سبباً إلى العطاء منه, فيقل فهمك عنه وليكن طلبك لإظهار العبودية، وقياماً ما بحقوق الربوبية”.

وقد بدأ الشيخ منظومته بذكر الاضطرار، والإشارة إلى الافتقار، لأن ذين هما باب المواهب. قال في الحكم:”ما طَلَبَ لك شيءٌ مثل الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب إليك مثل الذلة والافتقار”.

وجمع في البيت بين الإشارة إلى صفات الجمال بذكر الرحمة، وبين الإشارة إلى صفات الجلال بقوله: ومن إليه يلجأ المضطر. وذلك أن الإشارة إلى الاضطرار والافتقار إشارة إلى تجليه سبحانه باسمه العزيز أو القهار. فإنه من المعروف عند القوم أنهم إذا تجلى لهم بهذين الاسمين وما ناسبهما تلقوه بالذلة والافتقار، كما أشار إلى ذلك الشيخ سيدي أحمد ابن عجيبة في شرحه للحكم العطائية.

والناس في الدعاء إلى خمسة أصناف:

صنف تارك للدعاء بالجملة، وهم أهل العناد.

وصنف يدعو عند الاضطرار والحاجة فقط، وهم المشار إليهم في أكثر من موضع في القرآن الكريم، كقوله تعالى في الإسراء:{ وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ كَفُوراً}، وقوله عز وجل في النحل:{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }.وقوله سبحانه في النحل:{ أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}.

وصنف يدعو طلبا لحظ نفسه، وهو الدعاء على الحظ.

وصنف يدعو على مراد الله منه، وهو الدعاء على التجريد.

وصنف يدعو بالحال والذكر. وهو المشار إليه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ من شغله ذكري عن مسألتي؛ أعطيته أفضل ما أعطي السائلين}.

ولا يجوز ترك الدعاء بحال، لقوله تعالى في سورة غافر:{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين}. وقوله صلى الله عليه وسلم:{ الدعاء هو العبادة }. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من لا يدع الله, يغضب عليه}. وقول عائشة ـ رضي الله عنها: سلوا الله كل شيء، حتى الشسع، فإن الله عز وجل، إن لم ييسره لم يتيسر.

وقد ضمن الله تعالى الإجابة لكل من يتوجه إليه بالدعاء. قال القرطبي، رحمه الله تعالى، في تفسيره:” ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه؛ والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه؛ وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمّة، وُجِدَ من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر؛ كما قال تعالى: حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ [يونس: 22] وقوله: فَلَمَّا نَجَّاهُمُ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم. وقال تعالى: فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ [العنكبوت: 65] فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه”.

ولهذا السبب خص الناظم، رحمه الله تعالى، المضطر بالذكر في قوله: ومن إليه يلجأ المضطر. وذلك لموضع الإخلاص فيه، وعموم وقوعه. إذ من أصناف الدعاء ما لا يكون من كل أحد. ومعنى الالتجاء هنا: التحصن بالله، والاعتضادبه، والاستناد إليه. والمضطر مفتعل من الضر، وأصله: مضترر، فأدغمت الراء، وقلبت التاء طاء لأجل الضاد. فأصل الاضطرار من الضرر، وهو الضيق. وهذا معنى واسع، إذ يشمل كل أمر ينشأ عنه ضيق. واستعمله إشارة إلى أن العبد يحتاج ربه في كل أمر يصيبه بغض النظر عن نوعه وسببه، لمطلق قدرة الله عز وجل، وكون ما يصيب الإنسان من أمور في نفسه، وأهله، وبدنه، وماله، مما لا يمكن حصر تفاصيله وصوره.

وبدأ بالدعاء لعدم جواز تركه، وكونه مخ العبادة، ولأنه مفتاح الفرج، وفيه حلاوة مناجاة المحبوب، واستدامة التذلل له. وهذا من جودة المطلع، وبراعة الاستهلال، وملاءمته لمعاني القصيدة، ومقاصد الدين، وآداب المخاطبة.

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الشرح الذي قدّمه الدكتور محمد الرّوسي هو الأول من نوعه بخصوص قصيدة الدعاء الناصري، أرجو الله أن يبارك له في علمه وعمله. ننتظر بقية الشرح إن شاء الله تعالى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق