مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

رِفْقاً بِالْقَواريرِ رُوَيْداً

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، وصلوات ربِّنا وسلامه على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين.

وبعد؛ ففي سياق المدِّ التربوي التنويري الذي يشهده القطر المغربي لهذا العهد، ثم جَرْياً مع سَيْب الدَّفْق التجديدي التثقيفي، الذي تَنْتَهِضُ لتوْطيءِ أَفْنيته مُخْتلِف الفيالق العلمية الوصيَّة بالرابطة المحمدية للعلماء، ضمن مقاصدها المرْعيَّة المتصلة بأبعاد الإنسان المسلم الحيَّة (النفسـية، العقلية، الجسدية …)؛ ارْتأينا – بعون الله وحُسْن تسْديده – أن نُبْديَ لجمهرة القُرَّاء الأكارم، نُبذاً تربوية نامية، ونَبْعَثَ رُسُل إشارات دَمِثَة جليَّة؛ تنبيها للنفس وتذْكية للهمَّة والسَّيْر بمعالمها على أوسع الجانبين وأعدل الوجهتيْن، فكان مُثَارُ الحديث الذي بُسط له إِهَابُ الإفهام وجُرِّد له قلم الإفادة؛ مقالة غَرَّاء ظريفة، تُعْنى بنبْذ ملامح تعنيف المؤنسات الغاليات، وترك إعناتهنَّ إلى الرِّفق بهنَّ وإكرام جانبهنَّ، حتى يَرَيْنَ المسـرَّة في سائر أحوالهنَّ بطُول بِرِّ اليد وامتداد شَمْلها وما إليه، وذلك للَّذي باتَ يُرى ويُسْمَع مِن استطالة أُفُق العنف الأسري، واسْتِشْـراء أَمْره حتى مَلَأَ طَيْفُه بَطْنَ كُلِّ واد، وأضحى انتشارُه وذيوعُه موجِباً داعياً لدفعه وتوهين شِرَّته، قال الله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمْعْرُوفِ)[النساء/19] وذلك يكون بالإنصاف في الفعل والإجمال في القول [[1]]، والمعاشرة تعني المخالطة والممازجة بطول الصُّحبة وامتداد ميدانها، ثمَّ إنَّ المعروف إنَّما يتحقَّق بنبْذ حظِّ النفس وهواها مع لزوم نقاوة الفطرة المؤيدة بحكمةالشـرع، قال صلى الله عليه وسلم: (واستوصوا بالنساء خيرا) [[2]]أي اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهنَّ بخير [[3]]، وقال صلى الله عليه وسلم: (رِفْقاً بالقوارير)؛فقد تلطَّف عليه الصلاة والسلام في الكناية بالقارورة (الزجاجة، سميت بذلك لاستقرار الشـراب فيها) عن النساء وطبائعهنَّ، وذلك لأمور ثلاثة [[4]] هي: لما هُنَّ عليه من حفظ الأجنَّة وحَمْلها في قرار مَكين، إذ الوعاءُ كالقارورة التي تحفظ ما فيها فلا تُضَيِّعه، ثم لاختصاصهنَّ بالصفاء والصقالة والحسن والنضارة، ثم للَّذي جُبِلْنَ عليه من الرِّقَّة واللطافة ومسارعة التغيُّر والاِنْثلام، مثلما يُسارع الانكسار إلى القارورة لرقَّتها ورهافة حالها، قال الصادق الرافعي(ت‍ 1356 ه‍) [[5]]: (فإنك تقرأ ما جمع من الكلام النبوي؛ فلا تصيب فيه ما تصيبه في بلاغة أدباء العالم مما فنُّه الكلام في المرأة والحب وجمال الطبيعة، وهو في بلاغة الناس كالقلب في الجسم، لا تخلو منه ولا تقوم إلا به، حتى تجد الكلام في المرأة وحدها شطر الأدب الإنساني، كما أن المرأة هي شطر الإنسانية، ولا يعرف له صلى الله عليه وسلم في هذه الأغراض إلا كلمات بيانية جاءت بما يفوق الوصف من الجمال والدقة، متناهية في الحسن، طاهرة في الدلالة، يظهر في وجه بلاغتها ما يظهر في وجه العذراء من طبيعة الحياء والخَفَر، كقوله في النساء: (رفقا بالقوارير)، فالنساء شأنهن الرِّقَّة واللطافة وضعف البنية، والكناية (القوارير) يراد منها لازم المعنى، فكأنما قيل: رفقاً بالضعيفات المحمولات على المطايا، إذ السَّوْق الشديد في صحبتهنَّ أو العنف في معاملتهن؛فيه قلق للراكبات المُكَرَّمات وزعزعة تحول دون راحتهنَّ وما افترض لهنَّ (عقلا، روحا، جسدا …)، من فرْض الرعاية التامة والصيانة العامَّة، تأهيلا لهن للاِضْطلاع بالمهمَّة الإنسانية الجليلة التي خُلقن لأدائها في تحمل عِبْء الحياة، خاصة في زمن الاِحتراز الزوجي (ميثاق الزوجية) وما يفرضه من الصبر والجلد والمكابدة في تأدية الحقوق وما إليه، ولقد زَخَرَ تراثنا العريق بنماذج أخلاقيةباذخة شريفة المعاني،وظواهر إنسانية مُعْجِبة جَزْلة الألفاظ والمباني، تَأْسِرُ قلب الإنسان وتَغْتَرِقُ جُمْلةَ حواسِّه ومداركه، كمثل الذي جاء في قصة أم زرع مع زوجها أبي زرع [[6]]،وما تضمنته من القيم التربوية الجمَّة، والتوصيف العميق للبعد العلائقي الذي يَصِل الرجل بالمرأة في ظل ميثاق الزوجية (انعقادا وانحلالا وأثرا)، كما يَشِفُّ عن وزْن خُلق الرجل ومنزلته عند صيارفة النساء (مدحا أو ذما)، لأنَّ الدنيا حديثٌ، ولأجل ذلك عَقدت الإحدى عشـرة امرأةً مجلسا بينهنَّ فتعاهدْنَ وتقاسَمْنَأن لا يَكْتُمْن من أخبار أزواجهنَّ وأخلاقهم شيْئاً(زيْنًا أو شَيْناً) إلاَّ بَثَثْنَهُ، بأداء أمين بليغ مُشْرق مُبين، والذي يعنينا في بسْطة هذا الخبر؛ قول الزوجة الأخيرة(الحادية عشرة) وما انطوى عليه من حُلَلِ تعظيم الزوج في القلب وإكباره في النفس، بالَّذي يسترعي حِسَّ الناظر السامع في تقبَّله القبول الحسن، وذلك لمَّا وصَفَتْ أَجْواءَ بيت أبي زرع وأَرْجَاءَه بجميع مشمولاته وعديد شخوصه وتفصيلاته، وذلك في نَفَسٍ مُطَّرد لا يستثني حتى من جرى عرفُ الناس وعادتُهم باستثنائه (جارية أبي زرع)، إذ شَرَفُ المرء بمَنْ يَصْحَب أوإلى مَنْ يَنْتسب، قالت: “أَبو زرع وما أبو زرع، أُمُّ أبي زرع وما أم أبي زرع، ابْنُ أبي زرع وما ابْن أبي زرع،بنت أبي زرع وما بنت أبي زرع، جارية أبي زرع وما جارية أبي زرع“، ثم شرعت في تَعداد صور الحظْوة عند زوجها وتبْدية ألوان التَّكرمة التي مسَّتْها وهي في كَنَف أبي زرع، فقالت: “أَنَاسَ مِنْ حلي أُذنَيَّ”تريد أنَّ زوجها أثقلها بالذهب والفضة وسائر جواهر الزِّينة التي أُشْرِبَ قَلْبُ المرأة حُبَّها والتَّعلق بالاستكثار منها،ثم زادت: “وَمَلَأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ”، فقد أكْنَتْ بامتلاء الجزء منها واكْتنازه عن سائر الجسد، وذلك لكثرة الغذاء ووفور المطعم والمشـرب وما إليه،ووجْه تخصيصها للعضد (ما بين المرفق إلى الكتف) لأنه أقرب ما يلي بصـر الإنسان من جسده، وأول ما يظهر له فيه سِمَنُه، ثم زادت: “وبَجَّحَني فبجحَتْ إليَّ نفـسي”، والبَجَحُ هو الفرح، تريد أنه فرَّحها بتعظيمها، ففرحت لأجل ذلك نفسُها وعظُمت عندها ذاتُها، وتلك غاية السمو الروحي الأعظم التي تجدها الزوجة، ثم ذلك تَرْجُمانٌ يُظْهر أنَّ أبا زرع كان على جانب كبير من تعظيمه لذاته وعرفانه مكانتها، فلذلك فإنه لما صَحِبَها وتحظّاها؛ أفاض عليها من سيْب التنعيم والإكرام والرَّفاهة ما جعلها تُعَظِّم نَفْسَها،فَتَرى لها سُورَةً ومنزلةً تجعل كلَّ نسوة العالم دونها يَتَذَبْذَبْنَ، ثم لنعلم أنَّ الرجل الذي يريد فَرْض هيْبته وعظمته بتحقير المرأة وتجريحها بل وتنكير ذاتها (ظُلْماً وهَضْماً)؛ لا يَجْني من وراء كل ذلك إلا ضَعَةً وسقوطاً ولؤْما …، ثم وصفته بأنه كان سببا في نقلها من ضيق العيش وشظفه إلى سعة الثروة وعلوّ النَّبْوَةباكتساب صنوف المال، من الخيل والإبل والزرع والبقر والدواب الدائسة الكثيرة، والخدَم والآلات المُنَقِّية للطعام المُصْلِحة لهوما إلى ذلك، ولاسيَّما ما يُداس ويُنَقَّى وهو الخبز، فإنه كان أرفع أغذية العرب وأعزَّ أطعمتها، قالت: “فعنده أقول فلا أُقبَّح، وأرقد فأتصبّح، وأشرب فأتقنَّح”فهي تشير إلى حالة الإشباع الروحي واسْتوساق الأمن النفسـي المكرَّسَيْن في أَرْيَحيَّة الكلام وانسياب تصريفاته، ثم في الرعاية المادية التي يجسدها التأنُّق في المطعم والشرب على رِسْل،وذلك لوفرة الماء واللبن وما إليه، ثم تُرْخي – بعدُ – عِنَانَ الوصف فتُسْبغُ أَحْسَنه على التي كانت سببا في إيجاد أبي زرع وهي أُمّه،” أُمُّ أبي زرع وما أمّ أبي زرع، عكومها رداح وبيتها فساح”، تشير إلى سعة مالها وكثرة خيرها وآلاتها مع سعة بيتها وغزارة مِيرَتها، فثناؤها على أم زوجها ليس متعلقا محضا بذات الممدوحة (أم الزوج) على جهة الاستقلال، بل إنما استحقَّت الأمُّ ما أسبغتْ عليها الزوجة من أنواع الممادح لقربها من الزوج (خالصة النفس)، فلذلك لم تُعَيِّنْ اسمَها بل ذكرتْه مضافاً إلى أبي زرع،وذكرتْ ابن أبي زرع وبنته بل وجاريته، وأصغَر آنية في بيت أبي زرع، مما يُقضى منه العَجَب العاجِب، إلا أنَّ سنة الله في الخلق؛ قد اقتضت أن نعيم الدنيا وسعادتها لا يدومان، فمن سرَّه زمن فلا يأْمننَّ إساءة – امتحانا وابتلاء –والكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت [[7]]، وجلَّ شأن الباري وتبارك وتعالى، ولذلك فإنَّ أبا زرع قد طلَّق أم زرع فانقطعت مودَّةُ بَيْنِهما، ومضـى بفصل قضائه أمس، ثم إنها – رغم كل ذلك – لم تزلْ تذكر بِرَّ أبي زرع (الزوج الأول) وتَلْهَجُ بما أَغْدقَه عليها من الإشباع الروحي والبذْخ العاطفي، حتَّى أعماها ذكْرُه وملأ عليها جواسَّها فيتمثَّل لها في جميع أحوالها بشـراً سويّاً، قال القاضي عياض (ت‍ 544ه‍) رحمه الله: (قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: كنتُ لك كأبي زرع لأُمّ زرع؛ تطييباً لنفسها ومبالغةً في حسن معاشرتها، لما ذكرته أم زرع من حسن صحبته لها وشكرته في جماع حاله معها، ثم استثنى من ذلك الأمر المكروه منه، بقوله عليه الصلاة والسلام: إنه طلَّقها وإنِّي لا أطلقك؛ تتميماً لتطييب نفسها وإكمالاً لطمأنينة قلبها، ورفعا للإيهام، لعموم التشبيه بجملة أحوال أبي زرع، إذ لم يكن فيها ما يذم سوى طلاقه لها) [[8]]، وعليه؛ فَلا يُفهم من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قد تأسَّى بأبي زرع في لين الجانب وجميل العشـرة واقتدى به، كَلاَّ بل إنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأنه لها كأبي زرع، وأَعْلَمَ أنَّ حاله معها مثل حال أبي زرع، لاعلى التأسَّي، لأنَّ التأسي بأهل الإحسان من كل أمة؛ فصحيح ما لم تصادمْه الشريعة، كما أفاده العلامة القاضي عياض رحمه الله.

وإلى الله عناية المقصود، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم


[1]أنوار التنزيل وأسرار التأويل 2/66، دار إحياء التراث.

[2]متفق عليه (أخرجه البخاري برقم3331، 5186 ومسلم برقم 1468).

[3]عمدة القاري 15/212، دار إحياء التراث.

[4]الطراز لأسرار البلاغة للمؤيَّد بالله 1/206.

[5]وحي القلم 3/16.

[6]الحديث متفق عليه (أخرجه البخاري في باب حسن المعاشرة مع الأهل رقم 5189، ومسلم في باب ذكر حديث أم زرع رقم 2448).

[7]مسند الإمام أحمد 17123، سنن الترمذي 2459.

[8]بغية الرائد ص 167.

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق