مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينشذور

درر من مواعظ الصحابة رضي الله عنهم (2).

قال ابن مسعود رضي الله عنه:

«إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا سدَّده، وجعل سؤاله عمَّا يعينه، وعلمه فيما ينفعه»([1])

من المعلوم عند العلماء وأهل الإيمان أنّ الصحابة رضي الله عنهم متفاوتون في الفضل، وذلك بحسب سبقتهم للإسلام، والهجرة، والإيواء، والنصرة، والجهاد في سبيل الله، فأفضلهم السابقون الأولون من الأنصار والمهاجرين، الذين قاتلوا وأنفقوا في سبيل الله قبل الفتح، حيث قال سبحانه: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّـهُ الْحُسْنَى وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}([2]).

لذا وجب توقيرهم جميعا والترضي عليهم والإمساك عمّا شجر بينهم من خلاف. فقد فضّلهم النّبي صلّى الله عليه وسلم على غيرهم، فقال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»([3])، ونهى عن التعرُّض لهم، فقال  صلى الله عليه وسلم: «لا تسبُّوا أصحابي، لا تسبُّوا أصحابي؛ فو الَّذي نفسي بيده، لو أنَّ أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبًا، ما أدرك مدَّ أحدهم، ولا نصيفه»([4]).

ومن تأمَّل في كلام الصحابة رضي الله عنهم ومواعظهم، وجدهم قد ساروا على هدي سيد المرسلين، فهم خير هذه الأمة، وأبرُّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلُّها تكلُّفاً – كما وصفهم بذلك الحسن البصريُّ رحمه الله.

قيل لحمدونٍ القصَّار([5]): ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنَّهم تكلَّموا لعزِّ الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلَّم لعزِّ النفوس، وطلب الدُّنيا، ورضا الخلق .

يقول ابن القيِّم رحمه الله – مبيِّنًا هذا المعنى في حقِّ الصحابة  رضي الله عنهم: «فَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَ عِلْمًا، وَأَقَلَّ تَكَلُّفًا، وَأَقْرَبَ إلَى أَنْ يُوَفَّقُوا فِيهَا لِمَا لَمْ نُوَفَّقْ لَهُ نَحْنُ؛ لِمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ تَوَقُّدِ الْأَذْهَانِ، وَفَصَاحَةِ اللِّسَانِ، وَسَعَةِ الْعِلْمِ، وَسُهُولَةِ الْأَخْذِ، وَحُسْنِ الْإِدْرَاكِ وَسُرْعَتِهِ، وَقِلَّةِ الْمُعَارِضِ أَوْ عَدَمِهِ، وَحُسْنِ الْقَصْدِ، وَتَقْوَى الرَّبِّ تَعَالَى؛ فَالْعَرَبِيَّةُ طَبِيعَتُهُمْ وَسَلِيقَتُهُمْ، وَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ مَرْكُوزَةٌ فِي فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ»([6]) .

لقد كان صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم كالنّجوم، فهم خير القرون بما قدّموه وبذلوه وتحمّلوه في سبيل نصرة الدين وإعلاء رايته، وقد تميّز كلّ رجلٍ من الصّحابة بصفات أهّلته لأن يتبوّأ مكانة في مسيرة الدّعوة، فمن الصّحابة من تميّز بشجاعته ومنهم من تميّز بفقهه، ومن بين هؤلاء الرّجال السّابقين إلى الإسلام كان الصّحابي الجليل عبد الله بن مسعود، لقد كان رضي الله عنه من المفوَّهين، وممَّن أوتي الحكمة والبلاغة في العبارة، حتى إنَّ القارئ لها ليشعر بأنوار النبوة، وجلالة العلم، وحلاوة الفقه فيها. كان حسن الصوت نديا بالقرآن، يُسمع له دويٌ كدوي النحل في صلاته وقيامه، رجلٌ أَسِيفٌ بَكّاءٌ من خشية الله، له خطّان أسودان على وجنتيه من كثرة بكائه وخشيته، ومع ذلك كان يشعر أنه أكثر الناس ذنباً.

 إنه الإمام الكبير والصحابي الجليل، أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، وشهد بدرًا والمشاهد كلَّها، وكان صاحب سرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  ووساده وسواكه ونعليه وطهوره في السفر، وكان يشبَّه بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم  في هديه ودلِّه وسمته، وكان خفيف اللحم، قصيرًا، شديد الأُدمة، وكان من أجود الناس ثوبًا، ومن أطيب الناس ريحًا، وولي قضاء الكوفة، وبيت المال لعمر وصدرًا من خلافه عثمان رضي الله عنهما، ثم صار إلى المدينة فمات بها سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع وهو ابن بضع وستِّين .

كان  رضي الله عنه أعلم الصحابة بالقرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فما أُنزلت سورة إلا ويعلم في أي مكان نزلت، وما نزلت آية إلا ويعلم فيمن أُنزلت، ومع ذلك تواضع لعلمه، فاحترمه الصحابة وأكرموه لواسع علمه وفقهه.

فعَنْ أَبِي حَيَّانَ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ لِيَ اقْرَأْ عَلَيَّ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَلَيْسَ مِنْكَ تَعَلَّمْتُهُ، وَأَنْتَ تُقْرِئُنَا؟ فَقَالَ: إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ مِنَ الْقُرْآنِ »، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَيْسَ عَلَيْكَ أُنْزِلَ، وَمِنْكَ تَعَلَّمْنَاهُ؟ قَالَ: «بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»([7]).

كان ابن مسعودٍ من أعلام الصحابة في العلم بكتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى إنَّه أقبل ذات يومٍ وعمر جالسٌ فقال: (كنيفٌ مليء علمًا، أي: بيتٌ مليء علمًا).

وقد أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من حديث:

عن أم موسى، قالت: سمعت عليا، يقول: أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود فصعد على شجرة أمره أن يأتيه منها بشيء، فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله بن مسعود حين صعد الشجرة، فضحكوا من حموشة ساقيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:: «مَا تَضْحَكُونَ؟ لَرِجْلُ عَبْدِ اللهِ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أُحُدٍ»([8]).

وعن خيثمة قال: كنت جالسا عند عبد الله بن عمر فذكر ابن مسعود فقال: لا أزال أحبه بعد إذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «استقرءوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود فبدأ به وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة»([9]).

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَبْدُ اللَّهِ يُصَلِّي، فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ النِّسَاءِ، فَسَحَلَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا، كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ»، ثُمَّ قَعَدَ، ثُمَّ سَأَلَ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ»، فَقَالَ: فِيمَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ، فَأَتَى عُمَرُ عَبْدَ اللَّهِ لِيُبَشِّرَهُ، فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَهُ، قَالَ: إِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ، إِنَّكَ لَسَابِقٌ بِالْخَيْرِ([10]).

وعن عبد الله، قال: «وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا مِنْ كِتَابِ اللهِ سُورَةٌ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ حَيْثُ نَزَلَتْ، وَمَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَا أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا هُوَ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللهِ مِنِّي، تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ، لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ»([11]).

 وعن عبد الله أنه قال: {ومن يَغْلُلْ يَاتِ بِمَا غَلَّ يوم القيامة} [آل عمران: 161]، ثم قال: على قراءة من تأمروني أن أقرأ؟ فلقد «قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أني أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أن أحدا أعلم مني لرحلت إليه» قال شقيق: فجلست في حلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما سمعت أحدا يرد ذلك عليه، ولا يعيبه ([12]).

أقوال العلماء فيه:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن عبد الله بن مسعود: (مُلِئ فِقْهاً).

سُئل حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- عن رجلٍ قريب السّمْت والهَدْي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: (ما أَعْرِفُ أحداً أقربَ سَمْتاً وهَدْياً ودَلّاً بالنبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- مِن ابنِ أمِّ عبدٍ).

 قال أبو الدرّداء -رضي الله عنه- عندما سَمِع بخبر وفاة عبد الله بن مسعود: (ما ترك بعده مثله).

قال قيس بن أبي حازم: (رأيته آدم خفيف اللحم وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: كان عبد الله رجلا نحيفا قصيرا شديد الأدمة وكان لا يغير شيبه).

وروى الأعمش، عن إبراهيم قال: (كان عبد الله لطيفا فطنا).

وروى أبي الأحوص في فضله قال: (شَهِدْتُ أَبَا مُوسَى وَأَبَا مَسْعُودٍ، حِينَ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَتُرَاهُ تَرَكَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ؟ فَقَالَ: إِنْ قُلْتَ ذَاكَ، إِنْ كَانَ لَيُؤْذَنُ لَهُ إِذَا حُجِبْنَا، وَيَشْهَدُ إِذَا غِبْنَا)([13])، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم يظنونه وأمه من أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام من كثرة دخولهم عليه ولزومهم له.

وفي الصحيحين من حديث أبي وائلٍ شقيق بن سلمة، قال: كان عبد الله بن مسعودٍ يذكِّرنا كلَّ يوم خميسٍ، فقال له رجلٌ: يا أبا عبد الرحمن، إنَّا نحبُّ حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنَّك حدَّثتنا كلَّ يومٍ، فقال: ما يمنعني أن أحدِّثكم إلا كراهية أن أملَّكم؛ «إنَّ رسول الله  صلى الله عليه وسلم  كان يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهية السآمة علينا»([14]).

وقد عقد ابن القيم فصلًا في كتابه الفذ (الفوائد)، أورد فيه دررًا من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مستوحاة من مشكاة النبوة:

وفيما يلي درر من  كلامه رَضِي الله عَنهُ:

*قَالَ رجل عِنْده: مَا أُحِبُّ أَن أكون من أَصْحَاب الْيَمين، أحب أَن أكون من المقرَّبين، فَقَالَ عبد الله: لَكِن هَهُنَا رجلٌ ودَّ أَنه إذا مَاتَ لم يبْعَثْ. يَعْنِي نَفسه.

* وَخرج ذَات يَوْم، فَاتبعهُ نَاسٌ، فَقَالَ لَهُم: ألكم حَاجَة؟ قَالُوا: لَا، وَلَكِن أردنَا أَن نمشي مَعَك. قَالَ: ارْجعُوا فَإِنَّهُ ذِلَّةٌ للتتابع وفتنةٌ للمتبوع.

*وَقَالَ: لَو تعلمُونَ مني مَا أعلمُ من نَفسِي لحَثَوتُم على رَأْسِي التُّرَاب.

 وَقَالَ: حبَّذا المكروهانِ الْمَوْتُ والفقرُ. وأيمُ الله إِنْ هُوَ إِلَّا الْغنَى والفقرُ، وَمَا أُبَالِي بِأَيِّهِمَا بُلِيتُ، أَرْجُو الله فِي كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا: إِن كَانَ الْغنى إِنَّ فِيهِ للْعَطْف، وَإِن كَانَ الْفقرُ إِن فِيهِ للصبر.

 *وَقَالَ: إِنَّكُم فِي ممرِّ اللَّيْل وَالنَّهَار؛ فِي آجالٍ منقوصةٍ، وأعمالٍ مَحْفُوظَةٍ، وَالْمَوْتُ يَأْتِي بَغْتَةً؛ فَمن زرع خيراً فيُوشِكُ أَن يَحصُد رغبة، وَمن زرع شرّاً فيوشكُ أَن يَحصُد ندامةً، وَلكُلِّ زارعٍ مثل مَا زرع؛ لَا يسْبقُ بطيءٌ بحظِّه، وَلَا يُدْرِك حَرِيصٌ مَا لم يُقدَّر لَهُ؛ من أُعْطى خيراً فَالله أعطَاهُ، وَمن وُقى شرّاً فَالله وَقَاه. المتقون سادةٌ، وَالْفُقَهَاءُ قادةٌ، ومجالستُهم زِيَادَة.

 *إِنَّمَا هما اثْنَتَانِ: الْهدْيُ وَالْكَلَام؛ فأفضلُ الْكَلَام كَلَامُ الله، وَأفضل الْهَدْي هديُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَشرُّ الْأُمُور مُحدثاتُها، وكلُّ محدَثَةٍ بِدعَةٌ؛ فَلَا يَطولَنَّ عَلَيْكُم الأمدُ، وَلَا يُلهينَّكُمُ الأملُ؛ فَإِن كل مَا هُوَ آتٍ قريبٌ؛ ألا وإنَّ الْبعيد مَا لَيْسَ آتِيَا. ألا وإنَّ الشقي من شَقِيَ فِي بطن أمه، وَإِنّ السعيد من وُعِظَ بِغَيْرِهِ. أَلا وَإِنّ قتال الْمُسلم كُفْرٌ، وسبابَهُ فُسُوقٌ. وَلَا يَحلُّ لمُسلم أَن يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوق ثَلَاثَة أَيَّام، حَتَّى يُسلّم عَلَيْهِ إِذا لقِيهُ، ويُجيبهُ إِذا دَعَاهُ، ويعوده إِذا مرض. أَلا وَإِن شرَّ الرَّوايا روايا الْكَذِب. أَلا وَإِنَّ الْكَذِب لَا يصلُحُ مِنْهُ جدٌّ وَلَا هزلٌ وَلَا أَن يَعِدَ الرجلُ صَبِيَّهُ شَيْئا ثمَّ لَا يُنْجِزُهُ. أَلا وَإِنَّ الْكَذِب يهدي إِلَى الْفُجُور، والفجورُ يهدي إِلَى النَّار، والصدق يهدي إِلَى الْبر، وَالْبرُّ يهدي إِلَى الْجنَّة، وَإنّه يُقَالُ للصادق: صدق وبرّ، وَيُقَالُ للكاذب: كذب وفجر، وَإنّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم حَدثنَا «أَن الرجل ليصدُق حَتَّى يُكْتَب عِنْد الله صدِّيقاً، ويكذبُ حَتَّى يُكْتَب عِنْد الله كذَّاباً»([15]).

 *إِنَّ أصدقَ الحَدِيثِ كتابُ الله، وأوثق العُرى كلمةُ التَّقوى، وَخيرَ الملل مِلَّةُ إِبْرَاهِيم، وَأحسن السُّنَن سُنَّةُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وَخير الْهَدْي هديُ الْأَنْبِيَاء، وأشرف الحَدِيث ذكرُ الله، وَخير الْقَصَص الْقُرْآنُ، وَخير الْأُمُور عواقبها، وَشرَّ الْأُمُور مُحدثاتها، وَمَا قلَّ وَكفى خيرٌ مِمَّا كثر وألهى، وَنَفسٌ تُنْجيها خيرٌ من إِمَارَة لَا تُحْصِيها، وَشرُّ المعذرة حِين يَحْضُرُ الْمَوْتُ، وَشرُّ الندامة ندامةُ يَوْم الْقِيَامَة، وَشَرُّ الضَّلَالَة الضَّلَالَةُ بعد الُهَدَى، وَخيرُ الْغنى غنى النَّفس، وَخيرُ الزَّاد التَّقْوَى، وَخيرُ مَا أُلْقِيَ فِي الْقلبِ الْيَقِينُ، والرَّيْبُ من الْكفْر، وَشرُّ الْعَمى عمى الْقلب، وَالْخمر جِمَاعُ الْإِثْم، وَالنِّسَاءُ حبائلُ الشَّيْطَان، والشبابُ شُعْبَةٌ من الْجُنُون، وَالنَّوْحُ من عمل الْجَاهِلِيَّةِ، وَمن النَّاس من لَا يَأْتِي الْجُمُعَةَ إِلَّا دُبُراً وَلَا يذكر الله إِلَّا هُجراً، وَأعظم الْخَطَايَا الْكَذِبُ، وَمن يعفُ يَعفُ الله عَنهُ، وَمن يَكْظِم الغيظَ يَأْجُرُهُ الله، وَمن يَغْفِرْ يغْفر الله لَهُ، وَمن يصبر على الرَّزيَّة يُعْقِبْه الله، وَشرُّ المكاسب كسبُ الرِّبَا، وَشرُّ المآكل مَالُ الْيَتِيم، وَإِنَّمَا يَكْفِي أحدكُم مَا قنِعتْ بِهِ نَفسُه، وَإِنَّمَا يصيرُ إِلَى أَرْبَعَة أَذْرع، وَالْأَمر إِلَى آخِره، وملاكُ الْعَمَل خواتمهُ، وأشرف الْمَوْت قتلُ الشُّهَدَاءِ، وَمن يَستكبِر يَضَعْهُ الله، وَمن يَعْصِ الله يُطعِ الشَّيْطَان.

* يَنْبَغِي لحامل الْقُرْآن أَن يُعَرفَ بليله إِذا النَّاسُ نائمون، وبنهاره إِذا النَّاس مفطرون، وبحزنه إِذا النَّاس يفرحون، وببكائه إِذا النَّاس يَضْحَكُونَ، وبِصَمْتِه إِذا النَّاس يَخُوضُونَ، وبخشوعه إِذا النَّاس يختالون. وَيَنْبَغِي لحامل الْقُرْآن أَن يكون باكياً مَحْزُونا حكيما حَلِيماً سكيناً، وَلَا يَنْبَغِي لحامل الْقُرْآن أَن يكون جَافياً وَلَا غافلاً وَلَا سخَّاباً وَلَا صَيَّاحاً وَلَا حديداً.

*من تطاول تعظُّماً حَطَّهُ الله، وَمن تواضع تخشُّعاً رَفعه الله.

*وَإِنَّ للْملَكِ لَمَّةً وللشيطان لَمَّةً: فَلَمَّةُ الْملك إيعادٌ بِالْخَيرِ وتصديقٌ بِالْحَقِّ؛ فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فاحمدوا الله. ولَمَّةُ الشَّيْطَان إيعادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذيبٌ بِالْحَقِّ؛ فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فتعوَّذوا بِالله.

*إِنَّ النَّاس قد أَحْسنُوا القَوْلَ؛ فَمن وَافق قَوْلُه فعلَه فَذَاك الَّذِي أصَابَ حظَّه، وَمن خَالف قَوْلُهُ فعلَه فَذَاك إِنَّمَا يُوَبِّخُ نَفسه.

*إِنِّي لَأُبغِضُ الرجلَ أَن أرَاهُ فَارغًا لَيْسَ فِي شَيْء من عمل الدُّنْيَا وَلَا عمل الْآخِرَة.

* وَمن لم تَأمره الصَّلَاةُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَهُ عَن الْمُنكر لم يَزْدَدْ بهَا من الله إلاّ بُعْداً.

* من الْيَقِين أَن لَا تُرضي النَّاسَ بسخطِ الله، وَلَا تَحْمد أَحَداً على رزق الله، وَلَا تلوم أَحَداً على مَا لم يؤتِك الله؛ فَإِنَّ رزقَ الله لَا يَسُوقهُ حِرْصُ حَرِيصٍ وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهَةُ كَارِهٍ. وَإِن الله بِقسْطِهِ وحلمه وعدله جعل الرّوحَ والفرحَ فِي الْيَقِين وَالرِّضَى، وَجعل الهمَّ والحَزَنَ فِي الشَّكِّ والسخط.

*مَا دُمتَ فِي صَلَاة فَأَنت تَقْرَعُ بَابَ الْملك، وَمن يَقْرَعْ بَابَ الْملك يُفتَحْ لَهُ.

*إنِّي لَا حسبُ الرجل ينسى الْعلم كَانَ يعلمهُ بالخطيئة يَعْمَلُها.

*كونُوا ينابيعَ الْعلم، مصابيحَ الْهدى، أحلاسَ الْبيُوت، سُرُجَ اللَّيْل، جُدُدَ الْقُلُوب، خُلقانَ الثِّيَاب، تُعرفُون فِي السَّمَاء وتَخْفَون على أهل الأَرْض.

*إِنَّ للقلوب شَهْوَةً وإدباراً؛ فاغتنموها عِنْد شهوتها وإقبالها، ودَعُوها عِنْد فترتها وإدبارها.

*لَيْسَ الْعلم بِكَثْرَة الرِّوَايَة وَلَكِن الْعلم الخشية.

*إِنَّكُم ترَوْنَ الْكَافِر من أصحِّ النَّاس جسماً وأمرضه قلباً، وتَلْقَون الْمُؤمنَ من أصح النَّاس قلباً وأمرضهم جسماً. والله لَو مَرضت قُلُوبكُمْ وصحتْ أجسامُكم لكنتُمْ أَهْونَ على الله من الْجُعْلَان.

*لَا يَبلُغ العَبْدُ حَقِيقَةَ الْإِيمَان حَتَّى يَحُلَّ بذروته وَلَا يحُلُّ بذروته حَتَّى يكون الْفقرُ أحبَّ إِلَيْهِ من الْغنى والتواضعُ أحبَّ إِلَيْهِ من الشّرف، وَحَتَّى يكون حامدُه وذامُّه عِنْده سواءُ.

*وَإِنَّ الرجل ليخرُجُ من بَيته وَمَعَهُ دينه فَيرجعُ وَمَا مَعَه مِنْهُ شَيْءٌ؛ يَأْتِي الرجل، وَلَا يملك لَهُ وَلَا نَفسه ضرّاً وَلَا نفعا، فَيُقسِمُ لَهُ بِالله أَنَّك لذَيْتَ وذَيْتَ، فَيرجع وَمَا حُبِيَ من حَاجته بِشَيْءٍ ويسخط الله عَلَيْهِ.

*لَو سَخِرتُ من كلب لَخَشِيت أَن أحوَّل كَلْباً.

*الْإِِثْم حَوازُّ الْقُلُوب.

*مَا كَانَ من نظر فَإِن للشَّيْطَان فِيهَا مطمعاً.

*مَعَ كل فرحةٍ تَرْحةٌ، وَمَا مُلىءَ بَيتٌ حبْرَةً إلاَّ مُلئ عبرَةً.

*مَا مِنْكُم إِلَّا ضيفٌ وَمَاله عَارِيةٌ؛ فالضيف مرتحلٌ، وَالْعَارِية مُؤَداةٌ إِلَى أَهلهَا.

*يكون فِي آخر الزَّمَان أقوامٌ أفضلُ أَعْمَالهم التلاوُمُ بَينهم، يُسمَّون الأنتانَ.

* إِذا أحب الرجل أَن يُنصِف من نَفسه فليأتِ إِلَى النَّاس الَّذِي يُحِب أَن يُؤْتى إِلَيْهِ.

* الْحقُّ ثقيل مريءٌ، وَالْبَاطِلُ خَفِيفٌ وَبِيءٌ، رُبَّ شَهْوَةٍ تُورِثُ حزناً طَويلاً.

* مَا على وَجه الأَرْض شَيْءٌ أحْوجُ إِلَى طول سَجْنٍ من لِسَان.

* إِذا ظهر الزِّنَى والرِّبا فِي قَرْيَةٍ أُذِنَ بهلاكها.

*من اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَن يَجْعَل كنزَه فِي السَّمَاء حَيْثُ لَا يَأْكُلهُ السوسُ وَلَا تَنَالهُ السرَّاقُ فَلْيفْعَل؛ فَإِن قلب الرجل مَعَ كنزه.

* لَا يُقلِّدنَّ أحدُكُم دينَه رجلاً؛ فَإِن آمن آمن؛ وَإِن كفر كفر، وَإِن كُنْتُم لَا بُدَّ مقتدين فاقتدوا بِالْمَيتِ؛ فَإِن الْحَيّ لَا تُؤمَن عَلَيْهِ الْفِتْنَة.

* لَا يكن أحدكُم إِمَّعةً! قَالُوا: وَمَا الإمعةُ؟ قَالَ: يَقُول: أَنا مَعَ النَّاس؛ إِن اهتدوا اهتديتُ، وَإِن ضلُّوا ضللتُ، أَلا لِيوطِّنْ أحدكُم نَفسَه على أَنه إِن كفَر النَّاسُ لَا يكفر.

* وَقَالَ لَهُ رجلٌ: عَلِّمنِي كَلِمَاتٍ جَوَامِعَ نوافعَ! فَقَالَ: اعبدِ الله لَا تشرك بِهِ شَيْئاً، وَزُلْ مَعَ الْقُرْآن حَيْثُ زَالَ، وَمن جَاءَك بِالْحَقِّ فاقبلْ مِنْهُ وَإِن كَانَ بَعيداً بغيضا، وَمن جَاءَك بِالْبَاطِلِ فارْدُدْ عَلَيْهِ وَإِن كَانَ حبيباً قَرِيباً.

*يُؤْتى بِالْعَبدِ يَوْم الْقِيَامَة، فَيُقَالُ لَهُ: أدِّ أمانتك! فَيَقُول: يَا ربِّ! من أَيْن وَقد ذهبت الدُّنْيَا؟ فتُمثَّل على هيئتها يَوْم أَخذَهَا فِي قَعْر جَهَنَّم، فيزِل فيأخدها فَيَضَعُهَا على عَاتِقه فيصعد بهَا، حَتَّى إِذا ظن أَنه خَارج بنها هَوتْ وَهوى فِي أَثَرهَا أَبَد الآبدين.

*اطْلُبْ قَلْبك فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن: عِنْد سَماع الْقُرْآن، وَفِي مجَالِس الذّكر، وَفِي أَوْقَات الْخلْوَة؛ فَإِن لم تَجدهُ فِي هَذِه المواطن فسَلِ الله أَن يَمُنَّ عَلَيْك بقلبٍ؛ فَإِنَّهُ لَا قلبَ لَك([16]).

([1]) ذكره ابن بطة الإبانة الكبرى: 1/418.

([2]) سورة الحديد، آية: 10.

 ([3]) أخرجه مسلم في الصحيح-كتاب فضائل الصحابة– باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم:4/1963 رقم: 2533.

([4]) أخرجه مسلم في الصحيح-كتاب فضائل الصحابة– باب النهي عن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفضلهم على من بعدهم:2/465 رقم: 1746.

([5]) أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمارة القصّار النيسابوري، أحد علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام التصوف السني في القرن الثالث الهجري، وصفه الذهبي بأنه: (شيخ الصوفية). كان عالماً فقيهاً على مذهب سفيان الثوري. توفي سنة 271 هـ في نيسابور ودفن في مقبرة الحيرة. انظر سير أعلام النبلاء للذهبي: 13/50.

([6]) إعلام الموقعين:4/ 113.

([7])  أخرجه أحمد في المسند 6/10، وقال المحقق شعيب الأرناؤوط: (صحيح لغيره).

([8])  أخرجه أحمد في المسند: 2/244، وصححه الألباني في الصحيحة: 6/572.

([9])  أخرجه البخاري في الصحيح – كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم- باب مناقب سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه- 5/27 رقم: 3758. وأخرجه مسلم في الصحيح-كتاب فضائل الصحابة-باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله عنهما -4/1913 رقم: 2464.

([10])  أخرجه أحمد في المسند: 1/309، وابن حبان في الصحيح: 15/543، والطبراني في المعجم الكبير: 9/68، وصححه الألباني في الصحيحة: 5/379.

([11])  أخرجه مسلم في الصحيح- كتاب فضائل أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم- باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله تعالى عنهما -4/1913 رقم: 2463.

([12])  أخرجه مسلم في الصحيح- كتاب فضائل أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم- باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله تعالى عنهما -4/1912 رقم: 2462.

([13]) أخرجه مسلم في صحيح-كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم -باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله تعالى عنهما -4/1911 رقم: 2461.

([14]) أخرجه البخاري في الصحيح-كتاب الدعوات-باب الموعظة ساعة بعد ساعة-8/87، رقم: 6411، ومسلم في الصحيح-كتاب صفة القيامة والجنة والنار- باب الاقتصاد في الموعظة-4/2172 رقم:2821.

([15])  أخرجه مسلم في الصحيح-كتاب البر والصلة والآداب-باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله -7/2013 رقم: 2607.

([16]) – الفوائد لابن القيم.الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت- الطبعة: الثانية، 1393هـ – 1973م.

          -سير أعلام النبلاء للذهبي. الناشر: دار الحديث- القاهرة. الطبعة: 1427هـ-2006م.

         – الزهد؛ لأحمد بن حنبل. الناشر: دار الكتب العلمية- بيروت – لبنان- الطبعة: الأولى، 1420هـ – 1999م.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق