مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةقراءة في كتاب

“رسالة في الإيمان” للإمام أبي الحسن الأشعري

ألف الإمام أبو الحسن
الأشعري -رحمه الله – رائد الفكر السني تصانيف عديدة في علم
الكلام، ويُعد منهجه العقدي تأسيسا للنظر العقلي الموصول بالشرع الذي
دعا إليه الإسلام وحث عليه، وهو ما شهد له به القاضي عياض في ترجمته له
حين قال: (وصنف لأهل السنة التصانيف، وأقام الحجج على إثبات السنة، وما
نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى، ورؤيته، وقدم كلامه، وقدرته، وأمور
السمع الواردة من الصراط والميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر التي نفت
المعتزلة، وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحجج الواضحة
عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة ودفع شبه المبتدعة…)[1]،
وهذا ما زكاه ابن الحاج في حاشيته على شرح ميارة على المرشد المعين حيث
اعتبره: (أول من تصدى لتحرير عقائد أهل السنة وتخليصها، ودفع الشكوك
والشبه عنها، وإبطال دعوى الخصوم، وجعل ذلك علما مفردا بالتدوين…)[2]،
فاجتمعت له الحسَنتين؛ حسنة التحرير والتلخيص للعقائد وحسنة دفع الشبه
والشكوك عنها. 

وقد اهتم العلماء قديما وحديثا
بمصنفات الشيخ أبي الحسن الأشعري التي بلغت حسب قائمة الإمام أبي بكر
محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني (تـ 406ﻫ) إلى حدود سنة (320هـ) ما
يزيد على تسعين كتابا، وأضاف ابن عساكر الدمشقي إليها بعض المصنفات إلى
حدود سنة (324ﻫـ) وهي السنة التي توفي فيها الإمام الأشعري.. ومعظم
مؤلفات هذه الفترة القصيرة من حياة الإمام الأشعري التي يذكرها ابن
عساكر يغلب عليها طابع الرد أو نقض بعض الآراء المخالفة لعقيدة أهل
السنة والجماعة، مما يعني أن الإمام الأشعري ظل يدافع عن عقائد أهل
السنة التي تمثل مذهب أهل الحق إلى أن توفي رضي الله
عنه. 

وهكذا عدت مؤلفاته أساسا في التنظير
للمذهب الأشعري عامة، والتي نذكر منها:

– كتابه “مقالات الإسلاميين واختلاف
المصلين” وهو أجمع هذه الكتب وأبسطها في مقالات الناس المختلفين في أصول
الدين، ويتضمن مختلف آراء الفرق الإسلامية ويعد من أقدم المصنفات في هذا
الباب، حكى فيه الإمام الأشعري مذاهب خصومه بدقة وأمانة ثم بعد ذلك رد
عليهم ردا علميا هادئا. 

– ثم كتابه “اللمع في الرد على أهل
الزيغ والبدع” وهو مصنف مختصر عرض فيه عقائد أهل السنة والجماعة عرضا
يعتمد العقل والنقل معا مع التوسل بأسلوب الجدل
الكلامي. 

– وكتابه “رسالة إلى أهل الثغر” الذي
حرص فيه على إبانة معتقدات أهل السنة والجماعة في نطاق (ما أجمع عليه
السلف من الأصول التي نبهوا بالأدلة عليها وأمروا في وقت النبي صلى الله
عليه وسلم بها) كما يقول بنفسه. 

– وكذلك كتابه “الإبانة عن أصول
الديانة” الذي سلك فيه منهجا وسطا بين المعتزلة والحشوية وقد كان في هذا
الكتاب أقرب إلى مذهب أصحاب الحديث القائم على
التفويض. 

– ثم أيضا “رسالة استحسان الخوض في
علم الكلام” ومضمون هذه الرسالة كما يدل عليه عنوانها التدليل على جواز
الاشتغال بعلم الكلام الذي حكم بناة الخطاب الحشوي بتحريمه، وفي أحسن
الحالات بتبديع المشتغل به، على الرغم من أهميته وشرف
موضوعه. 

– ومن ذلك أيضا “رسالة في الإيمان”
التي نعرض لها في هذا المقال. وتعتبر الرسائل  شكلا من أشكال
التأليف عند القدامى؛ يعمد فيها المؤلف لوضع مناقشات علمية متينة بأدلة
وحجج، قد تكون راجعة إلى مناظرة علمية بينه وبين خصمه، أو إملاء من
المؤلف على تلامذته في حلق الدرس، وقد حققت هذه الرسالة ونشرت مؤخرا[3]،
بما يوحي بإمكانية ظهور رسائل أخرى قد يكشف عنها التاريخ لاحقا، ورسالة
الإيمان هاته عبارة عن جواب متعلق بسؤال قٌدِّم إلى الإمام الأشعري عن
الاختلاف الحاصل حول (مسألة الإيمان، هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟)، وذكر
حجج الخصوم الواردة في ذاك، وإيضاحه الحق فيها، وقد عدّها ابن عساكر من
قائمة مؤلفات الأشعري فقال: (وقد وقع إلي أشياء لم يذكرها في تسمية
تواليفه؛ فمنها (رسالة في الحث على البحث)، و(رسالة في الإيمان وهل يطلق
عليه اسم الخلق)…) [4]. 

ولذلك عدَّت في الأصل من إملاءات أبي
الحسن الأشعري على تلميذه ابن مقسم، أملاها عليه ببغداد كما ورد ذلك في
مقدمتها، يقول ابن مقسم في بدايتها: [أملى علي أبو الحسن علي بن إسماعيل
الأشعري هذه المسألة ببغداد، قال:

(الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا
لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق) [الأعراف/43] صلى
الله عليهم أجمعين.

سألت –وفقنا الله وإياك- عن
اختلاف أصحابنا من أهل السنة والمثبتين للصفات في الإيمان: هل هو مخلوق
أو غير مخلوق؟ وذِكْر ما احتجت به كل طائفة منهم، وإيضاح الحق عندي في
ذلك] [5].

وقد شغلت مسألة الإيمان [هل هو مخلوق
أم غير مخلوق؟] جانبا هاما من جوانب البحث في كتب علم الكلام بين الفرق
الكلامية، وشملت جزءا كبيرا من تصانيفهم بحثا وتدقيقا، وهي تشبه في
طريقتها ذلكم النقاش المستفيض الذي دار حول مسألة خلق القرآن أيام
انتصار الفكر الاعتزالي زمن العباسيين وذاق من مرارتها بعض الفقهاء زمن
المتوكل، وكان أن فصل الأشعري القول فيها تفصيلا في رسالته إلى أهل
الثغر حين قال: (إن قال قائل: لم قلتم إن الله تعالى لم يزل متكلما وإن
كلام الله تعالى غير مخلوق؟ قيل له: قلنا ذلك لأن الله تعالى قال: (إنما
قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)، فلو كان القرآن مخلوقا
لكان الله تعالى قائلا له: كن، والقرآن قوله، ويستحيل أن يكون قوله
مقولا له..)[6]. 

ثم فرق الشيخ أبو الحسن الأشعري من
خلال “رسالة في الإيمان” بين أسماء الذاهبين إلى القول بكون الإيمان
مخلوقا وبين غيرهم، وهي المسألة التي أجملها ابن عساكر في كتابه بقوله:
(وكذلك قالت المعتزلة والجهمية والنجارية: الإيمان مخلوق على الإطلاق،
وقالت الحشوية المجسمة: الإيمان قديم على الإطلاق، فسلك رضي الله طريقة
بينهما..) [7].

وهذا بيانه في المسألة:

1- المذهب الأول: مذهب من قال أن
الإيمان مخلوق، حيث قال:

 [فممن ذهب إلى أنه مخلوق:
حارث المحاسبي، وجعفر بن حرب، وعبد الله بن كلاب، (…) وعبد العزيز
المكي، وغيرهم من أهل النظر] [8].

وذكر من حججهم في ذلك ما
يلي: 

[وكان من حجتهم أنهم اعتبروا الأشياء
فوجدوها كلها مخلوقة سوى الله تعالى بصفاته، فلما خرج الإيمان عن أن
يكون صفة لله تعالى، وكان من فعل العبد ووصفه، علم أنه مخلوق] [9].

2- المذهب الثاني: مذهب من قال أن
الإيمان غير مخلوق، قال –رحمه الله-:

[وذُكر عن أحمد بن حنبل وجماعة من أهل
الحديث أنهم قالوا: إن الإيمان غير مخلوق] [10]

ثم قال معقبا عليه: [وهذا القول أشبه
بالاتباع الذي أمر رسول الله (ص) فقال: (اتبعوا ولا تبتدعوا، فكل بدعة
ضلالة)] [11].

ثم ذكر حجة القول الثاني قائلا:
[ولهذا القول من النظر وجه يؤيده ويدل على صحته؛ وهو أن صفة المخلوق: ما
كان بعد أن لم يكن، ووجد بعد أن لم يكن موجودا] [12]. 

وقد ناقش هذا القول وفنده بقوله:
[فاحتجنا أن نعرض هذا المعنى على الإيمان ونعتبره، هل يصح أن يضاف إليه
ويوصف به؟ أو هو مضاد له ومنتف عنه؟ فوجدناه غير صحيح في العبرة ولا
مستقيم في الحجة؛ لأنا لو قلنا: إنه مخلوق؛ كنا أثبتنا أنه غير موجود
قبل خلقه، فكان الحال التي سبقت خلقه وتقدمته لم يكن فيها إيمان ولا
توحيد، وفي هذا القول من الفساد ما لا خفاء به] [13].

3- المذهب الثالث: وهو مذهبه في ذلك
والذي عبر عنه –رحمه الله- بالقول: 

(الإيمان إذا أطلق ولم يضف إلى مخلوق
كان داخلا في جملة صفات الله تعالى ومشابها لها، مع أن نص الكتاب قد ورد
بذلك، قال الله تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام
المؤمن المهيمن العزيز الجبار)[الحشر/23] إلى آخر الآية، فسمى نفسه
مؤمنا في جملة أسمائه التي سمى بها نفسه، وليس لأحد أن يصرف هذا الاسم
عن ظاهره، ولا يعدل به عن وجه يحتمله إلى وجه غيره، بل هو المؤمن على
جميع الأحوال عز وجل أن يشبه بالمخلوقين أو يوصف بصفات المحدثين)
[14].

ثم عرض حجته في إثبات ذلك ومخالفة
القائلين بغيره بالقول: (وإنما دخلت الشبهة على من قال بخلاف هذا عند
قياسه الفاسد؛ وذلك أنه نظر إلى المخلوقين فاعتبر بأحوالهم وصفاتهم
فوجدها مخلوقة، ووجد الإيمان من صفاتهم، فقضى عليه أنه مخلوق. أفتراه لم
يعلم أن العلم والكلام من صفات المخلوقين، وهما من الله عز وجل غير
مخلوقين ولا محدثين؟) [15].

وأخيرا خلص إلى إثبات حجته بالقول:
(ومن زعم أن كلامه عز وجل أو علمه مخلوق أو محدث فقد كفر بالله العظيم)
[16].

وزيادة في توضيح الأمر على من اختلط
عليه ذلك، عرض الشيخ أبو الحسن الأشعري ما داخل القول بأقدمية الإيمان
قائلا: 

(فإن قال قائل: متى قلت إن الإيمان
غير مخلوق ولا محدث فقد زعمت أنه قديم، ولا يجوز أن يكون مع الله تعالى
شيء قديم؛ إذ كان (الله سبحانه وتعالى) ولا شيء معه، ثم خلق
الأشياء؟

 فالجواب: أن هذا القول
يطرّق أهل الزيغ أن يقولوا في كلام الله تعالى وفي علمه وصفاته كلها
أنها محدثة مخلوقة، وما يحتج به على من قال ذلك وادعاه في القرآن والعلم
والصفات، فمثله يحتج على من ألزم هذا الإلزام)[17]، وبذلك أنهى رسالته
في بيان القول في الإيمان هل هو مخلوق أم غير مخلوق باختيار القول الوسط
في ذلك والجامع بين الأخذ بالنقل الصحيح والعقل الصريح، وهذا ما يعكس
لنا المكانة العلمية التي كان يتمتع بها أبو الحسن الأشعري ويرجع إليه
في تقرير هذه المسائل المختلف فيها بين الفرق الكلامية.

 

     
           
           
           
           
      إعداد الباحث: منتصر الخطيب

 

الهوامش:

 

[1] ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك،
للقاضي عياض، -تحقيق: د. محمد بنشريفة، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون
الإسلامية- 5/24.

[2] حاشية العلامة محمد الطالب ابن
الحاج حمدون على شرح ميارة لمنظومة ابن عاشر المسماة “بالمرشد المعين
على الضروري من علوم الدين”، طبعة مطبعة :صالح مراد الهلالي سنة 1348
هـ- 1/18.

[3] صدرت عن دار الحديث الكتانية، ضبط
وتقديم: عبد المولى اموراق-  الطبعة الأولى/2017.

[4] تبيين كذب المفتري فيما نسب
إلى الإمام أبي الحسن الأشعري لابن عساكر الدمشقي- عني بنشره: القدسي
وطبع سنة 1347هـ- ص: 136.

[5] رسالة في الإيمان – ص:
86.

[6] كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ
والبدع- أبو الحسن الأشعري- صححه وقدم له وعلق عليه: حمودة غرابة- مطبعة
مصر/1955- ص: 33.

[7] تبيين كذب المفتري- ص:
150-151.

[8] رسالة في الإيمان- ص:
86-87.

[9] رسالة في الإيمان- ص: 87.

[10] رسالة في الإيمان- ص:
88.

[11] نفسه.

[12] نفسه.

[13] نفسه.

[14] رسالة في الإيمان- ص:
90.

[15] نفسه.

[16] رسالة في الإيمان- ص:
91.

[17] نفسه.

 

يُعد الإمام أبو الحسن الأشعري -رحمه الله –
صاحب “رسالة في الإيمان” – رائد الفكر السني الأشعري، كما
يُعد منهجه العقدي تأسيسا للنظر العقلي الموصول الذي دعا إليه الإسلام
وحث عليه، وفق ما شهد له القاضي عياض في ترجمته للإمام الأشعري حين قال:
(وصنف لأهل السنة التصانيف، وأقام الحجج على إثبات السنة، وما نفاه أهل
البدع من صفات الله تعالى، ورؤيته، وقدم كلامه، وقدرته، وأمور السمع
الواردة من الصراط والميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر التي نفت
المعتزلة، وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحجج الواضحة
عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة ودفع شبه المبتدعة…)[1]،
وهذا ما زكاه ابن الحاج في حاشيته على شرح ميارة على المرشد المعين حيث
اعتبره: (أنه أول من تصدى لتحرير عقائد أهل السنة وتخليصها، ودفع الشكوك
والشبه عنها، وإبطال دعوى الخصوم، وجعل ذلك علما مفردا بالتدوين…)[2]،
فاجتمعت له الحسنتين؛ حسنة التحرير والتلخيص للعقائد وحسنة دفع الشبه
والشكوك عنها. 
وقد اهتم العلماء قديما وحديثا بمصنفات الشيخ أبي الحسن
الأشعري التي بلغت حسب قائمة الإمام أبي بكر محمد بن الحسن بن فورك
الأصبهاني (تـ 406ﻫ) إلى حدود سنة (320هـ) ما يزيد على تسعين كتابا،
وأضاف ابن عساكر الدمشقي إليها بعض المصنفات إلى حدود سنة (324ﻫـ) وهي
السنة التي توفي فيها الإمام الأشعري.. ومعظم مؤلفات هذه الفترة القصيرة
من حياة الإمام الأشعري التي يذكرها ابن عساكر يغلب عليها طابع الرد أو
نقض بعض الآراء المخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة، مما يعني أن الإمام
الأشعري ظل يدافع عن عقائد أهل السنة التي تمثل مذهب أهل الحق إلى أن
توفي رضي الله عنه. 
وهكذا عدت مؤلفاته أساسا في التنظير للمذهب الأشعري عامة،
والتي نذكر منها:

كتابه “مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين” وهو أجمع هذه الكتب وأبسطها
في مقالات الناس المختلفين في أصول الدين، ويتضمن مختلف آراء الفرق
الإسلامية ويعد من أقدم المصنفات في هذا الباب، حكى فيه الإمام الأشعري
مذاهب خصومه بدقة وأمانة ثم بعد ذلك رد عليهم ردا علميا
هادئا. 

ثم كتابه “اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع” وهو مصنف مختصر عرض فيه
عقائد أهل السنة والجماعة عرضا يعتمد العقل والنقل معا مع التوسل بأسلوب
الجدل الكلامي. 

وكتابه “رسالة إلى أهل الثغر” الذي حرص فيه على إبانة معتقدات أهل السنة
والجماعة في نطاق (ما أجمع عليه السلف من الأصول التي نبهوا بالأدلة
عليها وأمروا في وقت النبي صلى الله عليه وسلم بها) كما يقول
بنفسه. 

وكذلك كتابه “الإبانة عن أصول الديانة” الذي سلك فيه منهجا وسطا بين
المعتزلة والحشوية وقد كان في هذا الكتاب أقرب إلى مذهب أصحاب الحديث
القائم على التفويض. 

ثم أيضا “رسالة استحسان الخوض في علم الكلام” ومضمون هذه الرسالة كما
يدل عليه عنوانها التدليل على جواز الاشتغال بعلم الكلام الذي حكم بناة
الخطاب الحشوي بتحريمه، وفي أحسن الحالات بتبديع المشتغل به، على الرغم
من أهميته وشرف موضوعه. 

ومن ذلك أيضا “رسالة الإيمان” التي تضمنت مناقشات علمية متينة بأدلة
وحجج، وقد حققت هذه الرسالة ونشرت مؤخرا [3]، وهي عبارة عن جواب متعلق
بسؤال قٌدِّم إلى الإمام الأشعري عن الاختلاف الحاصل حول (مسألة
الإيمان، هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟)، وذكر حجج الخصوم الواردة في ذاك،
وإيضاحه الحق فيها، وقد عدّها ابن عساكر من قائمة مؤلفات الأشعري فقال:
(وقد وقع إلي أشياء لم يذكرها في تسمية تواليفه؛ فمنها (رسالة في الحث
على البحث)، و(رسالة في الإيمان وهل يطلق عليه اسم الخلق)…)
[4]. 
والرسالة في الأصل من إملاءات أبي الحسن الأشعري على
تلميذه ابن مقسم، أملاها عليه ببغداد كما ورد ذلك في مقدمتها، يقول ابن
مقسم في بدايتها: [أملى علي أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري هذه
المسألة ببغداد، قال:
(الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا
الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق) [الأعراف/43] صلى الله عليهم
أجمعين.
سألت –وفقنا الله وإياك- عن اختلاف أصحابنا من
أهل السنة والمثبتين للصفات في الإيمان: هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟
وذِكْر ما احتجت به كل طائفة منهم، وإيضاح الحق عندي في ذلك] [5].
وقد شغلت مسألة الإيمان [هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟] جانبا
هاما من جوانب البحث في كتب علم الكلام بين الفرق الكلامية، وشملت جزءا
كبيرا من تصانيفهم بحثا وتدقيقا، وهي تشبه في طريقتها ذلكم النقاش
المستفيض الذي دار حول مسألة خلق القرآن أيام انتصار الفكر الاعتزالي
زمن العباسيين وذاق من مرارتها بعض الفقهاء زمن المتوكل، وكان أن فصل
الأشعري القول فيها تفصيلا في رسالته إلى أهل الثغر حين قال: (إن قال
قائل: لم قلتم إن الله تعالى لم يزل متكلما وإن كلام الله تعالى غير
مخلوق؟ قيل له: قلنا ذلك لأن الله تعالى قال: (إنما قولنا لشيء إذا
أردناه أن نقول له كن فيكون)، فلو كان القرآن مخلوقا لكان الله تعالى
قائلا له: كن، والقرآن قوله، ويستحيل أن يكون قوله مقولا
له..)[6]. 
ثم فرق الشيخ أبو الحسن الأشعري في “رسالة الإيمان” هذه
بين أسماء الذاهبين إلى القول بكون الإيمان مخلوقا وبين غيرهم، وهي
المسألة التي أجملها ابن عساكر في كتابه بقوله: (وكذلك قالت المعتزلة
والجهمية والنجارية: الإيمان مخلوق على الإطلاق، وقالت الحشوية المجسمة:
الإيمان قديم على الإطلاق، فسلك رضي الله طريقة بينهما..)
[7].
وهذا بيانه في المسألة:
1- المذهب الأول: مذهب من قال أن الإيمان مخلوق، حيث
قال:
 [فممن ذهب إلى أنه مخلوق: حارث المحاسبي، وجعفر
بن حرب، وعبد الله بن كلاب، (…) وعبد العزيز المكي، وغيرهم من أهل
النظر] [8].
وذكر من حججهم في ذلك ما يلي: 
[وكان من حجتهم أنهم اعتبروا الأشياء فوجدوها كلها مخلوقة
سوى الله تعالى بصفاته، فلما خرج الإيمان عن أن يكون صفة لله تعالى،
وكان من فعل العبد ووصفه، علم أنه مخلوق] [9].
2- المذهب الثاني: مذهب من قال أن الإيمان غير مخلوق، قال
–رحمه الله-:
[وذُكر عن أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث أنهم قالوا:
إن الإيمان غير مخلوق] [10]
ثم قال معقبا عليه: [وهذا القول أشبه بالاتباع الذي أمر
رسول الله (ص) فقال: (اتبعوا ولا تبتدعوا، فكل بدعة ضلالة)] [11].
ثم ذكر حجة القول الثاني قائلا: [ولهذا القول من النظر وجه
يؤيده ويدل على صحته؛ وهو أن صفة المخلوق: ما كان بعد أن لم يكن، ووجد
بعد أن لم يكن موجودا] [12]. 
وقد ناقش هذا القول وفنده بقوله: [فاحتجنا أن نعرض هذا
المعنى على الإيمان ونعتبره، هل يصح أن يضاف إليه ويوصف به؟ أو هو مضاد
له ومنتف عنه؟ فوجدناه غير صحيح في العبرة ولا مستقيم في الحجة؛ لأنا لو
قلنا: إنه مخلوق؛ كنا أثبتنا أنه غير موجود قبل خلقه، فكان الحال التي
سبقت خلقه وتقدمته لم يكن فيها إيمان ولا توحيد، وفي هذا القول من
الفساد ما لا خفاء به] [13].
3- المذهب الثالث: وهو مذهبه في ذلك والذي عبر عنه
–رحمه الله- بالقول: 
(الإيمان إذا أطلق ولم يضف إلى مخلوق كان داخلا في جملة
صفات الله تعالى ومشابها لها، مع أن نص الكتاب قد ورد بذلك، قال الله
تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن
العزيز الجبار)[الحشر/23] إلى آخر الآية، فسمى نفسه مؤمنا في جملة
أسمائه التي سمى بها نفسه، وليس لأحد أن يصرف هذا الاسم عن ظاهره، ولا
يعدل به عن وجه يحتمله إلى وجه غيره، بل هو المؤمن على جميع الأحوال عز
وجل أن يشبه بالمخلوقين أو يوصف بصفات المحدثين) [14].
ثم عرض حجته في إثبات ذلك ومخالفة القائلين بغيره بالقول:
(وإنما دخلت الشبهة على من قال بخلاف هذا عند قياسه الفاسد؛ وذلك أنه
نظر إلى المخلوقين فاعتبر بأحوالهم وصفاتهم فوجدها مخلوقة، ووجد الإيمان
من صفاتهم، فقضى عليه أنه مخلوق. أفتراه لم يعلم أن العلم والكلام من
صفات المخلوقين، وهما من الله عز وجل غير مخلوقين ولا محدثين؟)
[15].
وأخيرا خلص إلى إثبات حجته بالقول: (ومن زعم أن كلامه عز
وجل أو علمه مخلوق أو محدث فقد كفر بالله العظيم) [16].
وزيادة في توضيح الأمر على من اختلط عليه ذلك، عرض الشيخ
أبو الحسن الأشعري ما داخل القول بأقدمية الإيمان
قائلا: 
(فإن قال قائل: متى قلت إن الإيمان غير مخلوق ولا محدث فقد
زعمت أنه قديم، ولا يجوز أن يكون مع الله تعالى شيء قديم؛ إذ كان (الله
سبحانه وتعالى) ولا شيء معه، ثم خلق الأشياء؟
 فالجواب: أن هذا القول يطرّق أهل الزيغ أن
يقولوا في كلام الله تعالى وفي علمه وصفاته كلها أنها محدثة مخلوقة، وما
يحتج به على من قال ذلك وادعاه في القرآن والعلم والصفات، فمثله يحتج
على من ألزم هذا الإلزام) [17]، وبذلك أنهى رسالته في بيان القول في
الإيمان هل هو مخلوق أم غير مخلوق باختيار القول الوسط في ذلك والجامع
بين الأخذ بالنقل الصحيح والعقل الصريح، وهذا ما يعكس لنا المكانة
العلمية التي كان يتمتع بها أبو الحسن الأشعري ويرجع إليه في تقرير هذه
المسائل المختلف فيها بين الفرق الكلامية.
الهوامش:
[1] ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك،
للقاضي عياض، -تحقيق: د. محمد بنشريفة، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون
الإسلامية- 5/24
[2] حاشية العلامة محمد الطالب ابن الحاج حمدون على شرح
ميارة لمنظومة ابن عاشر المسماة “بالمرشد المعين على الضروري من علوم
الدين”، طبعة مطبعة :صالح مراد الهلالي سنة 1348 هـ- 1/18
[3] صدرت عن دار الحديث الكتانية، ضبط وتقديم: عبد المولى
اموراق-  الطبعة الأولى/2017
[4] تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن
الأشعري لابن عساكر الدمشقي- عني بنشره: القدسي وطبع سنة 1347هـ- ص:
136
[5] رسالة في الإيمان – ص: 86
[6] كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع- أبو الحسن
الأشعري- صححه وقدم له وعلق عليه: حمودة غرابة- مطبعة مصر/1955-
ص:33
[7] تبيين كذب المفتري- ص: 150-151
[8] رسالة في الإيمان- ص:86-87
 [9] رسالة في الإيمان- ص:87
[10] رسالة في الإيمان- ص:88
[11] نفسه
[12] نفسه
[13] نفسه
[14] رسالة في الإيمان- ص:90
[15] نفسه
[16] رسالة في الإيمان- ص:91
[17] نفسه
إعداد الباحث: منتصر الخطيب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق