شأنُ الدعاء وحال العبد السائر إلى ربه سبحانه في استعجال الإجابة بتحصيل المحبوب وزوال المكروب
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد
فقد يَعْرض للعبد المؤمن السائر إلى ربِّه ويعتري قلبه من أضغاث النفس الموسوَسة وطوارق الشك والتردد والرّيب ... ما من شأنه أن يُفْضـي به إلى السقوط في مزالق انحلال العزائم وتلاشي أجزاء قُواه الباطنة المصمِّمة، ثم استيلاء معاني الاستبطاء واستشعار موجبات اليأس والقنوط واضطراب الحال وانكسافها وما إليه، وكل ذلك وغيره – إن صح العزم من العبد وصدق التوجه إلى المولى سبحانه – متجوَّز فيه معفوٌّ عنه، بل قد يصير ترجمان الإيمان وصريحه، قال الله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسولٍ وَلا نَبيءٍ إِلاَّ إِذا تَمنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِه) [سورة الحج/52]، سواء كان إلقاء قَلْب أم لسان أم علم فحدُّه سواء، فلأجل ذلك اهتدتْ الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في مثل هذا المعرض بهدْى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمنعهم حياؤهم من الصّدع جهراً بما مثلُه لم يسلمْ منه بَشرٌ: (إنَّ أَحدَنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلَّم به أو ما أَنْ يُحرق حتى يصير حمما أو يَخرّ من السماء إلى الأرض أَحَبّ إليه من أن يتكلّم به) فأحسن عليه الصلاة والسلام جابتهم وترفَّق فيتنويرهم غاية الترفُّق فقال: (ذلك صريح الإيمان) أو (الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة) أو غيرها مما يثلج صدر المؤمن الموقن ... نظير حال إبراهيم عليه السلام في شأن إحياء الموتى المُترجَم بقوله تعالى: (وَلكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبي)، إذ قال فيه صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام، إذ قال له ربه: (أَوَلَمْ تومنْ) ؟، فبان بذلك ما بين الإيمان والاطمئنان من البوْن والتفاوت، قال الآلوسي (ت 1270ه):: (وعلى هذا يقال: الوعد بالنصـر في الدنيا لشخص قد يكون الشخص مؤمنا بإنجازه، ولكن قد يضطرب قلبه فيه فلا يطمئنّ فيكون فوات الاطمئنان ظنّا أنه كذب، فالشك والظنّ أنه كذب من باب واحد، وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب، وإن كان فيها ما هو ذنب، فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك، كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث، وفي قصّ مثل ذلك عبرة للمؤمنين بهم عليهم السلام، فإنهم لا بدّ أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك، فلا ييأسوا إذا ابتلوا ويعلمون أنه قد ابتلي من هو خير منهم، وكانت العاقبة إلى خير؛ فيتيقّن المرتاب ويتوب المذنب ويقوى إيمان المؤمن، وبذلك يصحُّ الاِتّساء بالأنبياء، ومن هنا قال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولي الْأَلْباب) ولو كان المتبوع معصوما مطلقا لا يتأتّى الاتساء؛ فإنه يقول التابع: أنا لست من جنسه، فإنه لا يذكر بذنب، فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتداء، لما أتى به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة بخلاف ما إذا علم أنه قد وقع شيء وجبر بالتوبة؛ فإنه يصحّ حينئذ أمر المتابعة ...)[روح المعاني، سورة يوسف الآيات 96 إلى 111]، ثم زد على كل ما ذُكر أنّ الإنسان بحكم طبعه وتكوينه قد تغشاه أحوال الخوف والحزن والمرض والفاقة والهم والغم؛ فيظنُّ فيها ظنونا ويقول أقوالا، هو فيها معذور، لغلبة ذلك على جملة البشر واستيلائه عليهم، قال العلامة النجم الطوفي (ت 716ه) : (ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تراخى عنه الوحي في مبادئ أمره خرج ليتردّى من شواهق الجبال وَجْداً لانقطاع الوحي، والرسل يوم القيامة يقال لهم: (ماذا أُجبتم)؟ فيقولون: (لا علم لنا)، ينسون أو يُشْدَهون لغلبة تلك الحال عليهم، ثم يتذكرون فيشهدون بما علموا،فكذا ظنّ الرسل – هاهنا – أنهم قد كُذِبوا هو من هذا الباب، والله عز وجل أعلم بالصواب) [الإشارات الإلهية، القول في سورة يوسف]، ... وقريب من هذا المنحى ما أسنده الإمام أبو جعفر الطبري (ت 310 ه) أنّ مسلم بن يسار قال لسعيد بن جبير: يا أبا عبد الله، آيةٌ قد بلغتْ منّي كلّ مبلغ (حَتَّى إِذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذبوا جَاءَهُمْ نَصْـرُنا)مثقلة، فهذا هو الموت أن تظنَّ الرسل أنهم قد كُذِّبوا أو نظنَّ أنهم قد كُذِبوا (مخففة)، فقال سعيد ابن جبير: يا أبا عبد الرحمان، إنَّما يئس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم، وظن قومُهم أنَّ الرسل كَذَبَتْهم، فحينئذ جاءهم نصرنا، فقام مسلم إلى سعيد فاعتنقه وقال: فرَّج الله عنك كما فَرَّجْتَ عَنّي [الدر المنثور(سورة يوسف 110)]، وهذا التأويل هو ما ذهب إليه أبو علي الفارسي(ت 377ه) فرجّحه وقال: إنَّ ردَّ الضمير في (ظَنّوا) وفي (كُذِبوا) على المرسل إليهم وإن كان لم يتقدَّم لهم ذكرٌ صريح جائز [الحجة (سورة يوسف 110)]، فقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالا يُّوحَي إِلَيْهِمْ)، على جهة تثبيت قلب النبي عليه الصلاة والسلام ومواساته وتسكينه مما يَحُسُّه من مُقاساة معاندي قومه ومكابدة صلافى رسالته وهو الذي يُغَانُ على قلبه صلى الله عليه وسلم[حديث الأغرّ المزني، أخرجه مسلم (2702)] فيفرُّ إلى وَزَر مولاه ذاكرا مُرْتويا مستغفرا ربه جل وعلا على حال الإغانة والخَشية التي تتغشّى قلبه فتحْمِله صلى الله عليه وسلم على الشكر وملازمة مراقي العبودية واعتلاء ذُراها، فقد آثر عن معاناة الأهل وسياسة الأمّة ومغالبة النفس والضَّلاعة بأمور الرسالة روضةَ الصابرين الذاكرين الشاكرين لم يَعْدُ مثْراةَ رِيِّها، قال القاضي عياض (ت 544 ه) رحمه الله: ( المراد بهذا الغَيْن؛ إشارة إلى غفلات قلبه وفترات نفسه، وسهوها عن مداومة الذكر ومشاهدة الحق، بما كان صلى الله عليه وسلم دُفع إليه من مُقاساة البشـر وسياسة الأمة ومعاناة الأهل ومقاومة الوليّ والعدوّ ومصلحة النفس، وكُلِّفه من أعباء أداء الرسالة وحمل الأمانة، وهو في كل هذا في طاعة ربّه وعبادة خالقه، ولكن لمّا كان صلى الله عليه وسلم أرفع الخلق عند الله مكانة، وأعلاهم درجة وأتمّهم به معرفة، وكانت حاله عند خلوص قلبه وخلوّ همّته وتفرّده بربّه وإقباله بكلّيّته عليه، ومقامه هنالك أرفع حاليْه؛ رأى عليه السلام حال فتْرته عنها وشغله بسواها؛ غضّا من عليّ حاله، وخفضاً من رفيع مقامه، فاستغفر الله من ذلك) [الشفا 618]، وعليه فالمستفاد من سوق معاني الاستيئاس واستشعار أحوال الاستبطاء والابتئاس فيه دفعٌ وحثٌّ للعبد السالك على ملازمة اليقين بربه وملائكة قدسه وأنبياء رسالته ... وقوة بأسه وتماسكه في مواجهة خطوب الزمان ونوائبه خاصة عند سوء الحال وشظف العيشة واضطراب القلب والبال ... إذ يصبح الاهتزاز إلى الاِتساء بمنازل المرسلين والاقتداء بأحوال الأبدال من رجال الغَيْب الصالحين قضاءً حتْما مفروضا وقدرا نافذا مقدورا، فتلك مطيّة المخرج وداعية الفرج، والله هو الغني القوي ونحن الفقراء إليه الضعفاء ، وصلى الله وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع.