مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

رحلة العلامة العبدري إلى فلسطين

[ذكر الخليل]

قال أبو عبد الله محمد بن محمد العبدري( توفي بعد 700هـ) بعدما خرج من أيلة إلى الشام: ثم وصلنا بعد ثمانية أيام إلى المحل الأنيس، والمعهد الذي يُتخير فيه مَقيل وعريس، والمنزل الذي حكم له القدرُ بالسعادة حين التأسيس، مثوى كلِّ خاشع ومنيب، ومستقر كل خائف حذرٍ من التَّأنيب، ومناخ كل مشتاق يحنُّ محنين النّيب، حرم الخليل عليه السلام، وهي قرية مليحة المنظر، أنيقة المسموع والمبْصر، مشرقة كالصبح إذا أَسْفر، موضوعة ببطن واد قليل الماء والشجر، والمحيط بها حرار وَعْرة، والمسجد بنيّة أنيقة، من المباني القديمة الوثيقة، عالية البناء، محكمة العمل، من صخور منحوتة في نهاية العِظم؛ منها صخرة في الركن الذي على يسار القبلة وهي من الأرض على قدر القامة، فيها سبعة وثلاثون شبراً، يتعجب الناس منها ومَن وضعها هنالك، ويقال: إن البنيّة كلها من صنعة الجِن أمرهم سليمان عليه السلام بتجديدها، على الغار لما دَثُر ما كان عليه بتقادم الأعصار، وفيها تحريف عن الجنوب إلى المشرق؛ فلما ردت مسجدا جعل لها المحراب في الوسط كسائر المساجد تحسيناً لصورته، ثم رد الركن الأيمن محرابا آخر تنبيها على تشريقها، وفي داخل المسجد قبر الخليل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، وتقابلها من ناحية يسار القبلة ثلاثة أخرى هي قبور أزواجهم، وكان في غربي المسجد قبر يوسف عليه السلام، دفن هنالك حين نقل من مصر بوصية، والآن قد زيد في المسجد حتى رجع قبره في داخله، وعلى يمين المنبر لاصقا بجدار القبلة نفق يُهبط منه على دَرَج من رخام، متقنة العمل إلى مسلك ضيق هو ممر إنسان واحد، ويفضي إلى فسحة ليست بكبيرة مفروشة بالرخام، وفيها صور ثلاثة قبور مقابلة للداخل في طول الحائط مصطفة من الشرق إلى الغرب، ويقال: هي علامة للقبور محاذية لها، وكذلك التي في المسجد، وذلك أنه كان هنالك غار كبير وفيه القبور، ثم سدَّ كله إلا بالمدخل المذكور، وجعل للقبور علامات محاذية في بطن الغار وهي التي في المدخل، وفي ظاهره، وهي التي في المسجد، وكان باب الغار في مؤخر المسجد عند قبر يعقوب كما سيأتي ذكره، ثم ردَّ عند المحراب كما ذكرنا، وقد نزلت إليه وتأملته مراراً، ودعوت الله فيه سرا وجهارا، والحمد لله على حسن عونه.

[مقابر الأنبياء]

وقد رأيت أن أُقيد هنا شيئا مما ذُكر في القبور وفي الغار وما يتصل بذلك بحول الله وقوته، وما التوفيق إلا به. وجدت بخط الفقيه، القاضي، المحدث، الإمام، أبي عبد الله محمد بن أحمد بن مُفرِّج الأندلسي ـ رحمه الله ـ في تأليف علي بن جعفر الرازي الذي سمّاه «المسفر للقلوب عن صحة قبر إبراهيم الخليل وإسحاق ويعقوب»، وهو جزء لطيف نقلته من خط ابن مفرج ـ رحمه الله ـ وهو روى فيه عن مؤلفه المذكور حديثا صدر به التأليف مسندا إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أسري بي إلى بيت المقدس مرَّ بي جبريل إلى قبر إبراهيم صلى الله عليه وسلم ثم مر بي ببيت لحم فقال: انزل صَلِّ هاهنا ركعتين، فإن هاهنا قبر أبيك إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ثم مر بي في بيت لحم فقال: انزل صل هاهنا ركعتين فإن هاهنا ولد أخوك عيسى، ثم أتى بي إلى الصخرة».

وذكر الحديث في الإسراء. وفي الجزء المذكور بخطه سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن عمرو بن جابر يقول ـ وقد سئل عن قبر إبراهيم الخليل صلوات الله عليه ـ وعن صحته فقال: ما رأيت أحدا من الشيوخ الذين لحقتهم من أهل العلم إلا وهم يصححون أن هذه قبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأزواجهم صلوات الله عليهم، ويقولون: ما يطعن في ذلك إلا رجل من أهل البدع، وقال أبو بكر : هذا نقل الخلف عن السلف ليس عندي فيه شك. وذكر أبو بكر أن مالك بن أنس قال: إن النقل أصحّ من الحديث؛ لأن الحديث ربما وقع فيه الخطأ، والنقل لا يقع فيه الخطأ. وفيه بخطه: سمعت عبدالواحد بن رزق يقول: قدم أبو زرعة القاضي الدمشقي إلى مسجد قبر إبراهيم فجئنا لننظر إليه، فرأيته وقد وقف عند قبر سارة في وقت الصلاة، فدخل شيخ فدعاه، فقال: يا شيخ أيما هو قبر إبراهيم من هؤلاء؟ فأومأ إلى قبر إبراهيم، فجاءه شاب فدعاه فقال: يا شاب ! أيما قبر هو قبر إبراهيم من هؤلاء؟ فأومأ إلى قبر إبراهيم.

ثم جاءه صبي فدعاه فقال: يا صبي! أيما هو قبر إبراهيم من هؤلاء، فأومأ الصبي إلى قبر إبراهيم ومضى. فقال أبو زرعة: أشهد أن هذا قبر إبراهيم الخليل لاشك فيه، هذا هو الصحيح نقل الخلف عن السلف كما قال مالك بن أنس، ثم دخل إلى داخل المسجد فصلى الظهر ثم رحل من الغد.

وفيه بخطه سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن عمرو بن جابر يقول: خرجت سنة من السنين أنا وأبو بكر بن الـمَرْجي وجماعة من أهل العلم والورع إلى مسجد قبر إبراهيم، وكان لهم إمام يكنى بأبي حامد فقال لنا: رأيت في ليلة النصف من شعبان وقد ركعت، وقعدت عند المنبر، فنعست، فرأيت فيما يرى النائم كأنَّ آتيا أتاني فقال: تحب أن تنظر إلى القوم؟ وقد كنت أسأل الله أربعين سنة أن يرينيهم، فقلت: نعم، فأخذ بيدي إلى مؤخر المسجد قريبا من قبر يعقوب عليه السلام فقلع بَلاطةً فإذا أضاء منها النهار، فدخل ودخلت معه، وإذا القبور صفٌّ واحد؛ الرجال صف، والنساء صف، كما هم فوق، على كل واحد منهم غطاء أبيض، فوفع غطاء قبر يعقوب فإذا هو كهل من الرجال كثير بياض اللحية، ملقى على قفاه، مستقبل القبلة، فقال: هذا يعقوب، ثم رد عليه الغطاء، ومضى حتى أتى قبر إبراهيم في الوسط وعليه غطاء أبيض فرفعه، فإذا شيخ أبيض الرأس واللحية، أبيض الحاجبين، كأنَّ وجهه القمر، وهو على قفاه مستقبل القبلة.

فقال: هذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ورد عليه الغطاء ومضى ومضيت معه، ثم جاء قبر إسحاق فقلت في نفسي: ليت فلانا كان معي حتى يراهم، فالتفت إلي، وهو أمامي فقال: إن فلانا لا يقدر أن ينظر إلى هؤلاء؛ لأنه مشاحن، والمشاحن لا يرى هؤلاء، ثم انتبهت ولم أبلغ قبر إسحاق قال: فحكيت هذه الحكاية لعلي بن محمد بن هارون إمام كان في مسجد إبراهيم أقام به نحو عشرين سنة فقال: أنا رأيت باب المغارة في مؤخر المسجد، وأراني بلاطة وقال: هذه على الباب، وهو دَرج ينزل منه، ثم يعطف إلى القبلة قريبا من قبر يعقوب.

[سكنى إبراهيم عليه السلام الشام]

وفيه بخطه عن كعب الحبر حديث في سكنى إبراهيم الشام، قال فيه: ثم أوحى الله إليه أن انزل مِـمْرى فرحل ونزل ممرى، ونزل عليه جبريل وميكائيل بممرى وهما يريدان إلى قوم لوط. فخرج إبراهيم ليذبح لهم العجل، فانفلت منه، فلم يزل حتى دخل مغارة حَبْرون، ونودي إبراهبم: سلِّم على عظام أبيك آدم، فوقع ذلك في نفسه، ثم ذبح العجل، وقدمه إليهم، وكان من شأنه ما قص الله تعالى، فمضى إلى قربٍ من ديار قوم لوط فقالوا له: اقعد هنا،فقعد واستلقى على قفاه، فلما رأى المدن انقلبت بأهلها وسمع صياح الديَّكة في السماء قال: هذا هو الحق اليقين، فأيقن بهلاك القوم، فسمي ذلك الموضع مسجد اليقين.

ثم رجع فطلب من عَفْرون المغارة، قال: وكان مَلك ذلك الموضع، فقال له بِعْنِي موضعا أقبر فيه من مات من أهلي، فقال له: أيّها الشيخ الصالح ادفن حيث أردت، فأبى عليه إلا بثمن، فقال: أبيعك بأربعمائة درهم، في كل درهم خمسة دراهم، كل مائة منها ضَربُ ملك. وأراد أن يشدد عليه لكي لا يجد فيرجع إلى قوله، فخرج من عنده، فإذا بجبريل عليه السلام فقال: إن الله عز وجل قد سمع مقالة هذا الجبار لك، وهذه الدراهم فادفعها إليه، فدخل عليه إبراهيم ودفع إليه الدراهم، فقال: من أين لك هذا؟ قال: من عند إلهي ورازقي، فأخذ الدراهم، فصارت المغارة مقبرة له ولمن مات من أهله.

قال: وأول من مات من أهله ودفن في حبرون سارة زوجة إبراهيم، ثم توفي إبراهيم فدفن بحذائها ثم توفيت ربقة زوجة إسحاق فدفنت فيها، ثم توفي إسحاق فدفن بحذائها، ثم توفي يعقوب فدفن عند باب المغارة، ثم توفيت لِيغا فدفنت بحذاء يعقوب، ثم ذكر أن أولاد يعقوب تشاجروا حتى سدوا باب المغارة، وحَوّطوا عليها حائطا، وأعلموا فيها علامات القبور، وكتبوا على كل قبر اسم صاحبه، وخرجوا عنه، وأطبقوا بابه، فكان من جاء زائرا يطوف به، لا يصل إليه أحد، حتى جاء الروم ففتحوا له بابا ودخلوا إليه، وبنوا فيه كنيسة. وفيه بخطه مسندا إلى ابن عباس رضي الله عنه: لما أراد الله أن يقبض روح خليله إبراهيم عليه السلام، أوحى إلى الدنيا إني دافنٌ فيك خليلي، فتشامخت الجبال كلها فرحا، واضطربت أركانها، واستشرفت لذلك، وتواضعت منها بقعة يقال لها: حَبرون فشكر الله تعالى لها ذلك، ودفنه فيها، فقال لها: يا حبرون أنت شوعي أنت شعشوعي، أنت قدسي، أنت قدس قدسي، أدفن خيرتي من خلقي، فيك مغارة كنزي، وإليك أحشر أصفيائي وأحبابي من ولد خليلي من كل فجٍّ، فطوبى لمن وضع جبهته فيك ساجدا لي، أُبوِّئه الأجر، وأجزل له الذخر، وأبارك فيه وفيك أيام الدهر، عليك تنزل بركاتي، وإليك تهبط ملائكتي، يستغفرون لمن زار خليلي وصفيي، فطوباك، لا رفعت رحمتي عنك، ولازال نوري وظلي ينزل عليك، ورحمتي تنحدر عليك، ولا خذلت من زار قبر خليلي، ولازالت بركاتي عليك أيام الدنيا مضاعفة.

وفيه بخطه عن وهب بن منبه اليماني أنه قال: إذا كان آخر الزمان، حيل بين الناس وبين الحج، فمن لم يحج، ولحق ذلك فعليه بقبر إبراهيم عليه السلام، فإن زيارته تعدل حجة. وعن كعب الحبر أنه قال: قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسارة وربقة وليغا، على يوم من بيت المقدس، في البقعة المعروفة بحبرون، فمن زار منكم بيت المقدس فليجعل من زيارته زيارة قبر إبراهيم صلى الله عليه وسلم… فصل [تربة لوط] ثم زرنا تربة لوط، وهي شرقي حرم الخليل عليهما السلام على تلٍّ مرتفع يشرف منه على غور الشام، وهو شرقيها وهناك بحيرة لوط، وهو ماء مستبحر أجاج كماء البحر، وهي منقطعة لا تتصل بالبحر، ولا هي منه قريبة، ويقال: إنها موضع ديار قوم لوط، والله أعلم، وعلى قبر لوط عليه السلام بنيّة، وهو في بيت منها مبيضٍ مليح، والقبر أيضا مبيض، ظاهر، لا ستور عليه، وبمقربة من هذه التربة مسجد اليقين وقد مر ذكره وحديثه في ذكر مغارة حبرون، وهي أيضا على تل مرتفع نزه، له زيادة رونق وفرط إشراق، وليس هنالك إلا دار واحدة لاصقة بالمسجد من ناحية الشرق، يسكنها القيِّم، وفي المسجد قريبا من الباب موضع منخفض في حجر صَلد قد هييء له صورة محراب ليُعْلم أنه مركع، ولا يسع إلا مصليا واحدا، ويقال: إنه لما أيقن إبراهيم عليه السلام بهلاك قوم لوط خرَّ لله تعالى ساجدا، فتحرك موضع سجوده حتى ساخَ في الأرض قليلا، وهو حجر صلد كما تقدم، فجعل مركعا تبركا به، وبالقرب من المسجد مغارة فيها قبر يُزَار، ويتبرك به، وهو قبر فاطمة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم، وقد وجدت عند القبر لوحين من رخام موضوعين، وأظنهما كان مثبتين عند رأس القبر ورجليه، وفي أحد اللوحين منقوشا عليه بخط مشرقي مليح: «بسم الله الرحمن الرحيم، لله العزة والبقاء، وله ما ذرأ وبرأ، وعلى خلقه كتب الفناء، وفي رسول الله إسوة حسنة وعزاء، هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت الحسين».

وفي اللوح الآخر: «صنعة محمد بن أبي سهل النقاش بمصر»… ثم سافرنا من حرم الخليل عليه السلام بعدما أقمنا فيه خمسة أيام وصلينا به الجمعة، إلى بيت المقدس، وبينهما مسيرة يوم، وزرنا في طريقنا قبر يونس عليه السلام، وهو على نحو ثلاثة أميال من بلد الخليل عليه السلام، وعليه بنيّة كبيرة ومسجد، ومررنا في طريقنا ببيت لحم ولم يقض لنا دخوله، وهو قربي من بيت المقدس، وقد تقدم أنه مولد عيسى عليه السلام، والنصارى يعظمونه، ويقومون به غاية القيام، ويضيفون من نزل به.

[ذكر بيت المقدس]

ثم وصلنا إلى بيت المقدس، زاده الله تعظيما، وأَلحفَه مبرة دائمة وتكريما؛ مسجد الأنبياء، وقبلتنا قديما، ومطلع الأولياء يطلعهم عظيما فعظيما، أحد المساجد التي إليها تعمل الـمَطي، وتضاعف الحسنات لكل بر وتقي؛ مصعد نبينا عليه السلام، إلى مستوى يسمع فيه صرير الأقلام، ومعراجه حين عسعس الظلام، إلى مناجاة الملك العلام؛ والقدس المقدس المنقي من الآثام، نُجْعة من راد، وريّ من حام، خفق برقه فوفق من شام، وتدفق وَدْقُه فأفرق ذو الهيام؛ لو نطق محتجا لفضيلة الشام، لأفحم به العراق أي إفحام. والبلد مدينة كبيرة، منيعة، محكمة، كلها من صخر منحوت، على نشز غليظ مقطوع بجهات الأودية، وسورها مهدوم، هدمه الملك الظاهر خوفا من استيلاء الروم عليها، وامتناعهم بها، والخراب فيها فاش، وليس بها نهر ولا بستان، وحواليها تلالٌ مشرفة عليها، وبها كنسية معظمة عند النصارى يحجونها في كل عام، وهي التي يزعمون أن فيها قبر عيسى عليه السلام، وعلى كل من يحجها منهم ضريبة معلومة للمسلمين، وضروب من الإهانة يتحملها راغما، وبها رباطان متقابلان في غاية الإتقان، بنى أحدهما الملك المنصور، وبنى الآخر الأمير علاء الدين الأعمى، وفي كليهما رزق جار للمنقطعين وأبناء السبيل. وفي شرقي البلد واد يعرف بواد جهنم، في بطنه كنيسة يعظمها النصارى، ويقال: إن بها قبر مريم عليها السلام، وفي عُدوته على تلٍّ مرتفع مزارات منها قبر رابعة البدوية بالباء، منسوبة إلى البادية، ومنها بنيّة صغيرة أخرى يقال: إنها مصعد سيدنا عيسى عليه السلام.

[المسجد الأقصى]

وأما المسجد المقدس فهو من المساجد الرائقة، العجيبة، المنشرحة الفسيحة، وهو متسع جدا طولا وعرضا. وذكر أبو عبيد البكري أن طوله: سبعمائة واثنان وخمسون ذراعا بالمالكي، وهو ثلاثة أشبار، وطوله من الجنوب إلى الشمال، وعرضه أربعمائة وخمس وثلاثون، ومن الشرق إلى الغرب، وله أبواب من الشرق إلى الغرب والشمال، ولا أعلم له بابا قِبليّاً سوى الباب الذي يدخل منه الإمام، وذكر بعض الناس أن عددها خمسون بابا. والمسجد كله فضاء غير مسقف إلا الناحية الغربية فهنالك مسجد مسقف في نهاية الإحكام، وإتقان العمل، وفيه تزويق كثير وتذهيب رائع مليح، وهذا المسقف في الركن الغربي من ناحية الجنوب، وفي ناحية الشرق مواضع مسقفة مع طول الحائط، وعلى الأبواب… [قبة الصخرة] وفي وسط فضاء المسجد قبة الصخرة، وهي من أعجب المباني الموضوعة في الأرض وأتقنها، وأغربها، قد نالت من كل حُسن بديع أوفر حصة، وتلت من الإتقان ظاهره ونصّه، وتجلت في جمالها الرائع كعروس حسناء جُليت على منصة، قامت مشرفة متبرجة على يفاع، تصرح وتلوح بالإعراب والإبداع، وتصفح بما يشرح عن فضيلة الصناع، حسّنها الأول فاستحسنها الآخر وانعقد الإجماع؛ تنازع الكمال منها، الظاهر والباطن، لما سَلِما معا من كل عائب وشائن، اجتمعت في كليهما أشتات المحاسن، فإن أدلى الظاهر بحجته إلى حكم الطرف حَكم له، وإن أعرب الباطن عن فضائله قال له الطرف: ما أكمله !. تناصفَ الحسن، وتماثلت الأدلة، فليس إلا أن يقال في جواب المسألة أيهما جاء أولا عَمِلَ عمله.

وصفتها أنها قبة مثمنة على نشز في وسط المسجد، ويُطلع إليها في درج من رخام قد أحاط بها، ولها أربعة أبواب، والدائر مفروش بالرخام المحكم الصنعة وداخلها كذلك، وفي ظاهرها وباطنها من أنواع التزويق ما يقصر عنه الوصف. وأما الذَّهب فما رأيته مبتذلا في شيء كابتذاله في هذه القبة، حتى لقد غشي به أكثرها ظاهرا وباطنها، فهي تتلألأ ساطعة الأنوار؛ كلمعان برق أو اشتعال نار، وقد ذُهِّب الأعلى من ظاهرها إلى حد التسقيف، وألبس سقفها لَين الرصاص المحكم الإلصاق حتى صار جسدا واحد. أما باطنها فيكِلُّ عن وصفه اللسان، ويحار في حُسنه إنسان الإنسان، تبهر الناظر أشعته الباهرة، وتستوقف الخاطر محاسنه الظاهرة، أسكرت العقول فصارت لها عقالا، وأكلَّت الألسن فما وجدت مقالا، فاقت حُسناً وكمالا فقطعت لسان من يغمز، وراقت حلًى وأوصافا فأسرت فؤاد المتحرِّز؛ إن وعدت الإعجاب خبرا فهي مشاهدة تنجز، أو افتخر مكان لِتُحدث من حسنها بالمعجِز.

شَركُ العقول ونزهةٌ ما مثلها للناظرين، وعُقْلَةُ المستوفز وفي وسط القبة الصخرة التي جاء ذكرها في الآثار، وأنه عليه الصلاة والسلام عرج عنها إلى السماء، وهي صخرة صماء، علوها أقل من القامة، وتحتها شبه مغارة على مقدار بيت صغير يعلو قدر القامة، ويُنْزَلُ إليه في دَرج، وقد هيئ له محراب وسُوّي وأُتقن. وعلى الصخرة شُبُّكان محكمان يغلقان عليها؛ أحدهما، وهو الخارج، من خشب، والآخر من حديد أو صُفْرٍ محكم العمل، بديع الصنعة. وفي القبة صورة دَرَقةٍ كبيرة من حديد، معلقة هنالك؛ وأظنها كانت مرآة، ولكنها قد صدئت وزال صقالها، والعوام يقولون: إنها درقة حمزة، واشتهر عندهم هذا الزور، حتى صار في حدِّ المقطوع به…

[ذكر عسقلان]

وكانت إقامتنا بالقدس خمسة أيام، ثم زرنا ثغر عسقلان ـ جبره الله ـ وهو خراب يباب لا أنيس به، إلا أطلالا ماثلة، ورسوما داثرة، وآثارا طامسة، تؤثر في القلب تباريح الأسى، وتعيد المشرق من أنسه حِنْدِسا، تحث المبصر على إعمال العِبرة، وإسبال الجفون بوابل العَبْرة، تُذكر بمن مضى وانقضى، وتضرم في الجوانح جمر الغضى، وتهون على العاقل شأن هذه الدار وتنادي الحذر الحذر، والبِدارَ البدار، لما دلت عليه من ضخامة شأن الرّاحلين منها، وفخامة الظاعنين المنزعجين عنها؛ لم تَحْمِهم تلك القصور العالية، ولا وَقَتْهم تلك المباني السامية، بل صاروا ترابا وهي خرابا، وعادوا أمواتا وهي مواتا، تندبهم تلك الطّلول الدّارسة، وتندر ما حل بهم تلك الطلول الطامسة، فتلك الآثار أسطار في ديوان البِلى مقروّة، وتلك الصور سور في نوائب الدُّنى متلُوّة. عجبا لها لما استعجمت أبانت، ولما أشكلت بانت؛ وعظت وما لفظت، ونصحت وما أفصحت، حرّكت الساكن بسكونها، وأظهرت الكامن بكمونها.

وإن آثر الزمان المحوَ في مرسومها، فالمحو أوضحَ كلَّ المعنى من مفهومها: تأمل كتاب الكائنات تأمُّلاً به أبداً تُلهى عن اللهو واللغو وزِدْ كلَّ ممحوِّ السطور تدبّرا فقانون علم النحو في ذلك المحو وقلما رأيت من البلدان ما جمع من المحاسن ما جمعت عسقلان ـ جبرها الله ـ صنعا وإتقانا ووضعا ومكانا، وبرا وبحرا، وعامرا وقفرا، لها على البر والبحر طرف ممتد، وحكمُ ماضٍ لا يرتد، ترنو إليها من شرف، وتتلو عليهما سور الشّرف، وتزهو بتقلّبها في الترف، في روضة جمّة الأزهار والطُّرف. وأما مبانيها فلو فاخرتها إِرم لقيل لها: نَفَخْتِ في غير ضرم؛ أو حاسنَتْها بابل لصاب عليها من مطر التعنيف وابل، وأسرع إليها ملام كالمعابل… وبظاهر عسقلان واد يعرف بواد النمل، ويقال: إنه المذكور في الكتاب العزيز، وقد ذكر المفسرون أنه واد بالشام، وفيه جبّانةُ عسقلان، وبها من قبور الأولياء والشهداء ما لا يحصره عدٌّ، وأكثرها مسمى معروف، وقد وقفنا عليها، وأرانا إيّاها شخص مقيم بعسقلان وهو قيّم التربة المذكورة وله شيء من جِرَاية أجراها له ملك مصر، قَيَّدتُهُ هناك ما يَرضَخُ له به من يسمح من الزوار.

وكان دخولنا عسقلان وقت الظهر فصليناها بمسجد الحسين، ثم خرجنا قبل العصر إذ المقامُ به غَرَرٌ، والله ولي التوفيق، ولا حول ولا قوىة إلا بالله. [ذكر غزة] ثم وصلنا على غزة حماها الله وهي آخر بلاد الشام مما يلي مصر، وبينها وبين الصّالحية أوَّل بلاد مصر ستة أيام. وغزة مدينة متسعة عامرة، لا سور لها، وبينها وبين البحر مسافة أميال، وهي أكثر عمارة من كل ما تقدم ذكره من بلاد الشام، وهي جسر إلى مصر، وإلى الشام، وبها أسواق قائمة، ومساجد معمورة، ولها جامع مليح حسن، ولكنها قد عريت عن عالم ومتعلم، وأقفرت من فقيه ومتكلم، فهي عامرة غامرة، وقائمة دائرة؛ وهذا أمر شمل في هذا الأوان المدن والقرى، وعمَّ بحُكم القَدَر أصناف الورى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

[الطريق من غزة إلى القاهرة]

ثم سافرنا من غزة مستقبلين لبريّة الشام، مُطّرحين لدواعي النُّكول والإحجام، مصافحين لأوجالها، مكافحين لأهوالها، وهي كلها رَمْلةٌ وَعْثاءُ، وبريّة دَويّة قفراء، كأن سالكها يخوض وَحْلا، أو يدفع من رملها المنهال سيلا.

ومسافتها ستة أيام، كأنها لفرط العناء أعوام، ولو جمعت إلى وَعْثها المُعَنِّي طولا لأعادت كلَّ سالك لها بقيد الحِمام معقولا، ولكن العزائم تقوى عليها بقرب المسافة، من حصول الأمن بها وانتفاء المخافة، وذلك أن كل مرحلة منها مَنْهَلَةٌ عامرة، والقوافل بها ليلا ونهارا مريحة وسائرة؛ لا تستدبر ميلا إلا لقيت له مستقبلا، ولا تُزمع تحويلا إلا وجدت إلى وجهتك متحولا؛ فخفَّ لذلك عناؤها وإن لم يخف، وذبُل به عُودُ لأوائِها وهو من النضارة يرِف. وقلما فارقها سالك، حتى عاد نضواً طليحا، ولا ألقى عَصا التّسيار بها مسافرٌ، حتى صار لَقًى طريحا. من رحلة العلامة العبدري، أبي عبدالله محمد بن محمد بن علي العبدري (ت بعد 700هـ/1300م) (ص 457-478)، بتصرف، تحقيق الدكتور علي إبراهيم كردي، نشر دار سعد الدين – دمشق، الطبعة الأولى 1419هـ/1999م.

انتقاء: د. مصطفى عكلي.

Science

الدكتور مصطفى عكلي

باحث مؤهل متعاون مع مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط

عميد كلية الدراسات الإسلامية بالإنابة بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية

أستاذ مساعد بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية أبو ظبي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق