مركز الدراسات القرآنيةغير مصنف

سنة اللسان بين الجهاز والإنجاز وأثرها في تعيين القصد الشرعي

دة. سعاد كوريم
باحثة في الدراسات القرآنية

ناقشت الأستاذة سعاد كوريم، يوم الأربعاء 08 / 05 / 2013م موافق 28 / 06 / 1434هـ، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة مولاي اسماعيل بمكناس، شعبة الدراسات الإسلامية، وحدة الاجتهاد المقاصدي (التاريخ والمنهج) أطروحتها لنيل الدكتوراة في موضوع: «سنة اللسان بين الجهاز والإنجاز وأثرها في تعيين القصد الشرعي» أمام لجنة علمية مكونة من السادة الدكاترة؛ الدكتور محمد السيسي مشرفا ومقررا، الدكتور مولاي عمر بن حماد رئيسا، الدكتور مولاي المصطفى الهند عضوا، الدكتور عبد العزيز اليعكوبي عضوا، الدكتور عبد الرحمن حيسي عضوا، وقد نالت الباحثة درجة الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع توصية بالطبع، وهذا تقرير عن أهم ماجاء في محاورها وقضاياها:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان إيذانا منه بأن البيان باللسان شرط من شروط العمران. والحمد لله الذي أنزل القرآن على محمد  بلسان قومه إيذانا منه بأن اللسان العربي شرط أساس في بناء العمران على أساس من القرآن، فإذا كان القرآن هو أساسُ العمران فإن اللسان هو أساس ذلك الأساس. والحمد لله الذي جعل رسالته إلى الناس كلاما يفهمونه وبه يتعاملون، فأنزل قرآنا مبينا بلسان عربي مبين إيذانا منه بأن القصد الشرعي موجود، والمدخل إلى إدراكه لسان معلوم، والإيمان بإمكان ذلك الإدراك واجب والتشكيك في حصوله بدعة.

وصلى الله وسلم وبارك على من أحاط بجميع علم لسان العرب فبلغ وأعرب وأبان، حتى ينقطع السبيل بعد هذا الإشباع البياني على من يدعي ضياع القصد القرآني، وحتى يتمكن الإنسان من إنشاء عمران على أساس من القرآن وفق مقتضيات وظيفته الاستخلافية على وجه الأرض. إذ لا يعقل بعد ذلك الإشباع البياني أن يختلف بعض الناس في إدراك قصد القرآن ويحكموا عليه بالضياع بدل أن يجعلوه هو الحاكم بينهم فيما اختلفوا فيه.
أما بعد:
فإن أهم خصيصة تطبع القرآن الكريم تكمن في كونه كلاما لله، أي أنه رسالة موجهة للمتلقي بواسطة اللسان. ويعني هذا أن اللسان وسيلة رئيسة لفقه الخطاب الشرعي، وأنه شرط أساس لتعيين القصد.

هذه الحقيقة القرآنية كان لها أثر بالغ في صياغة عنوان هذا البحث: “سنة اللسان بين الجهاز والإنجاز وأثرُها في تعيين القصد الشرعي”، الذي انطلق من دعوى مفادها:

– أن سائر أشكال التعامل مع القرآن الكريم محكومة ضرورة وحتما بثنائية اللسان والقصد باعتبارها مدخلا أساسا لفقه الخطاب الشرعي.

– وأن مواقف الأعمال التفسيرية من قضايا اللسان جهازا وإنجازا يؤثر ضرورة وحتما على منهجها في تعيين القصد الشرعي الثاوي في القرآن الكريم.

وتكمن أهمية الاشتغال على هذا الموضوع في جملة من القضايا مثارها:
– أن التعامل مع نص القرآن الكريم قد عرف انفتاحا على إمكانات تتراوح بين الارتفاع بالواقع إلى سقف النص والنـزول بالنص إلى سفح الواقع، مما يؤثر على مدى الوصول إلى القصد. ومن هنا تأتي مشروعية التساؤل عن إمكان تعيين القصد الشرعي، وعما إذا كان نزول القرآن بلسان يتقنه المتلقي يقتضي حتمية ذلك التعيين.

– أن الرؤى اختلفت في شأن تعيين القصد إلى حد التضاد الذي يصير معه أساس وجود القصد وإمكان إدراكه هو نفسه أساس ضياع القصد وعدم امتلاكه، ففي حين يعتبر البعض أن نزول القرآن الكريم بلسان عربي مبين يدل على تضمن الخطاب الشرعي لقصد الشارع وعلى إمكان تعيين ذلك القصد، فإن البعض الآخر يعتبر أن مجرد نزول القرآن بلسان هو حكمٌ على القصد بالتفلت والضياع.

– أن القرآن الكريم تضمن بناء نسقيا متكاملا يقدم حلا جِذريا لقضية اللسان والقصد، من شأنه أن يمكن من اتخاذ موقف منهجي سليم من الرؤى المختلفة حول علاقة اللسان العربي بالقصد الشرعي، من أجل أن تعرض تلك الرؤى على القرآن الكريم بدلا من أن يعرض عليها.

– أن الأهمية التي يتبوؤها اللسان في القرآن الكريم تقتضي ضرورة الكشف عن المكانة السننية للسان في القرآن وبيان الوجه الذي يكون به اللسان سنة في تعيين القصد الشرعي.

ومن ثم سعى هذا البحث إلى تحقيق جملة من الأهداف، أبرزها:
– إثبات سننية اللسان عموما وفي القرآن الكريم على وجه الخصوص.
– بيان الأساس اللساني الذي يبنى عليه الحديث عن القصد الشرعي وجودا أو عدما.
– تقديم مداخل منهجية وأدوات إجرائية تُؤَمِّنُ فقه خطاب الشارع وتعيين القصد الثاوي فيه.
– تقديم رؤية نقدية معيارية مستفادة من القرآن الكريم يمكن من خلالها قياس مدى صواب كل شكل من أشكال التعامل مع القصد الشرعي، سواء منها تلك التي تنطلق من داخل المجال التداولي العربي الإسلامي أو تلك التي تنطلق من خارجه.

خطة البحث 

اقتضت طبيعته أن يكون في مقدمة وبابين وخاتمة.

تضمنت المقدمة تحديدا للإشكال الذي يعالجه البحث، وبيانا للصعوبات التي واجهتها في سبيل حل ذلك الإشكال، كما تضمنت تحديدا لكل من المناهج والمصادر المعتمدة في الدراسة، وسردا موجزا لمحتوى البحث وما انطوى عليه من أبواب وفصول ومباحث ومطالب.
أما الباب الأول: فهو خاص بدراسة المفاهيم المفتاحية المتمثلة في (السنة، اللغة، اللسان، الإنجاز، الجهاز، القصد). وقد قسمته إلى ثلاثة فصول، حيث تناول الفصل الأول مفهوم السنة من خلال بيان أصلها الدلالي وبيان دلالة سنة الله وسنة البشر وصلة السنتين بالأصل الدلال، وقد أسفر ذلك عن وجود ثلاثة أطوار دلالية مر منها مفهوم السنة: الحُكم والحكمة، الطريق والطريقة، الجريان والاطراد.

واهتم الفصل الثاني ببيان الاضطراب الذي يعانيه مفهوم اللغة وبيانِ أولوية مفهوم اللسان، وذلك من خلال نقد مفهوم اللغة على مستوى الدلالة المعجمية والدلالة الاصطلاحية.

واعتنى الفصل الثالث بدراسة مفهوم اللسان ومكوناته المتمثلة في الجهاز والإنجاز والقصد، وأبانت دراسة المفهوم في مستواه المعجمي عن نضجه واكتنازه المعرفي، أما دراسة مفهوم اللسان على المستوى الاصطلاحي فقد تمت من خلال تناول التداول التراثي لمفهوم اللسان، ودلالة مصطلح “علم اللسان” عند الفارابي ومصطلح “علوم اللسان” عند أبي حيان. كما تمت دراسة مكونات اللسان المتمثلة في الإنجاز اللساني والجهاز اللساني والقصد، وتم بيان العلاقة بينها.

وأما الباب الثاني: من هذا البحث فقد خصصته لدراسة الإطار النظري والنماذج التطبيقية. وهو بعنوان (سنة اللسان بين الجهاز والإنجاز وأثرها في تعيين القصد الشرعي: الإطار النظري ونماذجه التطبيقية)، وقسمته إلى أربعة فصول.

تناول الفصل الأول بيانا لسننية اللسان على كل من المستوى الكوني والتكويني والاستخلافي والعمراني والتكليفي، وسننية اللسان على هذه المستويات هي التي أهلته ليكون سنة في تعيين القصد الشرعي.

واهتم الفصل الثاني بإثبات سننية اللسان العربي وأثرِها في تعيين القصد الشرعي استنادا إلى القرآن الكريم، وذلك في خطوتين، أولاهما إثبات أن اللسان سنة في تعيين القصد الشرعي في كافة الرسالات، عبر إبراز البعد القصدي لإرسال كل رسول بلسان قومه، والخطوة الثانية هي إثبات سننية اللسان العربي وكونِها ذات أثر في تعيين القصد الشرعي.

واعتنى الفصل الثالث بدراسة سننية اللسان العربي وأثرها في تعيين القصد الشرعي من خلال نموذج ابن خلدون الذي نقل لنا بأمانة الصورة السائدة في التراث الإسلامي عن علوم وملكة اللسان العربي وأثرهما في تعيين القصد الشرعي.

أما الفصل الرابع فقد خصص لدراسة سننية العلاقة بين مكونات اللسان وأثرها في تعيين القصد الشرعي، وذلك من خلال إثبات تلك السننية من الناحية النظرية وبيان أثرها في تعيين القصد الشرعي استنادا إلى نماذج تطبيقية تراثية ومعاصرة، كما تم بيان المداخل المنهجية والأدوات الإجرائية المعتمدة في كل نموذج، مع تقييمها ونقدها بما يتناسب مع البناء النسقي لسنة اللسان المستفاد من القرآن الكريم.
ثم ختمت البحث بخلاصة تضمنت موجزا عن نتائج الدراسة وآفاقها.

وقد اعترضت طريق هذا البحث جملة من الصعوبات أبرزها صعوبات على مستوى المفاهيم والموضوع والنماذج.
أما الصعوبات الخاصة بالمفاهيم فتكمن في أنني لم أعثر عليها جاهزة على النحو الذي ينسجم مع التصور الذي يدافع عنه البحث، مما أعاق عملية استجلاء معالم سننية اللسان في تعيين القصد. وقد اقتضى الأمر إعادة بناء مفاهيم البحث من جديد.
وتطلبت مني عملية البناء القيام بدراسة مفهومية مستفيضة لحل جملة من الإشكالات والعوائق المرتبطة بالمفاهيم المفتاحية (السنة / اللسان)، حيث تعرض مفهوم “السنة” لتضييق على مستوى مجاله المفهومي، وتعرض مفهوم “اللسان” لنوع من الاحتلال والإسقاط المفهومي.

وأما الصعوبات الخاصة بالموضوع فتتمثل في أن الحديث عن سننية اللسان في تعيين القصد الشرعي استنادا إلى بناء نسقي مستفاد من القرآن الكريم هو ضرب من القول في القرآن بالاجتهاد.
وتكمن خطورته في كونه حديثا يؤسس لواحدة من السنن التي يقوم عليها فهم معاني القرآن وتعيينُ القصد الشرعي فيه، وما كان كذلك لزم بناؤه على القطع واليقين ما أمكن، لأن ما كان أساسا وأصلا يحكم به على التفسير فلا ينبغي أن يكون ظنيا.

أما الصعوبات الخاصة بالنماذج فتتمثل في اتساع رقعة البحث. ذلك أن إثبات سننية اللسان في تعيين القصد، مضافا إليها إثبات سننية العلاقة بين مكونات اللسان وأثرِها في تعيين القصد، لا يكفيان في التأسيس لسنة اللسان. فقصارى ما يتيحه الإثباتان هو تقديم الإطار النظري لسنة اللسان، وللعلاقة بين مكوناته، ولأثر ذلك كله في تعيين القصد الشرعي. ومن ثم لزم الاستناد إلى نماذج تطبيقية تبرهن على الكفاية التفسيرية لسنة اللسان، وتؤكد حاكميتها على سائر أشكال التعامل مع القرآن الكريم، وتكشف عن قدرتها النقدية لسائر أشكال ذلك التعامل.
وفيما يتعلق بالمناهج التي وظفتها للاشتغال بهذا الموضوع فقد تنوعت بحسب ما اقتضته طبيعة القضايا المختلفة التي عالجها البحث.
– فالمنهج الوصفي: تم اعتماده في وصف المادة المعجمية عند دراسة المفاهيم، ووصف النماذج المعتمدة في الجانب التطبيقي من البحث.

– والمنهج الاستقرائي: تم اعتماده في بناء مفاهيم البحث من خلال استقراء وتتبع جزئياتها الدلالية على المستويين المعجمي والاصطلاحي من أجل الوصول إلى حكم دلالي كلي في شأن المفهوم المدروس يكون هو المعنى النهائي الذي تؤسس عليه الدراسة باقي مراحلها. وقد تم اعتماد الاستقراء الناقص في اختيار النماذج المعتمدة بغرض اختبار الكفاية المنهجية لكون اللسان سنة في تعيين القصد الشرعي.

– والمنهج التاريخي: تم اعتماده في دراسة المفاهيم، وخاصة في الجانب المتعلق بالتطور الدلالي. وتم اعتماده أيضا في النماذج المعتمدة في كل محطة من محطات الدراسة؛ حيث تم تنويع النماذج واختيارها من حقب زمنية متباعدة لتعكس بشكل أفضل سننية اللسان المراد إثباتها في هذا البحث.

– والمنهج التحليلي: تم اعتماده لدى تحليل النصوص وما تم وصفه من مفاهيم وما تم استقراؤه من نماذج.

– والمنهج النقدي: تم اعتماده عند نقد المفاهيم، خاصة مفهوم اللغة الذي احتل المساحة الدلالية لمفهوم اللسان. وتم اعتماده أيضا عند نقد المداخل المنهجية والأدوات الإجرائية المعتمدة، وذلك في ضوء الرؤية المستفادة من القرآن الكريم عن سنة اللسان وعلاقتها بالقصد.

إن الاشتغال بإشكالات هذا البحث قد أتاح فرصة التوصل إلى جملة من النتائج، أبرزها:
– أن البحث قد اجتهد في دراسة المفاهيم المفتاحية دراسة مفهومية وافية نظرا لأن وضوح المفهوم ضروري لوضوح العمل بمقتضاه، وكان من نتيجة ذلك أن تمت إعادة بناء المفاهيم على نحو كان له أثره في تشكيل الإطار النظري الذي تأسس عليه البحث.

– أن البحث قد تمكن من إثبات سننية اللسان عموما، وسننيته في إدراك القصد الشرعي خصوصا، وسننية اللسان العربي في تعيين القصد الشرعي على نحو أخص.

– أن البحث قد أثبت سننية العلاقة بين مكونات اللسان وأثرها في تعيين القصد الشرعي.

– أن البحث قد برهن على الكفاية التفسيرية لتلك السننيات جميعا من خلال تقديم بعض النماذج.

– أن البحث قد تمكن من تقديم قالب نظري نقدي مستفاد من القرآن الكريم تُعْرَضُ عليه المداخل المنهجية والأدوات الإجرائية التي تعتمدها أي دراسة تتعامل مع القصد القرآني.

– أن البحث قد كشف عن كون سنة اللسان واحدة من السنن المنهجية التي جعلها القرآن الكريم معينة على فهمه، ومن شأن استحضار هذه السنة أن يجعل العلوم المعنية بفهم الخطاب الشرعي مؤَمنة لإدراك القصد على سبيل الجزم أو التقريب والتغليب، ومانعة من ضياعه، ومن شأن هذا الاستحضار أيضا أن يجعل العلوم المعنية بالامتثال للخطاب الشرعي قادرة على ترجمة مراد الله من البشر إلى سلوك ملموس في حياة البشر.

إن هذا البحث ليس نهاية المطاف في دراسة الإشكال الذي سعيت إلى حله، وإنما لهذا البحث مزيد من الآفاق، لعل أبرزها:

– إفراد “القصد الشرعي” بدراسة مفهومية مستقلة تكشف عن الحدود الدقيقة لوصله بالمعنى والمقاصد وفصله عنهما.

– البحث عما إذا كانت للسان مستويات سننية زائدة عن المستوى الكوني والتكويني والاستخلافي والعمراني والتكليفي ومستوى السننية في تعيين القصد.

– الكشف عن سننية اللسان من خلال السنة البيان من أجل تحقيق إشباع تأصيلي لسنة اللسان وأثرها في تعيين القصد الشرعي.
– توسيع رقعة النماذج المقدمة للبرهنة على الكفاية التفسيرية لسنة اللسان (بين الجهاز والإنجاز) وأثرها في تعيين القصد الشرعي.

وختاما فإنني أحمد الله تعالى على أن وفقني ويسر لي إتمام هذه الدراسة، فله الحمد على ما أنعم وأولى وله الفضل فيما أسدى وأعطى، وما توفيقي إلا بالله وعليه يتوكل المتوكلون وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق