دور علماء القرويين في مقاومة الاستعمار 3
الدكتور سعيد المغناوي
أستاذ التعليم العالي كلية الآداب والعلوم الإنسانية فاس سايس
وفي خضم هذا الجو المكتظ بالمناورات والمؤامرات، نهض الشعب المغربي بكافة فئاته لمقاومة الجيوش الغازية، كل على قدر استطاعته؛ المجاهدون في الجبال والصحراء والسهول يقاتلون، والسكان في المدن من حين لآخر يتظاهرون ويحتجون.
لقد كانت مقاومة شاملة عارمة شارك فيها جميع المغاربة، وإن اختلفوا في الطريقة أو الأسلوب الذي يجب أن تمارس به هذه المقاومة. فالعلماء الذين هم حفاظ الشريعة، وأصحاب الدراية بما جاء في القرآن والسنة النبوية الشريفة، لم يكن المستعمر في نظرهم إلا كافرا ظالما، وغزوه لا يقل شأنا عن حملات الصليبيين الشرسة في العصور الوسطى التي كان القصد منها القضاء على الإسلام والمسلمين. فالعمل إذن على تطهير البلاد منه جهاد في سبيل الله وابتغاء لمرضاة الله.
وهذا هو مفهوم الوطنية عند العلماء، بل عند كل الذين يعتزون بدينهم من المغاربة الفضلاء، لأنهم على علم تام من أن الدين هو العامل الفعال، وهو القادر على خلق الوطنية في نفوس الناس، وهو القاسم المشترك بين جميع المواطنين مهما تباعدت أقاليمهم أو اختلفت قبائلهم، وحوله يتجمعون ويتكتلون للدفاع عن وطنهم وأنفسهم.
ولهذا أيضا كان علماء القرويين في طليعة المجاهدين والمقاومين والمناضلين، وفي مقدمتهم الشيخ محمد بن عبد الكريم الخطابي ـ رحمه الله ـ الذي قاد المعارك التحريرية ضد المستعمرين بالشمال المغربي. لقد كان ـ رحمه الله ـ من حفظة القرآن الكريم، بعث به والده إلى القرويين بفاس، فتعلم وعاد إلى الريف، وتولى قضاء مليلية، ثم عزله الإسبان واعتقلوه سنة 1920م، وفي سنة 1921م قاتلهم فانتصر عليهم في معركة "أنوال". وواصل الجهاد ضدهم، فاحتل شفشاون سنة 1925م، وحاول احتلال تطوان، وأرسل من يهدد تازة. وفي الوقت نفسه كان يبعث ببعض المناشير يدعو فيها العلماء ذوي الرأي لتأييد نضاله ومؤازرة حركته وجهاده.
قال ـ رحمه الله ـ لوفد من المغاربة كان يريد حج بيت الله الحرام: "ألا توجد الجنة على خطوات منكم، تحت ظلال السيوف فتعرضون عنها، وتطلبونها في غيرها، قد توفون بحقه وقد لا !"[1]. وزاد قائلا: "إن الشريعة الإسلامية تجعل الجهاد فرض عين، ولا تجعل الحج فرضا إلا مع الاستطاعة، وأين الاستطاعة مع إذلال العدو لبلد مسلم، لا يجهر بشعائره في أحضانه؟"[2].
وحتى الذين خاضوا معه المعارك العظام، كان من بينهم علماء أجلاء أقوياء، غرفوا من جامعة القرويين، وكانوا لا يهابون الموت ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
لقد كان لنضال المجاهدين في الريف بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي ـ رحمه الله ـ صدى بعيد داخل المغرب وخارجه. ففي الداخل بعث هذا الجهاد ـ من جديد ـ الأمل في نفوس المواطنين المغاربة، وألهب حماسهم، مما جعل بعض شباب المدن يعملون للمساهمة فيه رغم محاصرة المستعمر لهذه المدن حتى لا تنتقل إليها عدوى المقاومة الريفية الباسلة. وتكونت حركة قامت بالدعاية للمجاهدين في الريف، فوزعت المناشير على المواطنين وعلقتها على الجدران في الشوارع. وتوجه بعض الشباب إلى "أجدير" عاصمة المجاهد ابن عبد الكريم للعمل معه (منهم السيد عبد القادر التازي والسيد محبوب الذي كان يعمل طبيبا في المعركة). وساهم الشعراء في فاس والرباط في الإشادة بهذه الحرب التحريرية والأمل في انتصارها[3].
دراسات فاسية، للدكتور سعيد المغناوي، ص15 وما يليها، الطبعة الأولى 1424هـ-2003م. مطبعة آنفو – برينت. فاس.
[1] ـ البوعياشي: حرب الريف التحريرية، 1/20.
[2] ـ نفسه، 1/20.
[3] ـ عبد الكريم غلاب: تاريخ الحركة الوطنية المغربية، ص 21.