مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

ذكر أقسام حال النفس

يقول الإمام القاضي أبو  بكر بن العربي المعافري الإشبيلي(ت543هـ)

رحمه الله:

وقسم الله حال النفس قسماً به يتبين أمرها وتزيد المعرفة بها، ويدل على وجود ربها، وصفاته، وحكمته في أحكامه، وذلك على ثلاثة أقسام لثلاثة أحوال: أمّارة بالسوء، ولوّامة، ومطمئنة.

فالأمّارة بالسوء: هي التي لا يلوح لها طمع إلاَّ تعرضت له، ولا تبدو لها شهوة إلاَّ اقتضتها، لم تسلك سبيل الرشاد، ولا استضاءت بنور السّداد، ولا أحكمتها الرياضة، فهي تهيم من البطالة في كل واد، وذلك الذي يُعبّر عنه بالهوى.

وأما اللوّامة: فإن الله كتب على ابن آدم حظه من المعصية، وأدرك ما قدره الله تعالى لا محالة، وخلق له الشهوة تقتضيها المعصية، وخلق له العقل يقتضيه الكف عنها، وخلق المَلَكَ معيناً للعقل، وخلق الشيطان معيناً للشهوة، ولكل واحد منهما إليه لمة، والقدَر فوق ذلك كله، فإن كف عن المعصية بسابق الفضل له بالعصمة فبها ونعمت، وإن وقع فيها بنافذ القدر، وأدركته رحمة، فأعقب ذلك ندامة على ما فعل وملامة لنفسه فتلك حالة محمودة، ولها – إن شاء الله- عاقبة جميلة لخلوص التوبة، وهي حالة أكثر الخلق.

ولفضل هذه الحالة، أقسم الله سبحانه بها فقال: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (القيامة: 2).

وقيل التي أقسم الله بها هي التي تلوم على التقصير في الطاعة

وقيل: لم يقسم الله قط بنفس، وإنما نفى القسم بها، وقوله: {لَا أُقْسِمُ} أصلية في النفي، وقيل: هي زائدة ولكن القسم على تقدير محذوف كأنه قال: أقسم برب يوم القيامة ونحوه.

وأما النفس المطمئنة: فهي التي استقرت وتمكنت، ولها في الاستقرار منازل لم يحط بها العلماء.

المنزلة الأولى: الطمأنينة بالتوحيد، حتى لا يكون بها انزعاج بريب.

المنزلة الثانية: الطمأنينة بذكر الله، حتى لا يكون لغيره عندها  قدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم “سِيرُوا هذا جُمدان، سَبَقَ المُفَرِّدُونَ قَالُوا: وَمَا المُفَرّدُونَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: الذّاكِرُونَ الله كَثِيراً والذّاكِرَاتُ”  [1]

المنزلة الثالثة: الطمأنينة باليقين حتى لا يجري عليها وسواس، وهذا ليس لأحد، قال الله سبحانه لنبيه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (فصلت: 35). وقال الصحابة يا رسول الله إِنّا نَجِدُ في أنْفُسِنَا شَيْئاً لأنْ نَخِرَّ مِنَ السّمَاءِ فَتَخْطَفنَا الطَّيْر أخَفُّ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيْهِ وَسلمَ: أوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ذَلِكَ صَرِيحُ الِإيمَانِ [2].

يعني مجاهدة دفعه، إذ لا بد من وقعه، فرحم الله الخلق حين ابتلاهم به بأن جعل مجاهدتهم في دفعه إيماناً صريحاً.

المنزلة الرابعة: الطمأنينة بطاعة الله، حتى لا يكون له في المعصية حظ، وهذا ممكن في الكبائر لكل أحد، وفي الصغائر للأنبياء -صلوات الله عليهم- والأولياء.

المنزلة الخامسة: الطمأنينة بالتوبة، حتى لا يبقى للمعصية في النفس أثر.

المنزلة السادسة: الطمأنينة بالبشارة، كقول الصادق  صلى الله عليه وسلم: فلان في الجنة، أو قد غفر له.

المنزلة السابعة: الطمأنينة بالبشرى عند الموت، كقول المَلَك للميت اخرجي أيتها الروح المطمئنة إلى رحمة الله ورضوانه، وذلك قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (يونس: 64).

وتُرَتَّبُ عليه سائرُ البشارات المترادفة في القبر والنشر والعرصات عند نزول المخاوف بما يشاهد من عظيم الهول وشدة الكَرب وجواز الصراط وتطاير الصحف ونصب الميزان وزفرةِ جهنَّمَ ونداءِ اَلرب المتحابين والمقسطين.

فهذه أقسام النفس وأحوالها، وأصولُ مراتب كل قسم منها، ووجه ترتيبها في العلم وذكرها عند التعليم وما يرتبط بها، وسوقُها عند التعبير والتأويل، وتركيبُها على الآيات حيثما وردت في كتاب الله، وضمُّ نشرها بذكر ما يتصل بها، وينفصل عنها.

قانون التأويل

        للإمام القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الإشبيلي 

ص:486-487-488-489-490.

دراسة وتحقيق

محمد السليماني

– دار القبلة للثقافة الإسلامية                                            مؤسسة علوم القرآن

        جدة                                                                    بيروت

  الطبعة الأولى

1406  هـ – 1986م 

الهوامش: 


[1]أخرجة مسلم عن أبي هريرة في صحيحه.كتاب الذكر، رقم الحديث:2676.

[2]نحوه في مسلم كتاب الإيمان رقم:132عن أبي هريرة، وأبي داود في الأدب: رقم 5111، وأحمد في المسند رقم:2097(ط:شاكر) 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق