"فلنتوجه بالثناء إلى صانع النور، حتى اليوم الذي تنتهي فيه بأمره أيامنا، ولينقض آخر فجر لنا في حمده، وليذب في نهار ليس له مساء أو صباح.." راسين.
أولا: أنواع الرؤية
تنقسم الرؤية إلى نوعين: رؤية قلبية؛ بالضمير أو بالنفس، ورؤية يقينية بوساطة جهاز الإبصار وهو العين، فعلى سبيل المثال قوله تعالى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ (النمل: 56)، هنا تبصرون بمعنى تعلمون، أما في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ (الرعد: 2)، فالرؤية هنا رؤية حقيقية بالعين[1]. وبالعين يتبيّن الإنسان الأشياء والموجودات تلك التي تمتلك أبعادًا مناسبة كي يقضي معايشه ويصرف أموره وأعماله. غير أنها لا تستطيع تبيان ما صغر من الموجودات كالجزيء والذرّة والجسيمات الأولية وأجزائها[2]، ولا ما كبر من الموجودات؛ كالمجرّات، مثلا، فهي لا تدرك من خلق الله تعالى من الأجسام أو الطاقات التي لم يشأ أن نراها؛ كالموجة والفوتون والملائكة والشياطين وهذا ما أكّده قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ (الأحزاب: 9).
ومن فضل الله تعالى أنه خلق النور صنو العين، إذ لا فائدة ترجى من العين بلا نور، فهي لا تبصر إلا بتلقي الضوء وبعد سلسلة من التفاعلات الفيزيائية الكيماوية[3] تغدو إشارات مبثوثة يتسلمها المخ بزمن قصير جدا تعطي الطباع اللوني للمنظورات. ذلك أن العين تحتوي في شبكيتها على نوعين من أعصاب التسلم: نوع يسمى المخاريط وآخر يسمى القضبان وأعدادها بالملايين؛ فأما المخاريط فتستجيب للضوء الساطع وتفسر الألوان وأما القضبان فتميز التغيرات في شدة الضوء وهي حساسة للضوء الخافت[4] ألم تر قوله تعالى: ﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ (النور: 39)؛ بمعنى أنه لم يقرب من أن يراها من شدة الظلمة[5].
كذلك لو طمست العين لذهب عنها الإبصار وذلك جلي في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾ (يس: 65).
ويذهب الإبصار عن العين أيضا لو غلقت أو سدّت بأي شكل كان، وبيان ذلك قوله تعالى: ﴿لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ (الحجر: 15).
والنور ضوء لابد له من مصدر، فهو إذن صادر، وفي هذا قول إلهي بليغ: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ (النور: 42).
والضوء أسرع رسول نعرفه، ومصداق قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ (النحل: 77)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ (القمر: 50). بدليل ارتباطها بالبصر.
ثانيا: ماهية اللون
اللون مرئي ذو طول موجي (أو تردد)[6] وإطلاقنا كلمة تردد بمعنى أنه ذو اهتزاز وهو صفة الضوء من الطيف المرئي. ولنا أن نعلم أن ليس كل ضوء يرى، فالضوء على أقسام ثلاثة ترتيبها من الطول الموجي الأقصر إلى الطول الموجي الأطول كالآتي:
الأشعة فوق البنفسجية، فالضوء المرئي، فالأشعة تحت الحمراء. ولو علمنا أن الضوء بأقسامه الثلاثة هو جزء من الطيف الكهرومغناطيسي[7] لاستنتجنا أن نسبة ما يرى من هذا الطيف يسير، غير أنه غير كاف لانتفاع الناس به.
ثالثا: مصدر الضوء
لو أثيرت الإلكترونات في ذرة ما انتقلت قافزة من مستوى طاقة أدنى إلى آخر يعلوه على وفق ما امتصت من طاقة مقدارًا فغدت ذرة مثارة، والذرة تكره الإثارة وميالة بطبيعتها إلى الاستقرار[8] فلا تلبث أن تستقر خلال واحد من مائة مليون جزء من الثانية أو بحدود ذلك، إذ يقفل الإلكترون عائدًا إلى مستوى أدنى من الطاقة باعثًا الطاقة التي سبق وأن امتصها. هذه الطاقة ليست إلا اهتزازات مجالية وليست جسمية. في حين أن مصدرها جسيمي تتمثل لنا في ضوء مرئي أو غير مرئي..
إن الطيف المرئي يندرج من أطوالها طولًا موجيًا إلى أقصرها طولًا موجيًا كالآتي: الأحمر فالبرتقالي فالأصفر فالأخضر فالأزرق فالنيلي فالبنفسجي على أن هذه الألوان ليست بالألوان الأساسية، إنما الألوان الأساسية ثلاثة: الأحمر والأصفر والأزرق، وإذا مازجتها ظهرت لك ألوان أخرى على وفق نسب المزج؛ فلو مزجت الأصفر والأزرق ظهر لك اللون الأخضر بنسبة 100 بالمائة إلى 50 بالمائة، ولو مزجت اللون الأحمر واللون الأصفر لظهر لك اللون البرتقالي وهكذا والقائمة تطول.
ومن الواجب معرفة أن اللون ليس بصيغة؛ فاللون ضوء والصيغة مادة تعكس الضوء (اللون) والصبغات الأساسية ثلاثة: الصفراء والفيروزية والأرجوانية، فالصبغة الصفراء تعكس من الضوء الأبيض لونين هما: الأحمر والأخضر لكنها تمتص اللون الأزرق في حين أنها تمتص اللون الأحمر والأزرق في حين أنها تمتص اللون الأخضر، ولو مازجت بين الصبغات الأساسية الثلاثة بنسب متساوية لظهر السواد وتفسير ذلك يكتسي أهمية خاصة في موضوع بحثنا؛ فامتزاجها يظهرها كما لو أنها تأكل بعضها البعض؛ إذ تمتص إحداهما ما تعكسه الأخرى، ومن هنا يتبين لنا أن السواد ليس بلون قابل للرؤية، إذ كيف لنا أن نرى لونا لا يصل منه للعين شيئا من الضوء. ومن ثم فإحساسنا رؤية اللون الأسود إنما يأتي من خلال ما يحيط به من ألوان تحدده توضح حواشيه وأطرافه وفي هذا المعنى أحسن الشاعر[9] حين قال:
فِيهَـا اثْنَتانِ وأَرْبعونَ حَلُوبَـةً
سُوداً كَخافيةِ الغُرَابِ الأَسْحَـمِ
ولو سألت، إذن، ما سبب أن السوادات ليست على درجة واحدة من السواد والنقاء؟ نقول: وجب لك أن لا تنسى أن أي جسم لابد وأن يعكس آخر أو يعكس نسبة من البياض تجعل الأجسام ذات تفاوت.
رابعا: ظواهر ضوئية
أول هذه الظواهر: "الإنارة" وهي ضوء مشع بلا حرارة وينبعث من تهيج ذرة بوساطة مثير من الأنواع المختلفة للإشعاع الكهرومغناطيسي وهي على نوعين:
- الفلورة وتدوم لمدة زمنية قصيرة لا تعدو أجزاء من الثانية.
- الفسفرة وتدوم لعمر أطول.
ومن الأمثلة المشهورة على مصادر ضوء الإنارة ما ينبعث من الحشرات واليراعات ليلا، ومن بعض الأنواع من السمك والعضويات الطافية فوق سطوح المياه.
وثانيها: "الاستطارة[10]" حالة يجري فيها امتصاص الضوء ثم بثه بوساطة إلكترونات المواد العالقة في المحاليل أو بعض دقائق الأتربة والملوثات المكونة له.
فتأمل معي قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ﴾ (النحل: 79). ولتلاحظ أمرين: 1. ارتباط الرؤية اليقينية بالضوء بصورة غير مباشرة بدليل قوله تعالى: ﴿فِي جَوِّ السَّمَاءِ﴾؛ لأن جو السماء هو الذي يظهر الرؤية ولولاه لما كانت هناك رؤية لجو السماء، إذ أن زرقة السماء عائدة إلى جوها، ولولا الجو لبدت سوداء ألم تر أنه لم يقل في الجو أو في السماء. 2. أن الطير لا يستطيع العيش ولا الطيران إلا في جو السماء.
إن الضوء المستطار يكون بكل الاتجاهات لكنه يختلف ما يستطار من لون لآخر على وفق نسبة معينة في اتجاه ما، فإذا تلقت العين الضوء عندما تكون قبالة الضوء الأبيض الساقط على وسط فيه دقائق عالقة ذات أقطار مناسبة رأت الحمرة طاغية، وإذا وقعت العين متعامدة مع سقوط الضوء الأبيض طغت الزرقة وإلى هذا تعزى زرقة السماء ضحى وحمرتها عند الشروق والغروب.
وحقيقتها لا زرقاء ولا حمراء، وإلى هذا أيضا يعزى لون العيون وألوان ريش بعض الطيور كالمطوقات الحمام، والعرب تقول عن الفجر أن فجران كاذب وصادق والفجر الكاذب ضوء مستطيل والصادق منتشر[11].
وإن الخضرة قد تحتمل لغة أن تعني الزرقة كما ورد في الحديث الشريف: "ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر[12]"، إن العيون لو كانت صيغة زرقاء لبدت كل الموجودات لصاحبها زرقاء وسوداء ليس إلا. كما لو وضع أمام عينيه زجاجتين زرقاوتين وهذه لعمري عيشة لا تحلو.
الهوامش
[1] هناك قولان في هذه الرؤية: أولهما؛ ترجع إلى السماء. والثانية؛ ترجع إلى العمد وفي الرؤيتين لا اختلاف إنها رؤية حقيقية.
[2] هناك أجزاء حتى للإلكترون والبروتون نفيه تدعى الكواكات كما أن الله تعالى نفسه لا يرى بدليل قوله : ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ (الأنعام: 104). وبدليل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً﴾ (النمل: 45).
[3] يجري تفاعل كيماوي (وهو عكسي) في خلايا العين يعطي إشارات كهرومغناطيسية بوساطة الأعصاب إلى المخ وهناك يجري تفاعل آخر يعطي الانطباع اللوني.
[4] . النسو وفن الفيزياء، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي-الجامعة التكنولوجية، ص508.
[5] يقول الفراء: يكد صله أي لم يرها. أما المبرد: فيقول لم يرها إلا بعد جهد (يُنظر تفسير الخازن).
[6] طول الموجة يناسب عكسيا مع ترددها.
[7] حدود الأطوال الموجية المرئية بين الأحمر 780 نانوميتر والبنفسجي 380 نانوميتر، بينما يمتد الطيف الكهرومغناطيسي من بضع كيلومترات إلى 10-14 متر؛ أي المرئي 400 نانوميتر من 10 36 نانوميتر.
[8] هذا الميل لا يخلو من جانب فلسفي.
[9] الشاعر هو عنتر العبسي، معلقته (راجع ديوانه أو شرح المعلقات للزوزني).
[10] هناك أنواع أخرى من الاستطارة وهنا نتحدث عن استطارة رايلي.
[11] ابن قتيبة، الأنواء في مواسم العرب، بغداد: دار الشؤون الثقافية 88، ص146.
[12] أحمد القرماني، تاريخ الدول وأثار الأول، ط. حجرية، ص9.