مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأخبار

سيِّدُ الطائفة: الجنيد البغدادي (ت 297ھ)

التاريخ الإسلامي المجيد حافل بالرموز الروحية التي كانت وما تزال تعيش في ضمير الأمة المغربية، فهي مصدر إشعاعها الوجداني الروحي، ومثلها الأعلى في الالتزام بالشريعة الإسلامية السمحة.

والإمام الجنيد [1] رحمة الله عليه واحد من أولئك الذين تركوا بصماتهم واضحة في الحقل الصوفي: بسيرته العطرة، وبمنهجه السلوكي التربوي الذي جمع فيه بين العلم والعمل به، ووُصف بسلوك طريق الرياضة ومجاهدة النفس من أجل بلوغ مرتبة الإحسان، والتحقّق بأعلى الكمالات الخلقية.

كان هذا التوجه الشرعي هو الذي جعل منهج الإمام الجنيد ينال القبول والاستحسان من الفقهاء والصوفية على السواء، فلم ينكروا عليه شيئا من مسلكه، بل اعتمدوه وساروا على دربه، لما يمتاز به من رسوخ وتمكين، واعتدال وصحو، وربط بين الحقيقة والشريعة.

فالإمام الجنيد “كان من الشخصيات الهامة التي بلغت مبلغ القوة والعطاء والنفوذ الروحي العميق، بحفاظه على الإسلام عامة، والتصوف خاصة، من خلال منهج واضح محدد، وأسلوب معتدل مُتّزن لا يجاوز حدود الكتاب والسنة، حتى في أعلى ما يصل إليه مجهود المتدين، وأعني به الفناء، كان في ذلك كله ممثلا لمنهجه، ولم يخرج عن قضية التصوف السني الإسلامي المعتدل بحال من الأحوال”. [2]

أ‌-  سـيرتـه:

هو إمامٌ ضُرب بعلمه وحاله وسلوكه أروع المثل، وقدّم من جوهر صوفيته وتحقُّقه أنصع البراهين وأقوى الحجج على أن التصوف يُمثِّل أعلى قِمّة في الإسلام، يظل لواؤها صفوة عباد الله.

لُقِّب بسيِّد الطائفة، وطاووس العلماء، وشيخ طريقة التصوف، ومُقدّم الجماعة، وتاج العارفين، وشيخ المشايخ.

كيف لا وهو “المُربِّي بفنون العلم، المُؤيّد بعيون الحلم، المُنوّر بخالص الإيقان وتابث الإيمان، العالم بمُودع الكتاب، والعامل بحلم الخطاب، الموافق فيه للبيان والصواب…، كان كلامه بالنصوص مربوطا، وبيانه بالأدلة مبسوطا، فاق أشكاله بالبيان الشافي، واعتناقه للمنهج الكافي، ولزومه للعمل الوافي”. [3] 

إنه الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي القواريري الخزاز، أبو القاسم، سيِّدٌ من سادات الصوفية وعلَمٌ من أعلامهم، يعود مسقط رأسه إلى نهاوند، أما مولده ومنشأه ووفاته فببغداد، صحِب جماعة من المشايخ، واشتهر بصحبة خاله السّري السقطي، [4] والحارث المحاسبي، درَس الفقه على أبي ثور [5] أحد تلامذة الإمام الشافعي. 

“وكان قد سمع الحديث عن الكثير من الشيوخ، وشاهد الصالحين وأهل المعرفة، ورُزِق من الذكاء وصواب الجوابات في فنون العلم ما لم يُر في زمانه مثله عند أحد من قرنائه، ولا ممن أرفع سنّا منه، ممن كان ينسب منهم إلى العلم الباطن والعلم الظاهر، في عفاف وعزوف عن الدنيا وأبنائها”. [6]

حصّل الجنيد العلم الضروري الذي لا يحصل إلا بالنقل وهو علم الفقه والحديث على أبي ثور، وكان يُفتي بحضرته وهو ابن عشرين سنة، ولم يكد يبلغ الثلاثين من عمره حتى رأى السري السقطي أنه أصبح مُؤهّلاً للجلوس والتدريس وإدارة حلقات العلم بالمساجد، غير أنه تحشّم ولم يجد نفسه أهلا لذلك، حتى رأى ليلة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ليلة جمعة، فقال له صلى الله عليه وسلم: تكلّم على الناس، فانتبه من نومه وأتى باب السري السقطي قبل أن يصبح…، فقال له السري: لم تُصدِّقنا حتى قيل لك…، وكان أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حاسما، فقعد الجنيد في غدٍ للناس بالجامع. [7]

“وكانت مجالسه هي جامعة بغداد الكبرى، كان عُشّاق الأدب يحضرون مجالسه ليتزودوا بالمُضِيء من القول، والمُشرِق من البيان، ويحُف به الفقهاء ينشدون لديه القول الفصل والحكم المبين، ويحيط به الفلاسفة ليتفقهوا دقائق الحكمة وأسرار النفوس والأكوان، ويلوذ به المتكلمون ليأخذوا عنه طرائق البحث وفنون الحديث، ويتبعه رجال التصوف، فهو النبع الذي يتدفق رحيقه من عرش الإيمان”. [8] 

وجلوس الجنيد -رحمه الله تعالى- في حلقة بالمسجد يفتي ويدرس ويناقش، مكنّه من إرساء قواعد العلم الصوفي كواحد من العلوم الإسلامية جنبا إلى جنب مع علم الفقه والحديث والتفسير وغيرها، وذاع صيته حتى أصبح المرجع الديني الأكبر للعامة والخاصة في بغداد وفي المشرق العربي على امتداده، في حقبة تاريخية عصيبة تمثلت في صراع الفقهاء مع علماء الكلام.

ب‌-  منـزلتـه:

لقد نال الجنيد مرتبة عالية، وإعجابا كبيرا، وثناء عجيبا من علماء الأمة ومؤرخيها، إذ اتفقوا “… على قبوله، والاعتداد بقوله، وعدُّوه وليّا من أولياء الله تعالى. [9] 

قال إسماعيل بن نجيد فيما يرويه عنه صاحب تاريخ بغداد: “كان يقال: إن في الدنيا من هذه الطبقة ثلاثة لا رابع لهم: الجنيد ببغداد، وأبو عثمان بنيسابور، وأبو عبد الله بن الجلاء بالشام”. [10]

ويضيف البغدادي: “قال جعفر بن محمد الخلدي: لم نر في شيوخنا من اجتمع له علم وحال غير أبي القاسم الجنيد، وإلا فأكثرهم كان يكون لأحدهم علم كثير ولا يكون له حال، وآخر يكون له حال كثير وعلم يسير، وأبو القاسم الجنيد كانت له حال خطيرة، وعلم غزير، فإذا رأيت حاله رجحته على علمه، وإذا رأيت علمه رجحته على حاله”. [11] 

وشهد له ابن الأثير بالإمامة، قال: “… وكان إمام الدنيا في زمانه…”.  [12]

وقال عنه ابن خلكان: “الزاهد المشهور…، وكان شيخ وقته وفريد عصره، وكلامه في الحقيقة مشهور مُدوّن…”.  [13]

وروى الجامي عن أبي عبد الله بن خفيف [14] قوله: “اقتدوا بخمسة من شيوخنا، والباقون سلِّموا أحوالهم: الحارث المحاسبي، والجنيد، ورويم، وابن عطاء، وعمرو بن عثمان المكي، قدس الله أسرارهم، لأنهم جمعوا بين العلم والحقائق”. [15]

وقال الشيخ أبو جعفر الحداد: “لو كان العقل رجلا لكان الجنيد”. [16]

ومن العلماء المتأخرين الذين أثنوا على الجنيد الإمام الشوكاني، قال:

       ولكم مشى هذي الطريقة صاحب        لمحمد فمشوا على أعقابـــــــه

        فبها الغفاري قد أنــــــــاخ مطيـه       ومشى بها القرني بسبق ركابه

       وبها فضيـل والجنيد تجاذبــــــــــا       كأس الهوى وتعللا برضابــــه [17]

وفي رأي عبد الحليم محمود، كان الإمام الجنيد “متزنا كامل الاتزان، وكان متعبدا على علم، وكان عالما كأجمل وأعمق ما يكون العلم…، وكان الجنيد إماما لهم، ومرشدا، وأخذ بأيديهم إن قصروا، ومهدئا لهم إن زاد بهم الوله: لقد كان قائدا يفرح بالنابه من جنده، ويشد أزر من تعثر به الطريق، ويرد جماح الجامحين، والكل يدين له بالفضل ويعترف له بالتقدير”[18] 

ووصفه الإمام ابن تيمية بأنه إمام من أئمة الهدى، قال: “… ولهذا كان الجنيد -رضي الله عنه- سيّد الطائفة إمام هدى…”. [19]

أما فريد الدين العطار، فأثنى عليه بما هو أهله، في قوله: “وكان في جميع العلوم ماهرا، وفي الفنون كاملا، وفي الأصول والفروع مُفتياً، وفي المعاملات والرياضات والإشارات العالية سابقا على الأقران، ومن أول حاله إلى آخر حاله حميدا مقبولا. والكل متفق على أمانته وكماله، وكلامه حجة في علم الطريقة، وما استطاع أحد أن يعترض عليه بمخالفة السنة”.[20] 

لقد حظي الجنيد بمكانة متميزة بين السابق واللاحق، فأثنوا عليه الثناء الحسن، وأنزلوه المنزلة الرفيعة، أهَّله لذلك حُسْنُ سَمْتِهِ وأخلاقه ومنهجه السلوكي التربوي، القائم على مجاهدة النفس وترويضها، والالتزام بصالح الأخلاق والأعمال، انطلاقا من كتاب الله تعالى وسنة نبيه الكريم عليه الصلاة والتسليم، فاستحق بذلك لقب سيد الطائفة وتاج العارفين، رضوان الله عليهم أجمعين.

“وقلّما حظيت شخصية صوفية باهتمام المؤرخين بمثلما حظيت به شخصية الجنيد. كيف لا وهو الجامع بين الشريعة والحقيقة والواضع للمريدين أصول الطريقة، وهو أول من صاغ المعاني الصوفية تعبيرا، وشرحها تفسيرا، وحررها تحريرا”.[21] 

 وهذا ما يفسر ذيوع طريقته الصوفية في المشرق والمغرب، فهي مبنية على كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه السلام، متمسكة بالأصول الشرعية من توحيد كامل، وإيمان راسخ، ويقين ثابت، ساعية إلى تحقيق أعلى المراتب الخلقية الرفيعة، التي نادى بها ديننا الحنيف، فكانت من أسسه ومقوماته المحققة للمعرفة الإلهية، والقرب من الحضرة الربانية.

   

الهوامش:

[1] ترجمته في:

– تاريخ بغداد أو مدينة السلام، أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت463ھ)، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، د.ط، د.ت، 7/242.

– صفة الصفوة، جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي (510-597ھ)، حققه وعلق عليه: محمود فاخوري، خرج أحاديثه: محمد رواس قلعه جي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط2، 1399ھ/1979م، 2 /416- 424.

– سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت748ھ)، أشرف على تحقيق الكتاب وخرج أحاديثه: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط11، 1422ھ/2001م، 14/66-70.

– مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان، عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي اليمني المكي (ت768ھ)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط2، 1390ھ/1970م، 2/231-233.

[2]– مجدي إبراهيم: التصوف السني، حال الفناء بين الجنيد والغزالي، تصدير: عاطف العراقي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط2، 1427ھ/2006م،ص: 378.

[3]– حلية الأولياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني الشافعي (ت430ھ)، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 1427ھ/2007م، 10/274.

[4]– أبو الحسن السري بن المغلس السقطي (ت251ھ): خال أبي القاسم الجنيد وأستاذه، إمام البغداديين وشيخهم في وقته. ترجمته في: حلية الأولياء، 10/119-132.

[5]– إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي، أبو ثور (ت240ھ): فقيه، كان أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وورعا وفضلا. ترجمته في: الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط17، 2007م،1/37.

[6]– تاريخ بغداد، 7/242.

[7]– وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان (608-681ھ)، حقق أصوله وكتب هوامشه: يوسف علي طويل، ومريم قاسم طويل، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1419ھ/1998م، 1/347.

[8]– من أعلام التصوف الإسلامي، طه عبد الباقي سرور، مكتبة نهضة مصر ومطبعتها، مصر، د.ط، د.ت، 2/123.

[9]– الجنيد بن محمد وآراؤه العقدية والصوفية، عرض ومناقشة، نوال بنت عبد السلام بن إدريس فلاتة، (رسالة ماجستير)، إشراف: لطف الله بن ملا خوجه، جامعة أم القرى، كلية الدعوة وأصول الدين، قسم العقيدة، المملكة العربية السعودية، 1429ھ، ص: 14.

[10]– تاريخ بغداد، 8/174.

[11]– المصدر السابق، 8/171-172.

[12]– الكامل في التاريخ، ابن الأثير (ت630ھ)، تحقيق: خيري سعيد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، مصر، د.ط، د.ت، 6/456.

[13]– وفيات الأعيان، 1/346.

[14]– محمد بن الخفيف بن اسفكشاد الضبي الشيرازي، أبو عبد الله (ت371ھ)، كان شيخ المشايخ في وقته، رأى رويما، وصحب الكتاني ويوسف بن الحسين الرازي…، كان عالما بعلوم الظاهر وعلوم الحقائق. ترجمته في: نفحات الأنس من حضرات القدس، نور الدين عبد الرحمن بن أحمد الجامي (ت898ھ)، تحقيق: محمد أديب الجادر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1424ھ/2003م، 1/345-347.

[15]– المصدر السابق، 1/76.

[16]– نفسه، 1/122.

[17]– الصوارم الحداد القاطعة لعلائق أرباب الاتحاد، محمد علي الشوكاني (1173-1250ھ)، تحقيق وتخريج: محمد صبحي حسن الحلاق، دار الهجرة، صنعاء، ط1، 1411ھ/1990م، ص: 26.

[18]– تاج الصوفية أبو بكر الشبلي، حياته وآراؤه، عبد الحليم محمود، ط2، د.ت، ص: 32.

[19]– مجموعة الفتاوى، أحمد بن تيمية (ت728ھ)، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مكتبة المعارف، الرباط، د.ط، د.ت، 5/297.

[20]– تذكرة الأولياء، فريد الدين العطار (ت627ھ)، ترجمة: محمد الأصيلي الوسطاني الشافعي، تحقيق: محمد أديب الجادر، دار المكتبي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، ط1، 1430ھ/2009م، ص: 429.

[21]– وحدة الوجود في التصوف الإسلامي في ضوء وحدة التصوف وتاريخيته، محمد بن الطيب، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2008م، ص: 46.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق