مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةمفاهيم

سلسلة في رحاب المصطلح الصوفي: “الشوق والاشتياق” -2-

ذة. كريمة بن سْعاد    

 إن أعظم وأرقى شعور في الوجود، هو حب الله تعالى، والاشتياق إليه،  وإلى حبيبه المصطفى ﷺ. فقد كان سيدنا محمد ﷺ يقول في  دعائه: (…اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ… وَأَسْأْلُكَ لَذَّةَ  النَّظَرِ إلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ  مُضِلَّةٍ…)[1].

   ولهذا كان لأهل الله من الصوفية الكرام، شأن عظيم في الشوق، حتى  أنهم جعلوا منه مقاما من مقامات التصوف، وعِلما من علوم القوم  الكشفية، معتبرين إياه منزلة من منازل السالكين إلى الله سبحانه  وتعالى.

   فالشوق أو الاشتياق عند الصوفية، حاضر وبقوة ضمن كلامهم وفي  أشعارهم، فتارة يقصدون به شوقهم إلى الله عز وجل، وتارة لنبيهم  ﷺ وروضته الشريفة، وتارة أخرى يقصدون به شوقهم لأحبتهم من  أولياء الله وصفوة خلقه.

 الشوق في اللغة:

   جاء في لسان العرب معنى الشَّوْقِ والاشْتياقِ على أنه “نزاع النفس  إلى الشيء…، وحركة الهوى، أو تعلقها به”،[2] وجَمْعُ الشوق هو:  “أشواق”.[3] ويقال أيضا: شاقَني الشيء يَشُوقُني، فهو شائِقٌ، وأنا  مشوقٌ، وشَوَّقَني فَتَشَوَّقْتُ، إذا هَيَّجَ شَوْقَكَ.[4] جميع هذه المصطلحات  تصب في معنى واحد، هو اشتياق النفس لما يستهويها ويجعلها تميل  إليه، وتتعلق به، وتأمل دائما للوصول إليه أو لقائه، إلا أن الغالب على  حال الصوفية كما أسلفنا الذكر، هو شدة الشوق والاشتياق للقاء الله  ومجاورة نبيه محمد ﷺ. وهو أعلى درجات الشوق.

   أما في الاصطلاح فالاشتياق له تعريفات عديدة، منها: “انجذاب باطن  المحب إلى المحبوب حال الوصال؛ لنيل زيادة اللذة أو دوامها”[5]. وجاء على لسان أبي علي الدقاق أن:”الشوق يسكن باللقاء والرؤية، والاشتياق لا يزول باللقاء… والاشتياق يزيد به”.[6] 

   أما النصرآباذي فقد جعل مقام الاشتياق متفرِّدا على مقام الشوق، إذ  لا يتأتى في نظره لأي كان، لعلو درجته، وصعوبة دوامه إلا بشرط  الفناء، وقتل النفس فيه، حيث قال: “للخلق كلهم الشوق، وليس لهم  مقام الاشتياق، ومن دخل في حال الاشتياق هام فيه، حتى لا يرى له  أثر ولا قرار”.[7]

   لا شك أن دوام الحال من المحال، إلا في حالة الاشتياق تلك، والتي  يتّصف بها عباد الرحمن وخاصته، من أولياء الله، والعارفين، فهو  اشتياق أبدي متواصل، ما دامت الروح في الجسد، يقول أحمد بن  عجيبة “الشوق انزعاج – اهتياج- القلب إلى لقاء الحبيب: والاشتياق ارتياح القلب إلى دوام الاتصال به، فالشوق يزول برؤية الحبيب،  والاشتياق لا يزول أبدا، لطلب الروح الزيادة في كشف الأسرار،  والقرب إلى الأبد”.[8]

   وقال ابن عربي: “الشوق هو ما يسكن باللقاء، فإنه هبوب القلب إلى  غائب، فإذا ورد سكن”،[9] وقد سئل الجنيد: “من أي يكون بكاء المحب  إذا لقي المحبوب؟ فقال إنما يكون ذلك سروراً به، من شدة الشوق“.[10]

   ومن العلماء الصوفية من اقترن تعريفه للشوق بالمحبة، كقول كمال  الدين القاشاني:الشوق يعنون به قواصف قهر المحبة بشدة ميلها إلى  إلحاق المشتاق بمشوقه، والعاشق بمعشوقه”.[11]

   والواقع أن الشوق ملازم للمحبة، كيف لا والمشتاق إليه هو رب  العزة والملكوت، المتنزه عن كل التشبيهات والنعوت، وشوقه ذاك  أذهب الضلال، وأتى بالنور، وأبدل الكدرات بالطمأنينة والسرور، يقول  المحاسبي: “الشوق هو سراج نور من نور المحبة، غير أنه زائد على  نور المحبة الأصلية، والمحبة الأصلية هي نور الإيمان”.[12] فكلما  كان حبك للشيء كبيرا كلما كان شوقك له أكبر، وفي تصاعد مستمر،  وقد صدق أحمد بن قدامة المقدسي حين لخص ذلك في قوله:  “الشوق ثمرة من ثمارها[المحبة]، فإن من أحب شيئا اشتاق إليه”.[13]

   وفي نفس الصدد يقول القشيري: “الشوق اهتياج القلوب إلى لقاء  المحبوب، وعلى قدر المحبة يكون الشوق“.[14]

    أما ابن القيم الجوزية فقد قسم الشوق إلى ثلاث درجات:

 -“الدرجة الأولى : شوق العابد إلى الجنة، ليَأمَن الخائف ويفرح  الحزين، ويظفر الآمل، يعني شوق العابد إلى الجنة فيه هذه الحكم  الثلاث.

 – الدرجة الثانية: شوق إلى الله عز وجل، زرعه الحب الذي ينبت على  حافات (المنن)،[15] فعلق قلبه بصفاته المقدسة، فاشتاق إلى معاينة  لطائف كرمه، وآيات بره، وأعلام فضله.

 – الدرجة الثالثة: نار أضرمها صفوة المحبة، فنغصت العيش، وسلبت  السلوة، ولم يكفها قرار دون اللقاء”.[16]

   ويعتبر أيضا أن الشوق هو “أثر من آثار المحبة، وحكم من أحكامها،  فإنه سفر إلى المحبوب في كل حال.[17]

 أما الشيخ محمد بن زياد العليماني فقد جعل للشوق ثلاث مقامات:

• “شوق إلى الجنة

• والشوق إلى ما في الجنة من حظ

• والشوق إلى الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم ومحادثته وكلامه”.[18]

  إن القلب السليم هو قلبٌ تَشَبَّعَ بحب الله، وخشيته، والشوق إليه،  فهو مَلِكُ الأعضاء، وجميع الجوارح جنوده، فإذا صَلُحَ صلُحتْ  وانضبطت جميعها، وإذا فَسَدَ تمَرّدت و فسُدتْ هي الأخرى.

  وقد لُخص كل هذا في تعريف ليحيى بن معاذ حين عرف الشوق وقال:  “وعلامته-أي الشوق- فطام الجوارح عن الشهوات”.[19]

  ويقول أبو الحسن الشاذلي: “الشوق هي جمرة تتوقد في القلب،  فيصير أحوال القلب على القلب”.[20]

  وقد تشتاق الروح إلى لقاء خالقها وبارئها وتنتظر ذلك الانتقال من  عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وهي فرحة مستبشرة و مستأنسة  بجواره سبحانه وتعالى، قيل للجنيد البغدادي: “إن أبا سعيد الخراز كان  كثير التواجد عند الموت، فقال: لم يكن بعجب أن تطير روحه اشتياقا”.[21]

   ويقول سري السقطي: “الشوق أجلّ مقام للعارف إذا تحقق فيه، وإذا  تحقق في الشوق لهَاَ عن كل شيء يُشغله عمن يشتاق إليه”[22].

   وأما ابن عطاء الله السكندري فيصف الشوق على أنه “واردٌ جمالي  ينقسم إلى قسمين: شوق العوام للحور والقصور، وشوق الخواص  للشهود والحضور، شوق العوام لنعيم الأشباح، وشوق الخواص لنعيم  الأرواح، شوق العوام ناشئ من قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ  وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً  فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾، وشوق الخواص ناشئ عن قوله تعالى: ﴿ورضوان  من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم﴾[23].”[24]

 أبيات شعرية صوفية عن الشوق:

يقول سيدي أبي مدين شعيب الغوث:

       ومن عجب أني أحن إليهـــم                     

                     وأسأل شوقا عنهم وهم معـــــي

    وتبكيهم عيني وهم في سوادها                  

                       ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي[25]

ويقول أيضا:

تضيق بنا الدنيا إذا غبتموا عنا            

                  وتزهق بالأشواق أرواحنا منــا     

إذا اهتزت الأرواح شوقا إلى اللقاء             

            نعم ترقص الأشباح يا جاهل المعنى

          كذلك أرواح المحبين يا فتـــى                       

                تُهَزِّزُها الأشواق للعالم الأسنـــى    

   أنلزمها بالصـبر وهي مشوقـــة                

                  وهل يستطيع الصبر من شاهد المعنى[26]

ويقول أيضا:

     ولهيب وجد هيجته روضــةٌ    من أجلها حلت من الصبر القوى

     بل زاد شوقـي للحبيب ورامةٍ    والأبرَقَينِ وما لِمُنعرج لـــوى

    تاللهِ ما شوقـي لطيبة بعدما   زُرتُ الحبيب وقبلهُ إلاَّ سوى[25]

الهوامش

 

[1] سنن النسائي، تحقيق: السيد محمد السيد، و علي محمد علي، دار الحديث-القاهرة، ط1999م، كتاب: السهو، رقم 1304.  

[2] لسان العرب، ابن منظور، تحقيق: عامر أحمد حيدر، ط 2/2009م، دار الكتب العلمية، مادة [شوق].

[3] المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ط 4/2008م، مادة [شوق].

[4] كتاب الصحاح، إسماعيل الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، ط4/  1990م، مادة: [شوق]

[5] التعريفات-علي بن محمد الجرجاني-توفي: 816هـ/1413م.

[6] الرسالة القشيرية، أبو القاسم القشيري، تحقيق: معروف مصطفى زريق، المكتبة العصرية ط2/2005م، ص.ص:329-343.

[7] الرسالة القشيرية، ص:329.

[8] معراج التشوف إلى حقائق التصوف، أحمد بن عجيبة، تحقيق: عبد المجيد خيالي، ط 1/2004م، ص:36.

[9] موسوعة الكسنزان، 12/ 343.

[10] الرسالة القشيرية، ص:333.

[11] نفس المصدر السابق، 12/ 335.

[12] نفسه، 12/ 332-333.

[13] نفسه، 12/ 338.

[14] الرسالة القشيرية، ص: 329.

[15] المنن: أي جوانبه.

[16] مدارج السالكين، ابن القيم الجوزية، تحقيق: عماد عامر، دار الحديث، ط 2005م، 3/50-51.

[17] المصدر السابق، 3/45.

[18] موسوعة الكسنزان، 12/ 340.

[19] المصدر السابق، 3/ 45.

[20] نفسه، 12/ 342.

[21] تاج العارفين، الجنيد البغدادي، تحقيق: سعاد الحكيم ، دار الشروق، ط3/2007م، ص: 141.

[22] الرسالة القشيرية، ص: 332.

[23] سورة التوبة، الآية 72.

[24] إبعاد الغمم عن إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ابن عجيبة الحسني،تحقيق:عاصم إبراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية، ط، 1/2009م.ص: 282.

[25] ديوان أبي مدين شعيب الغوث، تحقيق: عبد القادر سعود وسليمان القريشي، ط 1/2011، ص:29.

[26] المصدر السابق، ص:38.

[27] نفسه، ص: 45.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق