الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، ثم الصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصبحه ومن سار على دربه إلى يوم الدين.
أما بعـد؛
فإن التصوف السني، جليل القدر، عظيم النفع. مَهَمَّتُه تزكية الأنفس من الدنس، وتطهير الأنفاس من الأرجاس، وتوصيل الإنسان إلى نيل مرضاة الرحمن. وخلاصته، اتباع شرع الله، وتسليم الأمور كلها لله، والالتجاء في كل الشئون إليه، مع الرضا بالمقدّر، من غير إهمال في واجب، ولا مقاربة لمحظور.
وقد أطلق اصطلاح التصوف على طائفة من الناس هم: العباد، والزهاد، والفقراء، والملهمين، والسياحين، وأهل العزلة، وأهل الصمت، وأهل الخلوة، وأهل الذكر، وأهل الإرشاد...
يقول الفقيه الصوفي الشيخ العلامة المحتسب: سيدي أحمد زروق -رحمه الله تعالى- في القاعدة الثانية من قواعده: "ماهية الشيء حقيقتُه، وحقيقتُه ما دلت عليه جملتُه، وتعريف ذلك بحدٍّ، وهو أجمعُ، أو رسمٍ وهو أوضحُ، أو تفسيرٍ، وهو أتمُّ لبيانه وسرعة فهمه.
وقد حُدَّ التصوف ورُسِم وفُسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى، وإنما هي وجوه فيه".[1]
وقال في القاعدة السادسة: "الاصطلاح للشيء مما يدل على معناه، ويُشعر بحقيقته، ويناسب موضوعه، ويعين مدلوله من غير لَبْس ولا إخلالٍ بقاعدة شرعيةٍ ولا عُرفية، ولا رفعِ موضوع أصلي ولا عُرفي، ولا معارضة فرع حكمي، ولا مناقضة وجه حكمي، مع إعراب لفظه وتحقيق ضبطه، لا وجه لإنكاره.
واسم التصوف من ذلك؛ لأنه عربي مفهوم، تام التركيب، غير مُوهِم ولا ملتبسٍ ولا مبهمٍ؛ بل اشتقاقه، مشعر بمعناه؛ كالفقه لأحكام الإسلام والأعمال الظاهرة، والأصول لأحكام الإيمان وتحقيق المعنى، فاللازم فيهما، لازم فيه لاستوائهما في الأصل والنقل".[2]
هذا كلام نفيس وواضح، يقطع قول كل بليغ، وينبغي أن يكتب بماء الذهب.
والتعريف الذي نختاره للتصوف من بين تعريفاته الكثيرة التي أوصلها سيدي أحمد زروق إلى ألفين، وأورد منها الإمام ابن السبكي في «طبقاته» حوالي ألف، وسهر على التقاطها قبله أبو منصور عبد القادر البغدادي من مختلف المصادر ورتبها تبعا لأصحابها على حروف الهجاء.
أقول: إن التصوف، هو: "التخلي عن كل دني والتحلي بكل سني".
وهذا هو، فحوى كلمة (التقوى) الواردة في نصوص الشرع في أرقى مراتبها الحسية والمعنوية. فالتقوى: عقيدة وخُلق سوي، وهي سُلَّم إلى أعلى مراتب القرب والوصول، إذ هي، معاملة الله بحسن العبادة، ومعاملة العباد بحسن الخُلُق.
وهذا الاعتبار هو ما نزل به الوحي على كل الأنبياء والرسل، وعليه تدور حقوق الإنسانية الرفيعة في الإسلام.
وروح التقوى،كما هو معلوم، هو (التزكي). قال تعالى: {قد أفلح من زكاها}[الشمس/9]. وقال جل شأنه:{قد أفلح من تزكى}[الأعلى/14].
وإلى هذا المعنى أشار سيدي أحمد زروق في القاعدة الرابعة بقوله: "صِدق التوجه مشروط بكونه من حيث يرضاه الحق تعالى وبما يرضاه. ولا يصح مشروط بدون شرطه {ولا يرضى لعباده الكفر}[الزمر/8]. فلزم تحقيق الإيمان، {وإن تشكروا يرضه لكم}[الزمر/8]. فلزم العمل بالإسلام. فلا تصوف إلا بفقه، إذ لا تُعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه، ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه، ولا هما إلا بإيمان؛ إذ لا يصح واحد منهما دونه، فلزم الجميع؛ لتلازمهما في الحكم، كتلازم الأرواح للأجساد؛ إذ لا وجود لها إلا فيها كما لا حياة لها إلا بها.
ومنه قول مالك رحمه الله: (من تصوف ولم يتفقه، فقد تزندق. ومن تفقه ولم يتصوف، فقد تفسق. ومن جمع بينهما، فقد تحقق).
قال زروق: تزندقَ الأولُ؛ لأنه قال بالجبر الموجب لنفي الحكمة والأحكام.
وتفَسّقَ الثاني: لخلو عمله من التوجه الحاجب منهما عن معصية الله "تعالى"، ومن الإخلاص المشترط في العمل لله.
وتحقق الثالث: لقيامه بالحقيقة في عين التمسك بالحق".[3]
ولهذا التلازم بين الفقه والعقيدة والتصوف، حرص علماء المغرب على تحصيلها، وألزموا أنفسهم وألزموا غيرهم بها، فجعلت عندهم من الثوابت التي لا يمكن أن يطغى فيها جانب على الآخر؛ ولهذا قال ابن عاشر، رحمه الله، في «المرشد المعين»:
وبعد فالعون من الله المجيـد في نظم أبيات للأمي تفيد
في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك
وإذا ألزم بها الأمي، فالعلماء بها ألزم، فتأمل.
وبهذا المعنى، نستطيع الجزم بأن التصوف قد مُورس فعلا في العهد النبوي والصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولا غرابة، فقد امتاز التصوف، بالدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، ودعا إلى التحلي بالخلق وإلى المواظبة على الذكر والتفكر، والزهد في الفاني، حرصا على بناء الإنسان، وربطه بمولاه في كل فكر وقول وعمل ونية، وفي كل موقع من مواقع الإنسانية في الحياة العامة.
وكل هذا من مكونات التقوى (أو التزكي) كما مر معنا.
وبهذا يكون التصوف مما نزل به القرآن الكريم (التزكي)، وحثت عليه السنة المشرفة (الإحسان). والتزكي في القرآن والإحسان في الحديث هو: مقام الربانية الإسلامية، يقول تعالى: {كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}،[آل عمران/78].
وهذا ما أكده الشيخ زروق في القاعدة الخامسة بقوله: "إسناد الشيء لأصله، والقيام فيه بدليله الخاص به، يدفع قولَ المنكرِ لحقيقته؛ لأن ظهور الحق في الحقيقة يمنعُ من ثبوت معارضتها. فأصل التصوف مقام "الإحسان" الذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك»؛ لأن معاني صدق التوجه لهذا الأصل راجعة، وعليه دائرة؛ إذ لفظه دال على طلب المراقبة الملزومة به، فكان الحض عليها حضا على عينه، كما دار الفقه على مقام الإسلام، والأصول على مقام الإيمان.
فالتصوف أحد أجزاء الدين الذي علَّمه عليه الصلاة والسلام جبرِيلُ ليتعلمه الصحابة رضي الله عنهم".[4]
قال ابن خلدون رحمه الله: "أصله، أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية. وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة. وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني، وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة".[5]
ويعد القرن الثالث الهجري مرحلة هامة بلغ فيها التصوف النضج والكمال. وأصبحت له قواعد معروفة وضوابط محكمة. كما هو الشأن مع الفقهاء في الفقه والأحكام في المذاهب الفقهية المشهورة، وأصحاب الحديث في علوم الحديث، وكذا علماء النحو في قواعد النحو، وعلماء العقيدة في قواعد العقيدة وضوابطها، وفي سائر العلوم والفنون والمعارف.
جاء في كتاب «نفحات الأنس»: إن أول من تسمى صوفيا هو أبو هاشم الكوفي المعاصر لسفيان الثوري. ويرى البعض أن أهل بغداد هم الذين اخترعوا هذه الكلمة ونفى ذلك السراج في اللمع لأن في وقت الحسن البصري كان يعرف هذا الاسم أي في زمن الصحابة.
وأول من تكلم من البغداديين في الحقائق الإلهية والسر: سري السقطي، وأول من حاضر في التصوف: يحيى بن معاذ الرازي المتوفي سنة 258 هـ؛ كما جاء في «تذكرة الأولياء». بينما يزعم نيكلسون؛ أن ذا النون المصري، كان له أكثر الأثر في تشكيل الفكر الصوفي. ويؤكد في ترجمة «المثنوي» أن مؤسس التصوف هو أبو يزيد البسطامي...
ولو أن الدارسين بحثوا بتأنٍ، بعيدًا عن نزاعات وأهواء واتجاهات عصبية؛ لتلمسوا أصول التصوف الأولى في القرآن نفسه وفي سنة نبي الله تعالى صلى الله عليه وسلم. وكان واجبهم ألا ينسوا أبدا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الرائد الأول للتصوف الإسلامي بحق وأننا نلمس تصوفه في تحنُّثه في غار حراء. "أليست حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هذا بما فيها من تحنث وخلوة واكتفاء بالقليل من الزاد صورة أولى للحياة التي كان يحياها الزهاد والعباد والصوفية بعد ذلك، ويخضعون فيها أنفسهم لرياضات ومجاهدات ويختلف فيها على أنفسهم أذواق ومواجيد، وكلها عندهم سبيل إلى كشف الحقيقة؟...
أليس هذا التأمل الذي كان يمعن فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويغيب فيه عن كل شيء حتى عن نفسه، أساسا لهذه الأذواق والمواجيد الصوفية، ولما يعرض فيها لسالك طريق الله من غيبة وسكر ومحو وفناء".[6]
والحقيقة التي لا ينبغي أن تعزب عن البال، هي أن أئمة المذاهب الأربعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإن غلب عليهم الاشتغال بالأمور الشرعية وما يتعلق بها من أحكام؛ فإنهم كانوا أيضا، كما يقول الإمام الغزالي رحمه الله في «الإحياء»: "من العلماء بالله، مراقبين قلوبهم، مشتغلين بمعارف ربهم عما سواهم من الخلق".
فهذا الإمام أحمد، أحد شيوخ الإسلام صدقا، الذي استحوذت عليه طائفة من الناس اليوم، ونسبته إليها وهو منها براء في أكثر ما يدَّعونه وينسبونه إليه، يقول فيه الإمام أبو زرعة الرازي: "ما رأت عيني مثل الإمام أحمد في العلم والزهد والفقه والمعرفة".[7] وقال المرُّوذي: كان أبو عبد الله إذا ذكر الموت، خنقته العبرة. وكان يقول: الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت هان علي كلُّ أمر الدنيا. إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل. ما أعدِلُ بالفقر شيئا، ولو وجدت السبيلَ لخرجت حتى لا يكون لي ذكر".[8]
ولا شك أن الكثير من أصول الصوفية الصحيحة المتفرقة في الكتب، قد اجتمعت في شخصية الإمام أحمد[9]، وأمثاله من الأئمة الكبار.
لأنه رضي الله عنه ممن تكلم بعلوم الصوفية كما صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال في رسالته «الصوفية والفقراء»: "وقد نُقِل التكلم به من غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد وأبي سليمان الداراني وغيرهما. وقد روي عن سفيان الثوري، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري".[10] ولذلك ليس غريبا أيضا، أن نجد ترجمته مذكورة في معظم كتب تراجم الصوفية مثل: «حلية الأولياء»، و«الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية» للمناوي و«الطبقات الكبرى» للشعراني و«تذكر الأولياء» لفريد الدين العطار (ت607هـ) التي جاء فيها: "كان شيخَ أهل السنة والجماعة، وله في علم الحديث سعي جميل، وله في الورع والتقوى والرياضة والمجاهدة شأن عظيم"[11] وذكر له كرامات عجيبة، وقال أحمد: "أدركت كثيرا من المشايخ مثل ذي النون المصري، وبشر الحافي، ومعروف الكرخي، والسري السقطي، وغيرهم رحمهم الله".[12] وجاء في «كشف المحجوب» للهجويري[13]: "وكل السادة الصوفية من جميع الطبقات يعتقدون فيه ـ أي الإمام أحمد ـ البركة ..".
وقل أن نجد كتابا من كتب التراث يخلو من أثر عن الإمام أحمد؛ وبخاصة «الرسالة القشيرية»، و«الفتوحات المكية» لابن عربي، و«تنوير القلوب» لأمين الكردي، و«إحياء علوم الدين» للغزالي، و«تذكرة الأولياء» للعطار، والقائمة طويلة... حتى إن البعض عند الكلام عنه وصفه بأنه: (مقتدى الطائفة).
ومما تكلم فيه هذا الرجل القدوة من قضايا التصوف نجتزئ مسألتين للتمثيل لا للحصر:
الأولى: التوسل:
قال ابن تيمية في فتاواه: قال أحمد في نسكه الذي كتبه للمروزي صاحبه أنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه[14]. وروى ابن مفلح في «الآداب الشرعية» عن أحمد بن حنبل أنه قال: حججت فضللت الطريق. وكنت ماشيا فجعلت أقول يا عباد الله دلوني على الطريق. فلم أزل أقول ذلك حتى وقعت على الطريق.[15]
وقد ثبت عنه، رحمه الله، أنه قال عند القحط وعند انقطاع المطر: يتوسل الداعي الذي يصلي صلاة الاستسقاء بالرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت أيضا، أنه توسل بالإمام الشافعي رضي الله عنهما [16] حتى تعجب منه ابنه عبد الله، فقال له أحمد: الشافعي كالشمس للناس وكالعافية للبدن!.
المسألة الثانية: التبرك:
جاء في السير للذهبي قال: "قال عبد الله بن أحمد: رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيه يقبلها، وأحسب أني رأيته يضعها على عينه ويغمسها في الماء ويشربُه يستشفي به، ورأيته أخذ قَصعة النبي صلى الله عليه وسلم فغسلها في حُبِّ الماء ثم شرب فيها. ورأيته يشرب من ماء زمزم يستشفي به، ويمسح به يديه ووجهه".[17]
وختم الذهبي هذا الكلام بقوله: "أين المتنطع المنكر على أحمد، وقد ثبت أن عبد الله سأل أباه عمن يلمس رمانة منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويلمس الحجرة النبوية، فقال: لا أرى بذلك بأسا، أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج والبدع".[18]
هذا، وله كلام في مسائل كثيرة من مثل: المحبة، والرضا، والمجاهدة، والتوكل، والقناعة، والخوف، والرجاء، والاستقامة، والإيمان، والتواضع، والكرامات، والورع، والزهد، وتقبيل المصحف، وتكلم في السماع، والخمول، والخلوة، وكانت أحب إليه. قال الذهبي: "كان يحب الخمول والانزواء عن الناس ويعود المريض، وكان يكره المشي في الأسواق، ويؤثر الوحدة.
قال أبو العباس السراج: سمعت فتح بن نوح، سمعت أحمد بن حنبل، يقول: أشتهي ما لا يكون، أشتهي مكانا لا يكون فيه أحد من الناس. وقال الميموني: قال أحمد: رأيت الخلوة أروح لنفسي، وقال المروذي: قال لي أحمد: قل لعبد الوهاب: أخمل ذكرك فإنني أنا قد بليت بالشهرة".[19]
قال الذهبي معلقا على ما سبق: "إيثار الخمول والتواضعُ وكثرةُ الوجل من علامات التقوى والفلاح".[20]
والاختلاف في تحديد المتصوف، راجع إلى منزلته في معراج السلوك؛ لأن كل واحد من الرجال يترجم إحساسه في مقامه، وهو لا يعارضُ أبدًا مقام سِوَاه، فإن الحقيقة الواحدة، وهي كالبستان الجامع، كل سالك وقف تحت شجرة منه فوصفها، ولم يقل إنه ليس بالبستان سواها، ومهما اختلفت التعريفات، فإنها تلتقي عند رتبة من التزكي والتقوى: أي الربانية الإسلامية، أي التصوف على طرق الهجرة إلى الله {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين}،[الذاريات/50]. وقال: {إني مهاجر إلى ربي}،[العنكبوت/25]. فالواقع أنها جميعا تعريف واحد يُكمل بعضه بعضا.
قال سيدي أحمد زروق: "الاختلاف في الحقيقة الواحدة، إن كثر، دل على بعد إدراك جملتها.
ثم هو إن رجع لأصل واحد، يتضمن جملة ما قيل فيها، كانت العبارة عنه بحسب ما فُهم منه. وجملة الأقوال واقعة على تفاصيله.
واعتبار كل واحد على حسب مناله منه، علما، أو عملا، أو حالا، أو ذوقا، أو غير ذلك.
والاختلاف في التصوف من ذلك، فمن ثم ألحق الحافظ أبو نعيم رحمه الله بغالب أهل حِليتِه عند تحليته كل شخص، قولا من أقواله يناسب حاله قائلا: وقيل: إن التصوف كذا..
فأشعر أن من له نصيب من صدق التوجه، له نصيب من التصوف، وأن تصوُفَ كلِّ أحدٍ، صدقُ توجهه!".[21]
هذا هو التصوف الشرعي الذي خدم الكتاب والسنة، فإذا كان هناك تصوف يخالف ذلك، فلا شأن لنا به، ووزره على أهله، ونحن لا نُسأل عنهم فـ{كل امرئ بما كسب رهين}،[الطور/19].
وهل من المعقول أن يترك المسلمون إسلامهم مثلا لشذوذ طائفة منهم تشرب الخمر أو تمارس الزنا أو تحلل ما حرم الله، أوتمارس طقوسا جاهلية وتعبد الأضرحة وتقدم لها القرابين، أو تتعامل مع الكافر كما فعلت الطرقية الضالة التي ذللت لها السلطات الاستعمارية للتغلغل بين أبناء الشعب الفقراء كما ساهمت في الانتشار المذهل للزوايا والتي بلغ عددها حوالي ثلاث مائة ونيف زاوية ببعض البلدان مثلا ؟ وهل عملُ هؤلاء الشواذ يكون دليلا على أن الإسلام ليس من عند الله ؟! إن أخذ البريء بذنب غيره: تعدٍّ سافر، والتعميمُ في الحكم على المجموع بتصرف أفراد انتسبوا إليه سلبا أو إيجابا: ظلم مبين.
إن اللبيب، أيها الحصيف، لا يحتاج إلى كثير من الجهد ليكتشف الفرق بين التصوف السني الذي انتهجه أسلافنا وتبنوه منذ القديم، والذي نؤكد على الحفاظ عليه الآن، وبين التدين الشعبي المغشوش الذي صنعه أعداء الدين ليخدر الشعب، ويغذي خياله الجماعي بالأساطير والخرافات التي تجعله في النهاية يعيش الأوهام ويطلب المحال وتنزع منه كل أنماط التفكير الناقد.
لقد كان الاستعمار يرى في هذا التدين الخرافي سبيلا إلى تحطيم العقيدة الصحيحة، وتوجيه الشعب الوجهة التي يريدها بتشجيعه الثقافة السلبية والتصورات الفاسدة، مستغلا الجهل المطبق، وسرعة ارتباط الناس بالأوهام والخرافات.
ولا أريد أن يفهم من كلامي التحامل على الشخصيات الروحية كالمتصوفين الكبار، ولا عن المدارس والكتاتيب وبعض الزوايا التي أدت واجبها في المقاومة وعبر ترسيخ كتاب الله تعالى في صدور أبنائنا داخل القرى والمداشر. كما أن المتصوفين وهم نخبة الأولياء والصالحين يمثلون نجوما ناصعة في تاريخ التمدن الإسلامي والإنسانية عامة. فأمثال الجنيد، والحارث المحاسبي، وسمنون المحب، والقشيري، والسهروردي، الشاذلي، والجيلاني، وابن عربي الحاتمي، وأحمد زروق، وجلال الدين الرومي، والرفاعي... وغيرهم، تركوا للإنسانية ذخائر من مختلف المعارف وفنون العلم والبيان، والحكم المتعالية، لا تزال إلى اليوم تدرس، وتروي ظمأ الروح التي أفسدتها حضارة المادة.
فالتصوف الإسلامي الذي يهدف إلى التسامي بالبشرية إلى مستوى الإنسانية الرفيعة، لاشك في أنه وحي من الوحي، بل هو الدين كل الدين؛ لأنه بهذا الوصف يسعى لعلاج أمراض النفوس، وما من إنسان على وجه البسيطة إلا وهو مبتلى بجانب قليل أو كثير من مرض النفس، أو الخُلق أو السلوك. وإنما بعث الله تعالى الأنبياء والرسل والصالحين كلهم لعلاج الإنسان من هذه الأمراض النفسية والخلقية والسلوكية.
ولما كان التصوف قد تخصص في هذا الجانب، كان طلبه فرضا شرعيا وعقليا وإنسانيا واجتماعيا، حتى يوجد الإنسان السوي الذي به تتسامى الحياة، وتتحقق خلافة الله على أرضه، وينتشر الحب والسماحة بين الناس، وتأخذ المدنية والعمران روحهما الإيماني المحقق لمراد الله.
وأدلة ذلك جميعه، مما لا يغيب عن صغار طلبة العلم، ومما تزخر به علوم الكتاب والسنة.
وعليه، فكل ما جاء منسوبا إلى التصوف مما يخالف الكتاب والسنة، مهما كان مصدره فليس من ثمرة الإسلام بوصفه مقام (الإحسان) الذي سجله الحديث النبوي المشهور.
ومن هنا أتى ارتباط المغاربة بسيد الفقهاء مالك إمام دار الهجرة واختيارهم له بعد الاختبار كعادتهم، فما اختاروه إلا وهو أهل لذلك. وما اختاروا أبا الحسن الأشعري إلا وهو أهل لذلك. وما اختاروا أبا القاسم الجنيد إلا وهو أهل لذلك؛ لكونه سيد الطائفتين ومفتي الفريقين وإمامهم وتاجهم وطاووس العباد وقطب العلم والعلماء. كيف لا وهو القائل: "علمنا مضبوط بالكتاب والسنة. من لم يحفظ الكتاب، ويكتب الحديث، ولم يتفقه، لا يقتدى به"،[22]
والقائلُ: "علمنا ـ يعني التصوف ـ مشبك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"،[23] والقائلُ: "ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، بل عن الجوع، وترك الدنيا، وقطع المؤلوفات"[24] والقائل: "أقل ما في الكلام سقوط هيبة الرب جل جلاله من القلب. والقلب إذا عري من الهيبة عري من الإيمان".[25]
وقد قال فيه الخلدي: "لم نر في شيوخنا من اجتمع له علم وحال، غير الجنيد، كانت له حال خطيرة وعلم غزير، إذا رأيت حاله رجَّحته على علمه، وإذا تكلم رجحت علمه على حاله".[26]
وقال فيه أبو القاسم الكعبي: "رأيت لكم شيخا ببغداد، يقال له الجنيد، ما رأت عيناي مثله! كان الكتبة ـ يعني البلغاء ـ يحضرونه لألفاظه، والفلاسفة يحضرونه لدقة معانيه، والمتكلمون يحضرونه لزمام علمه، وكلامه بائن عن فهمهم وعلمهم".[27]
وفيه قال فريد الدين العطار: "كان سيد طائفة الله تعالى و إمامهم وشيخَ المشايخ ورئيسَهم ...وكان في جميع العلوم ماهرا، وفي الفنون كاملا، وفي الأصول والفروع مفتيا، وفي المعاملات والرياضات والإشارات العالية، سابقا على الأقران، ومن أول حاله إلى آخره حاله حميدا مقبولا.
والكل متفق على أمانته وكماله، وكلامُه حجة في علم الطريقة، وما استطاعَ أحد أن يعترض عليه بمخالفة السنة.
وكان لسانَ القوم، وطاووسَ العلماء، وسلطانَ المحققين.
ولم يكن له نظير في الزهد والمحبة، وفي علم الطريقة صاحب اجتهاد. وأكثر مشايخ بغداد بعده، كانوا على مذهبه وطريقته".[28]
والتصوف السني الإسلامي العربي المنبثق من أعلامه الأوائل المؤسسين، الذين تركوا بصماتهم مطبوعة في تراثه الأصيل، المعتمد لدى السائرين في ركابهم عبر الزمان والمكان؛ خادم لفلسفة القرآن والسنة في الإصلاح والتربية. ولم نقف فيما وقفنا عليه من تراث السلف الخالد، على أي تعارض حقيقي بين أرباب التصوف، وأرباب الفقه، والحديث، والتفسير والعقيدة وغيرهم، إلا ما اختلقه العوام المتنطعون مقلدة الطوائف من المتأخرين تعصبا وجهلا.
يقول صاحب «اللمع»: "أما أهل التصوف فقد اتفقوا مع الفقهاء وأصحاب الحديث في معتقداتهم وقبلوا علومهم، ولم يخالفوهم في معانيهم ورسومهم، وشاركوهم بالقبول والموافقة في جميع علومهم.
ومن لم يبلغ من الصوفية مراتب الفقهاء وأصحاب الحديث في الدراية والفهم، ولم يحط بما أحاطوا به علما، فإنهم راجعون إليهم في الوقت الذي يشكل عليهم حكم من الأحكام الشرعية أو حد من حدود الدين، فإذا اجتمعوا فهم في جملتهم فيما اجتمعوا عليه، فإذا اختلفوا فاستحباب الصوفية في مذهبهم الأخذ بالأحسن والأولى والأتم احتياطاً للدين وتعظيماً لما أمر الله به عباده، واجتناباً لما نهاهم الله عنه...
ثم إنهم بعد ذلك ارتقوا إلى درجات عالية وتعلقوا بأحوال شريفة ومنازل رفيعة من أنواع العبادات وحقائق الطاعات والأخلاق الجميلة".[29]
والحمد لله في البدء والختام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير الأنام.
الهوامش
[1] - قواعد التصوف، 22.
[2] - نفسه، 25.
[3] - قواعد التصوف، 24.
[4] - قواعد التصوف، 25.
[5] - المقدمة، 3/989.
[6] - الحياة الروحية في الإسلام أ.د. مصطفى حلمي، 19.
[7] - تاريخ دمشق، 7/258.
[8] - السير، 11/215- 216.
[9] - الإمام أحمد، لعبد الجواد الدومي، 92.
[10] - رسالة الصوفية والفقراء لابن تيمية تقديم د. محمد جميل غازي، 13.(دار المدني القاهرة).
[11] - التذكرة، 276.
[12] - التذكرة، 276.
[13] - ص 144.
[14] - 1/140
[15] - الصواعق الإلهية، 76.
[16] - الدرر السنية، لأحمد زيني دحلان، 45.
[17] - السير، 11/212.
[18] - السير، 11/212.
[19] - نفسه.
[20] - نفسه.
[21] - قواعد التصوف، 23.
[22] - السير، 14/67.
[23] - نفسه.
[24] - نفسه، 69.
[25] - نفسه، 68.
[26] - نفسه.
[27] - نفسه، 67-68.
[28] - تذكرة الأولياء، 429.
[29] - اللمع، 28.