درر قرآنية (8): التشوف إلى مقامات التصوف(2) درر من تفسير ابن جزي الغرناطي (مقام التقوى)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده
وبعد فهذه الدرة الثانية من درر الإمام العلامة أبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي المالكي (ت:714) التقطت من تفسيره المسمى بـ«التسهيل لعلوم التنزيل» منتزعة من قوله سبحانه في سورة البقرة ﴿هدى للمتقين﴾ [البقرة:2]، فصل بها مقام التقوى الذي ينشده السائرون إلى الله من بداية الطريق إلى غايتها؛ إذ لا يزال السالك تعترضه أشواك الحياة، وتتناوشه كلاليب الدنيا، وتجذبه شهواتها وشبهاتها، وتهزه فتنها وابتلاءاتها، دون الوصول إلى مقام الشهود؛ ولهذا قال الجريري رحمه الله: «من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة: لم يصل إلى الكشف والمشاهدة»([1])
فالتقوى زاد السالك، ومطية السائر، وديدن الواصل، ولعل أصلها في لغة العرب يرمي إلى ما ارتامه القوم من حفظ النفس ووقايتها من المهالك؛ إذ كان معناها «حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره»؛ حتى قالوا: «والتقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف»([2])
وجِماعه ما ذكره القوم وهذبه ابن جزي في درجات خمس: أدناها اتقاء الكفر والحرمات، وأوسطها اجتناب ولغ في المباحات والشهوات، وذروتها فناء في الله عن غير الله، وفي ذلك قطع لحظوظ النفس عن النفس، وبذلها في جنب الكريم واهبها: عبوديةً وزلفى إليه؛ إذ كانت المطلوب بالذات، وسواها مرغوب بالعرض، فهو رخصة لذوي الأعذار والرخص، وهي عزيمة لأرباب العزائم، «فإن العزيمة الأولى هي التي نبه عليها قوله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ [الذاريات: 56] . وقوله سبحانه: ﴿وامر اهلك بالصلـوة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعـقبة للتقوى﴾ [طه: 132] . وما كان نحو ذلك مما دل على أن العباد ملك الله على الجملة والتفصيل؛ فحق عليهم التوجه إليه، وبذل المجهود في عبادته؛ لأنهم عباده، وليس لهم حق لديه، ولا حجة عليه، فإذا وهب لهم حظا ينالونه؛ فذلك كالرخصة لهم؛ لأنه توجه إلى غير المعبود، واعتناء بغير ما اقتضته العبودية.
فالعزيمة في هذا الوجه هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم، كانت الأوامر وجوبا أو ندبا، والنواهي كراهة أو تحريما، وترك كل ما يشغل عن ذلك من المباحات، فضلا عن غيرها؛ لأن الأمر من الآمِر مقصود أن يُمتثل على الجملة، والإذن في نيل الحظ الملحوظ من جهة العبد رخصة؛ فيدخل في الرخصة على هذا الوجه كل ما كان تخفيفا وتوسعة على المكلف؛ فالعزائم حق الله على العباد، والرخص حظ العباد من لطف الله؛ .. فتصير المباحات - عند هذا النظر- تتعارض مع المندوبات على الأوقات؛ فيؤثِر حظه في الأخرى على حظه في الدنيا، أو يؤثر حق ربه على حظ نفسه؛ فيكون رافعا للمباح من عمله رأسا، أو آخذا له حقا لربه؛ فيصير حظه مندرجا تابعا لحق الله، وحق الله هو المقدم المقصود؛ فإن على العبد بذل المجهود، والرب يحكم ما يريد..» ([3])، وما يعقلها إلا العالمون، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم؛ ولا ينهض بها إلا أرباب الأحوال، والخلص من خلقه، والصفوة من أوليائه.
تلك هي درجاتها. وجماع بواعثها: علم وشكر، خوف ورجاء، تعظيم ومحبة وحياء، وحاصل غبها نيل الرضى والفلاح، والولاية والصلاح.
فهذه فصول مقام التقوى الثلاثة: فضائل، وبواعث، ودرجات، فدونكها مفصلة عند الإمام أبي القاسم رحمه الله.
قال في تفسير قوله سبحانه: ﴿هدى للمتقين﴾ [البقرة:2] «هدى هنا بمعنى الإرشاد؛ لتخصيصه بالمتقين، ولو كان بمعنى البيان لعم كقوله: ﴿هدى للناس﴾.. «للمتقين»: مفتعلين من التقوى، وقد تقدم معناه في اللغات([4])، فنتكلم عن التقوى في ثلاثة فصول:
الأول: في فضائلها المستنبطة من القرآن، وهي خمس عشرة:
الهدى؛ لقوله: ﴿هدى للمتقين﴾ [البقرة: 2]
والنصرة؛ لقوله: ﴿إن الله مع الذين اتقوا﴾ [النحل: 128]
والولاية؛ لقوله: ﴿والله ولي المتقين﴾ [الجاثية: 19]
والمحبة؛ لقوله: ﴿إن الله يحب المتقين﴾ [التوبة:4 ]
والمعرفة؛ لقوله: ﴿إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا﴾ [الأنفال: 29]
والمخرج من الغم، والرزق من حيث لا يحتسب؛ لقوله: ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب﴾ [الطلاق: 2]
وتيسير الأمور؛ لقوله: ﴿ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا﴾ [الطلاق: 3]
وغفران الذنوب، وإعظام الأجور؛ لقوله: ﴿ومن يتق الله نكفر عنه سيئاته ونعظم له أجرا﴾ [الطلاق: 4]
وتقبل الأعمال؛ لقوله: ﴿إنما يتقبل الله من المتقين﴾ [المائدة: 29]
والفلاح؛ لقوله: ﴿واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾ [البقرة: 188]
والبشرى؛ لقوله: ﴿لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة﴾[يونس: 64]
ودخول الجنة؛ لقوله: ﴿إن للمتقين عند ربهم جنـت النعيم﴾ [القلم: 34]
والنجاة من النار؛ لقوله: ﴿ثم ننجي الذين اتقوا﴾ [مريم: 71] .
الفصل الثاني: البواعث على التقوى عشرة
خوف العقاب الدنيوي
وخوف العقاب الأخروي
ورجاء الثواب الدنيوي
ورجاء الثواب الأخروي
وخوف الحساب
والحياء من نظر الله، وهو مقام المراقبة
والشكر على نعمه بطاعته
والعلم؛ لقوله: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ [فاطر: 28]
وتعظيم جلال الله، وهو مقام الهيبة
وصدق المحبة فيه؛ لقول القائل [الإمام الشافعي]
تَعصي الإلهَ وأنت تُظهر حبه ** هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صـادقا لأطعتَه ** إن المـحب لمن يحب مطيع
ولله در القائل[يزيد بن معاوية الأموي]:
قالت وقد سألتْ عن حال عاشقها ** لله صِفه ولا تنقص ولا تَزد
فقلتُ: لو كان رهن الموت من ظمإ ** وقلتِ: قف عن ورود الماء، لم يَرد
الفصل الثالث: درجات التقوى خمس
أن يتقي العبد الكفر، وذلك مقام الإسلام
وأن يتقي المعاصي والحرمات وهو مقام التوبة.
وأن يتقي الشبهات، وهو مقام الورع.
وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد.
وأن يتقي حضور غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة».
التسهيل
لعلوم التنزيل
للعلامة لأبي القاسم الغرناطي:1/187..
([1]) ن مدارج السالكين لابن قيم الجوزية:2/65.
([2]) ن مفردات القرآن للعلامة الراغب الأصفهاني:881.
([3]) ن الموافقات للإمام الشاطبي:1/472.
([4]) قال حمه الله: «تقوى: مصدر مشتق من الوقاية، فالتاء بدل من واو، ومعناه: الخوف والتزام طاعة الله وترك معاصيه، فهو جماع لكل خير» 1/124.