رسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني إيرادات وأجوبة (8)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
وبعد فهذه أوراق في محاولة الذب عن هذا العلق النفيس «متن الرسالة» من خلال أجوبة عن إيرادات عليه تغض من قيمته الفقهية، وتزري بمكانته الاجتهادية؛ استنادا إلى تمهيد أسست على متين بنيانه إيرادات قادحة، سنوردها بعده واحدة واحدة محاولين تثويرها والإجابة عنها:
وقد أنيخت مطايا النظر في رحاب الإيراد الخامس، وجملته: ادعاء أننا لا نلفي في الرسالة إلا تلخيصا لمسائل قد حررت أصولها، وبينت مآخذها، ونقحت مسالكها في أصول المذهب وأمهاتها
وقد مضى أن الشيخ قد ظهر في طور بلغ فيه الفقه أوجه تقريرا لأدلته، وتمهيدا لمآخذه، وتحريرا لمسائله، وتنقيحا لعلله، وتصنيفا لأمهاته عبر قرون ثلاثة: الأول والثاني والثالث، تتعاوره العقول بإمعان النظر، وتتداوله الأقلام بإتقان التأليف في اقتراء مكيث، وتتبع مهيل([1]) فلم يبق لأهل المائة الرابعة وما بعدها إلا التخريج عن روايات الإمام وأقوال الأصحاب، أو النظر فيهما إطلاقا وتقييدا، تعميما وتخصيصا، شرحا وتأويلا، تأصيلا وتعليلا، جمعا وتهذيبا، تنظيما وتقريبا، أو مراجحة وتغليبا:
ومع هذا الذي تقرر فقد قال رحمه الله في خاتمة رسالته في شأن من درس الرسالة ونظر فيها أنه:«يفهم كثيرا من أصول الفقه وفنونه»([2]) وهو كذلك إذا أمعن النظر في مسائلها، ورد فروعها إلى الأصول والكليات المنتزعة منها، ومن ذلك أنه خير في كثير من المسائل، وأطلق في أخرى لتطرق الاحتمال إلى نصوص الشرع، أو الروايات أو الأقوال، أو لغيرها من النكت التي سنقف عليها من خلال هذه المعاقد: معاقد التخيير والإطلاق والإهمال:
وقد مضى لنا المثال الأول في معقد التخيير، أما النص الثاني ففي أقل الطهر: قال رحمه الله: «حتى يبعد ما بين الدمين مثل ثمانية أيام أو عشرة فيكون حيضا مؤتنفا»([3]) قال شارحه: «واعلم أن الشيخ أراد بقوله «مثل ثمانية أيام أو عشرة» الإخبار بأن المسألة اختلف فيها على قولين فكأنه يقول: مثل ثمانية أيام في قول، أو عشرة في قول.. يفهم منه إرادة التخيير»([4])
فالشيخ هـهنا اقتصر وخير، اقتصر على قولين؛ لمعنى سنبينه، وخير بينهما كذلك لمأخذ سنورده، وفي المسألة ـ أعني أقل الطهر ـ خمسة أقوال:
1- خمسة أيام قاله ابن الماجشون.
2- وقيل ثمانية أيام قاله سحنون.
3- وقيل عشرة أيام قاله ابن حبيب.
4- وقيل خمسة عشر يوما قاله ابن مسلمة، وشهره ابن شاس وابن الحاجب
5- وقيل ما يراه النساء قاله مالك من رواية ابن القاسم.
فأما القول الأول فلا أعلم له وجها، وهو أضعفها؛ لمخالفته ظاهر النص الشرعي، والنص المذهبي، ولمخالفته النظر أيضا؛ لأن القول به يفضي إلى أن تحيض المرأة أكثر من نصف زمانها.
وأما الثاني فهو ظاهر نصي المدونة، إذ فيها:
أ- «قال: وقال مالك: في امرأة رأت الدم خمسة عشر يوما ثم رأت الطهر خمسة أيام، ثم رأت الدم أياما، ثم رأت الطهر سبعة أيام؟ قال: هذه مستحاضة»([5])
بـ- «قال: فقلت: وما عدة الأيام التي لا تكون بين الدمين طهرا؟ فقال: سألت مالكا فقال: الأربعة الأيام والخمسة وما قرب، فلا أرى ذلك طهرا، وإن الدم بعضه من بعض إذا لم يكن بينهما من الطهر إلا الأيام اليسيرة الخمسة ونحوها»([6])
وتأويل الشيخ للنصين معا أن مالكا لم ير سبعة أيام طهرا، وجعلها في حيز اليسير، وعضده بقوله في النص الثاني«الخمسة وما قرب» والذي قرب من الخمسة اثنان كما بينوه، فتكون سبعة، فالظاهر منهما أن السبعة الأيام في حيز اليسير، والثمانية في حيز الكثير، فهذا وجه استقراء الشيخ رحمه الله([7])
وأما القول الثالث فهو رواية الأندلسيين عن مالك، ورواية أصبغ عن ابن القاسم، ويؤيده تأويل نصي المدونة في جعل تسعة أيام في حيز اليسير، وما قرب من الخمسة في النص الثاني ثمانية أيام.
وأما القول الرابع فهو أظهر في النظر، وأوفق للأثر؛ لقوله تعالى: (والمطلقـت يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، ثم جعل الشارع بإزاء كل قرء شهرا في عدة اليائسة فقال: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن)، فيستفاد من ذلك بدلالة الإشارة أن أقل الطهر خمسة عشر يوما، ويقوي هذه الدلالة حديث: (تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي) ([8])؛ ولقوته شهره ابن شاس وابن الحاجب، وقال الرجراجي: «وما عداه من الأقوال لا حظ لها في النظر، ولا ارتباط لها بالأثر»([9])
والقول الخامس اعتبر عادة النساء وعرفهن، فصادم نص المدونة.
فهذا حاصل مبنى هذه الأقوال، ويتحصل من ذلك أن الشيخ جمع بين نصوص المدونة في قوله الأول، واعتبر برواية الأندلسيين ورواية أصبغ عن ابن القاسم في قوله الثاني؛ لأن ظاهر نصي المدونة يؤيده على تأويل «وما قرب» بالتسعة فما دونها؛ لهذا كله اقتصر على القولين، وخير بينهما؛ لتساويهما نصا وتأويلا، وأهمل الأقوال الثلاثة؛ لكونها خارج المدونة؛ ولضعف دلالة الإشارة والحديث، ولم يعتبر العادة هـهنا؛ لمصادمتها منصوص المدونة بإطلاق والله أعلم.
([1]) ن للتوسع الفكر السامي للحجوي:2/398، والإنصاف في بيان أسباب الخلاف لولي الله الدهلوي:53.
([7]) ن مناهج التحصيل للرجراجي:1/164-165.
([8]) قال الزيلعي في نصب الراية:1/193: قال ابن الجوزي في التحقيق: «واستدل أصحابنا وأصحاب مالك والشافعي على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما بحديث رووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي" قال: وهذا حديث لا يعرف، وأقره صاحب التنقيح عليه» يعني الذهبي.