درر قرآنية (13): خصال عشر في أعمال الباطن في تلاوة الكتاب: -4- التَّدَبُّرُ
التدبر: نظر فاقهٌ في أدبار أحرف الكتاب وأعقاب دلالات آيه، وذهابٌ غائر في مثارات حقائقها ومطويات بيانها، وقد جُعل في القرءان غايةَ الإنزال، وابتُغِيَ في الوسيلة إليه قراءة التمكُّث و الإمهال، فكانت سُنَّةُ الترتيل مَدّا في مُدَد تأدية المباني، ومَددا يُسعف التاليَ في استلهام المعاني، وتناهت إلينا المَناهي في هَذِّ أحرف التلاوة وهذرمتها، كما صحت الأخبار النبوية وآثار كرام الأسلاف بتصاريف أثيرة وتفاعلات أدائية عالية، تبوئ هذا المطلب الأغر مقامه، وتحقق له مُرتامه، من مثل استغراق مَلْءِ الزمن في ترداد الآي وتكرار مقاطعها، والجواب عند الآية والشهادة لها.. وكلها شواهد قيمة ناضرة تبتغي ترسيخ الملكة في التحلي بحلية التدبر، وتَطَلُّبِ مَهْيعه، والاستباق في تحصيل مراتبه في الفتش والتثوير، مع محاذرة محاذير قد تلابسه تمحلا في تعاطيه ، خاصة في شعيرة الصلاة، فتذهب به مذهب الإساءة في تحقيق مناطاته والحيدة به عن جَدد أذلاله.. وتلك أنحاء من القول يبلو خبرها ويحمل نبأها رابع هذه الدرر النفائس...
قال الإمام الحجة - عليه من الله متواتر الرحمة وسوابغ المغفرة -:
«الرابع :التدبر : وَهُوَ وَرَاءَ حُضُورِ الْقَلْبِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَتَفَكَّرُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنْ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَتَدَبَّرُهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقِرَاءَةِ التَّدَبُّرُ، وَلِذَلِكَ سُنَّ فيه الترتيلُ، لأن الترتيل فِي الظَّاهِرِ لِيتَمَكَّنَ مِنَ التَّدَبُّرِ بِالْبَاطِنِ؛ قَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ( لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا فِقْهَ فِيهَا، وَلَا فِي قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا )[1].
وَإِذَا لَمْ يتَمَكَّنْ مِنَ التَّدَبُّرِ إِلَّا بِتَرْدِيدٍ فَلْيُرَدِّدْ، إِلَّا أَنْ يكون خلفَ إمام، فإنه لو بقي في تدبُّر آية وقد اشتغل الإمامُ بآية أخرى كان مسيئاً؛ مثل من يشتغلُ بالتعجب من كلمة واحدة ممن يناجيه عن فهم بقية كلامه، وكذلك إذا كان في تسبيح الركوع وهو متفكر في آية قرأها إمامه، فهذا وسواس، فقد روي عن عامر بن عبد قيس أنه: قال الوسواس يعتريني في الصلاة، فقيل: في أمر الدنيا؟ فقال: لَأن تختلف فيَّ الأسِنَّة أحبُّ إلي من ذلك، ولكن يشتغل قلبي بموقفي بين يدي ربي عز وجل وأنِّي كيف أنصرف[2].
فعد ذلك وسواساً، وهو كذلك، فإنه يشغَلُه عن فهم ما هو فيه، والشيطان لا يقدر على مثله إلا بأن يشغَله بمهم ديني ولكن يمنعه به عن الأفضل. ولما ذكر ذلك للحسن[3] قال: " إن كنتم صادقين عنه، فما اصطنع الله ذلك عندنا".
وروي أنه صلى الله عليه وسلم " قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم فرددها عشرين مرة "[4]وإنما رددها صلى الله عليه وسلم لتدبره في معانيها.
وعن أبي ذر قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا ليلة، فقام بآية يرددها وهي: ﴿اِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُك وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ اَ۬لْعَزِيزُ اُ۬لْحَكِيمُ﴾[5] [المائدة:118]
وقام تميم الداري ليلة بهذه الآية: ﴿أَمْ حَسِبَ اَ۬لذِينَ اَ۪جْتَرَحُواْ اُ۬لسَّيِّـَٔاتِ﴾ الآية[6] [الجاثية:21].
وقام سعيد بن جبير ليلة يردد هذه الآية: ﴿وَامْتَٰزُواْ اُ۬لْيَوْمَ أَيُّهَا اَ۬لْمُجْرِمُونَ﴾[7].[يس:59]
وقال بعضهم:" إني لأفتتح السورة فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر".
وكان بعضهم يقول:" آية لا أتفهمها ولا يكون قلبي فيها لا أعد لها ثواباً "[8].
وحكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال: " إني لأتلو
الآية فأقيم فيها أربعَ ليال أو خمس ليال، ولولا أني أقطع الفكر فيها ما جاوزتها
إلى غيرها"
وعن بعض السلف أنه بقي في سورة هود ستة أشهر يكررها ولا يفرغ من التدبر فيها[9]
وقال بعض العارفين:" لي في كل جمعة ختمة، وفي
كل شهر ختمة، وفي كل سنة ختمة، ولي ختمه منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد[10]" وذلك بحسب
درجات تدبره وتفتيشه. وكان هذا أيضاً يقول: أقمت نفسي مقام الأجراء؛ فأنا أعمل مُياوَمة
و[مُجامعة] ومُشاهَرة ومُسانَهة.[11]»
إحياء علوم
الدين: 2/296 ـ 299 ( دار المنهاج )
[1] - رواه الدارمي في سننه ( 305)، وأبو نعيم في الحلية: 1/77
[2] - رواه ابن المبارك في الزهد(1561) بنحوه
[3] - هو الحسن البصري
[4] - قال العراقي: رواه أبو ذر الهروي في معجمه من حديث أبي هريرة بسند ضعيف. (3 / 123)
[5] - رواه أحمد ( 5/ 156 ) ،و النسائي (2/177) في الافتتاح، وابن ماجه ( 1350)، وصححه الذهبي ووافقه الحاكم.
[6] - فضائل القرءان لأبي عبيد:145
[7] - أورده أبو عبيد في فضائله: 148 مسندا إلى سعيد ابن جبيرفي غير هذه الآية.
[8] - ينظر هذا والذي قبله في قوت القلوب: 1/46
[9] - ينظر في هذا والذي قبله قوت القلوب: 1/50
[10] - يعني ختمة التفهم والمشاهدة [ إتحاف السادة المتقين: 5/507]. ن. قوت القلوب: 1/50
[11] - المياومة: معاملة يوم بيوم، والمشاهرة: معاملة الشهر إلى الشهر، ومجامعة [ كما في الإتحاف] : وهي معاملة الجمعة إلى الجمعة، ولم يسمع استعماله عن العرب. ومسانهة : وهي معاملة السنة إلى السنة [ إتحاف السادة المتقين: 5/ 507]