مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

دخول العقيدة الأشعرية إلى المغرب

مقالة للأستاذ: عبد الله غاني[1]
(عرض وتقديم)

قسم الكاتب هذه المقالة إلى جزئين عنونهما كالتالي:
1- الجزء الأول: موقف القبول ونشر العقيدة الأشعرية.
2- الجزء الثاني: موقف الرفض.

1-  موقف القبول ونشر العقيدة الأشعرية:

ابتدأ الاستاذ عبد الله غاني مقالته بتمهيد قال فيه: « إذا أردنا أن نترصد الجانب العقدي بالمغرب في المرحلة الممتدة ما بين الفتح الإسلامي وقيام دولة الموحدين فإننا نجد أنه بعد انقضاء فترة الصحابة والتابعين الذين قدموا إلى إفريقيا، والذين تميز موقفهم بما كان عليه السلف الصالح من التسليم التام بكل ما جاء به الإسلام وعدم المناقشة في أمور العقيدة، لم تلبث الأحداث السياسية والاجتماعية والفكرية والنظرية التي عاشها المسلمون في المشرق أن بلغ صداها إلى ربوع الشمال الإفريقي. وتحكي لنا المصادر مظاهر هذا التأثر  في صورة مناظرات ومناقشات كانت تدور بين أتباع الطوائف، فمن الأمثلة على ذلك ما يحكيه صاحب “شجرة النور الزكية”[2] وما يثبته صاحب “رياض النفوس”[3] وغيرهما. وهكذا نجد عند ابن مخلوف في شجرة النور الزكية أن «يحيى بن سلام اتهم بالإرجاء، ولكنه نفى التهمة عن نفسه، إذ أتاه رجل وقال له: يا أبا زكريا إنهم يقولون إنك تقول بالإرجاء، فضرب بيده على جدار القبلة وقال: لا، ورب هذه القبلة ما عبدت الله على شيء من الإرجاء قط، وقد حدثتكم أنه بدعة»[4].
وذكر الكاتب نصوصا أخرى في الموضوع، ثم عقب قائلا: «ولكن نار هذه الفتنة سرعان ما خمدت والتزم سكان الشمال الإفريقي وخصوصا المغاربة منهم بالمذهب المالكي والتزموا أقوال أتباع مالك..وقد حافظت رسالة ابن أبي زيد القيرواني لأهل المغرب والشمال الإفريقي على مذهب الإمام مالك الفقهي ومذهبه العقائدي طيلة قرون، فقد عمت شهرتها الآفاق وتولاها كثير من العلماء بالشرح والتعليق، كما أنها ظلت تدرس في جامعة القرويين وجامعة الزيتونة طيلة قرون. وتعتبر مقدمتها خلاصة لعقيدة المغاربة».
ثم انتقل للحديث عن ابن أبي زيد القيرواني وطرح أفكاره التي تثبت موافقة كثير منها لمقولات الأشاعرة،
1- ابن أبي زيد القيرواني:
وبعد التعريف به و بمراحل تتلمذه  و ذكر أقواله العقدية في مقدمة الرسالة في مسألة معنى الإيمان والوحدانية والاستواء والكلام والغيبيات كخلق الجنة والنار ورؤية الباري تعالى، عقب كاتب المقال قائلا: « ملاحظة جوهرية يمكن أن تسترعي دارس المقدمة العقدية للرسالة وهي تتعلق بأن ابن أبي زيد يتفق مع ما ذهب إليه أصحاب الحديث والمعتزلة والشيعة والخوارج من أن الإيمان عقد وقول وعمل، أي أنه  تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح أيضا وأنه يخالف قول الأشعري. وهذا أدى ببعض مؤرخي العقائد والفرق الإسلامية إلى اعتبار ابن أبي زيد القيرواني من مدرسة الحديث ولم يعدّوه أشعريا، ولكن هذا الرأي فيه شطط ومبالغة وإغفال للتطور الفكري والعقائدي الذي شهدته تلك الفترة التاريخية. فقد حدث تقارب بين مالكي القيروان ثم الغرب الإسلامي عامة فيما بعد  و بين الأشعرية، وهذا ما جعل فقهاء وعلماء الأندلس الذين كانوا يتوجهون إلى القيروان ليدرسوا بها يتلقون العلم على تلاميذ مباشرين لابن أبي زيد القيرواني، وفي القرن الرابع بالذات حدث التقارب المشار إليه. فالمعروف عن القيرواني كراهيته للكلام والجدال في الدين اقتداء بالإمام مالك، إلا أنه عاد إلى التسامح في الأخذ بعلم الكلام لهدف الدفاع عن العقيدة ضد خصومها وتبنَّى المذهب الأشعري إلى حد أن ابن عساكر مؤرخ الأشعرية ينسب إليه أقوالا فيها إشادة بأبي الحسن الأشعري ويعتبره من شيوخ المذهب الأشعري حيث يقول عنه: «من الشيوخ المتأخرين المشاهير»،[5]  ومما يقوي هذا التأكيد الجازم باعتناقه للصيغة الأشعرية لمذهب السنة أنه حسب ما يرويه الدباغ [6] تخلى عن الكثير من الآراء التي كان يؤمن بها والتي لا تنسجم وما يقول به الأشاعرة. وهكذا فإن تطابق معتقده في المسائل كلها، خلا مسألة الإيمان، مع عقيدة الأشاعرة يجعله في صف الأشاعرة».
ثم انتقل الباحث بعد ذلك للحديث عن أبي عمران الفاسي، و أبي بكر بن العربي المعافري، والقاضي عياض، وقد أدى كل واحد منهم مهمته في تدعيم عقيدة المغاربة الأشعرية وتجذير المذهب المالكي بالمغرب.
2-  أبو عمران الفاسي:
أما أول هؤلاء وهو أبو عمران الفاسي فقد كان من وراء تأسيس دولة المرابطين، يقول عنه كاتب المقال: «أما عن علاقة أبي عمران الفاسي بإدخال معتقد الأشعرية إلى المغرب، فإن المؤرخين والباحثين يرصدون ذلك من خلال لقاء يحيى بن إبراهيم الجدلي به.. ذلك أن يحيى بن إبراهيم في طريق عودته من الديار المقدسة إلى بلاده صنهاجة، مرَّ بالقيروان وحضر دروس الشيخ أبي عمران الفاسي وتأثر بها، كما أن أبا عمران أعجب بيحيى بن إبراهيم ولاحظ حرصه على تعلم أمور الدين، فسأله عن اسمه ونسبه وبلده، فأخبره بكل ذلك وأعلمه بسعة بلاده وما فيها من كثرة الخلق، فسأله أبو عمران: وما ينتحلون من المذاهب، فأجابه يحيى: ما لنا علم من العلوم ولا مذهب من المذاهب لأننا في الصحراء منقطعون لا يصل إلينا إلا بعض التجار الجهال، حرفتهم الاشتغال بالبيع والشراء ولا علم عندهم. لهذا السبب طلب يحيى بن إبراهيم الجدالي من أبي عمران الفاسي أن ينتدب له من بين تلاميذه من يصلح لتعليم قوم يحيى تعاليم الإسلام وشرائعه لأنه لا يوجد بأرضه من يقرأ القرآن فضلا عن العلم.. فأجابه أبو عمران قائلا: إني أعرف ببلاد نفيس من أرض المصامدة فقيها حاذقا تقيا ورعا، لقيني هنا وأخذ عني علما كثيرا، وعرفت ذلك منه، واسمه واجاج بن زلو اللمطي من أهل السوس الأقصى، وهو الآن يتعبد ويدرس العلم ويدعو الناس إلى الخير في رباط هنالك، وله تلاميذ جمة يقرأون عليه العلم، اكتب إليه كتابا لينظر في تلاميذه من يبعثه معك، فسر إليه فعنده تجد ما تريد»..[7] ثم يضيف استكمالا لهذه الحادثة: «وقد وجد ضالته هذه المرة في شخص عبد الله بن ياسين الذي لم يتتلمذ على أبي عمران الفاسي مباشرة وإنما تخرج على يد واجاج بن زلو اللمطي تلميذ أبي عمران الفاسي، وهكذا توجه عبد الله بن ياسين مع يحيى بن إبراهيم الجدالي إلى بلاد المصامدة، وشرع في خطة العمل المرسومة والتي تتلخص في بناء رباط واستقطاب من يناصر هذه الدعوة التي كانت في نظر بعض المؤرخين سببا في الاعتناق الصحيح للإسلام من طرف سكان هذه المنطقة، ذلك أن إسلام الفتح الأول السريع سرعان ما تلاشت آثاره نتيجة نقص الاحتكاك بالشمال، حتى إن عبد الله بن ياسين حين وصل بلاد المصامدة وجد أكثرهم لا يصلون ولا يزكون وليس عندهم من الإسلام إلا الشهادة.»[8]واستكمل قائلا: «ولعل هذه الأرضية لعبت دورها الخطير في نجاح دعوة عبد الله بن ياسين، ذلك أنه حين كثر الوافدون على رباطه أخذ يقرئهم القرآن ويستميلهم إلى الآخرة ويرغبهم في ثواب الله تعالى ويحذرهم أليم عذابه، حتى تمكن حبه منهم في قلوبهم، فلم تمر عليه أيام حتى اجتمع إليه ألف رجل من أشراف صنهاج، فسماهم المرابطين للزومهم رابطته وأخذ هو يعلمهم الكتاب والسنة والوضوء والصلاة والزكاة وما فرض الله عليهم من ذلك، فلما تفقهوا في ذلك وكثروا، قام فيهم خطيبا فوعظهم وشوقهم إلى الجنة وخوفهم من النار وأمرهم بتقوى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم دعاهم على جهاد من خالفهم من قبائل صنهاجة. وهكذا انطلقت دعوة المرابطين لتأسيس دولة سنية كان مؤسسها في الحقيقة هو عبد الله بن ياسين لأنه هو الذي كان يأمر وينهى ويعطي ويأخذ..»
ويعلق على هذا النص قائلا :«وهكذا جمعت دولة المرابطين بين العدوتين  الأندلس والمغرب، وكان لذلك انعكاسات كبيرة من الناحية الفقهية والعقائدية فقد انتشر المذهب المالكي وكتب له الظهور على غيره من المذاهب، يصف لنا عبد الواحد المراكشي هذه الظاهرة قائلا: «ولم يكن يقرب من أمير المسلمين ويحظى عنده إلا من عَلمَ عِلْم الفروع أعني فروع مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب وعمل بمقتضاها ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسي النظر في كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء، ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام وكراهة السلف له وهجرهم من ظهر عليه شيء منه وأنه بدعة في الدين.. حتى استحكم في نفسه بغض علم الكلام وأهله، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شيء منه، وتوعد من وجد عنده شيء من كتبه..»[9]ثم أضاف قائلا: «هذه الصورة التي قدمها لنا صاحب المعجب وصور لنا فيها اهتمام المرابطين بعلم فروع الفقه يؤيدها ما نجده في ثنايا كتب الطبقات حين الحديث عن تراجم الفقهاء،[ثم أورد نصوصا أخرى في الموضوع، وعلق عليها قائلا]: وهكذا كانت السمة الغالبة في عهد المرابطين هي التشدد  والتزمت من أجل المصلحة الخاصة على حساب سماحة الدين ويسره وتفتحه. وثمة مسألة أخرى تميّز عقيدة المغاربة في عهد المرابطين وهي نتيجة حتمية لسابقتها ونلمسها في النقد الذي وجهه ابن تومرت إليهم، وخلاصته أن المرابطين كانوا مجسمة مشبهة وقد سماهم حشوية الفروع، وإن كان ابن تومرت لا يفصل القول حين يصف المرابطين بالمجسمين والمشبهة في ماهية هذا التجسيم وهذا التشبيه، إلا أننا نستنتج من اتجاهه إلى تأويل الآيات المتشابهة في القرآن تأويلا عقليا، ينم عن منحى تجسيميا على نحو ما كانت تفعل الحشوية والكرامية مثلا، وعلى نحو ما ذهب كذلك السلفية المحدثة على يد ابن تيمية».
ثم يختم هذا الجانب التاريخي من تطور الأشعرية بالمغرب قائلا: «لكن إذا كان ما قيل حقا من أن السمة الغالبة للفكر الإسلامي في عهد المرابطين هي الجمود الذي تولد عن حصر اهتمامهم في تدارس الخلافيات وانصرافهم إلى فروع الفقه وبعدهم عن أصوله مما استحقوا بسببه نقد الإمام الغزالي إياهم، فإن واجب الإنصاف يقتضي من الباحث أن يظهر أن هذا الجمود لم يكن تاما، وذلك لأن دولة المرابطين قد اتسعت رقعتها الجغرافية حتى شملت بلاد الأندلس.. وقد أدى اختلاط المرابطين بعرب الأندلس إلى أن برز من بين المرابطين إلى جانب طائفة الفقهاء بعض العلماء الذين تمتعوا بسعة أفق فجمعوا إلى جانب الفقه علوم العقائد وما سماه الغزالي علوم الآخرة، والذين نلمح في كتاباتهم أن الإسلام كان شيئا وقر في قلوبهم حقا، وأنهم كانوا يريدون بعلمهم وجه الله والنصح للمسلمين لا متاع الدنيا وزخرفها..»
3-  أبو بكر بن العربي المعافري:
ثم انتقل إلى التعريف بأبي بكر بن العربي المعافري قائلا:
 «يعد من العلماء الذين قال عنهم الغزالي إنهم كانوا يقصدون بعلمهم وجه الله لا وجه الدنيا، وتعد جهوده من أجل الدفاع عن العقيدة الصحيحة وفي الرد على أفكار الخوارج والشيعة وغيرهم، ودحض التهم التي وجهها هؤلاء إلى الصحابة رضوان الله عليهم أو إلى بعضهم جهادا في سبيل تركيز العقيدة الأشعرية في المغرب..»[10]،.. وأضاف :«وهكذا عمل القاضي أبو بكر بن العربي طيلة أربعين سنة في التدريس وتركيز العقيدة الأشعرية والفقه المالكي، ومما يؤكد ذلك أن العقيدة النظامية التي ألفها الإمام الجويني وكانت من بين المتون التي تدرس في علم العقائد، سمعها ودرسها ابن العربي عن الإمام الغزالي الذي أخذها بدوره عن واضعها الجويني، وهكذا دخلت إلى المغرب على يد الإمام أبي بكر بن العربي وكانت تدرس به..»، ثم ذكر بعض النصوص تثبت مواقف ابن العربي الأشعرية، خاصة منها ما يتعلق بالإمامة من القول بالتنصيص على الإمام علي رضي الله عنه وما صاحب ذلك من جدل كبير ..و عقب عليها قائلا : «ويتجلى من خلال هذه الردود صفاء العقيدة والنزاهة في التفكير وتوخي الموضوعية والحق عن طريق البراهين والأدلة الشرعية والعقلية،  وكل هذا كان يبثه ابن العربي في تلاميذه ومعاصريه، وهكذا كان له فضل تخريج علماء الجيل.. وهكذا جاهد ابن العربي طوال حياته من أجل إثبات العقيدة الأشعرية في المغرب في وقت عمل فيه الولاة والفقهاء- مدفوعين إلى ذلك- على القضاء على هذه العقيدة..».
4-  القاضي عياض:
بعد التعريف به  وبفضله وعلمه  وذكر تصانيفه قال: «وقد كان القاضي عياض على مذهب أبي الحسن الأشعري، فقد صحب عبد الغالب بن يوسف السالمي المتكلم على مذهب أهل السنة من الأشعرية منذ إقامته بسبتة.. وقرأ على يوسف بن موسى الكلبي المتكلم على مذهب الأشعرية أرجوزته التي ألفها في الاعتقادات كما قرأ كتاب المناهج في الجدل والمناظرة لأبي الوليد الباجي.
وما احتجاج القاضي عياض المتكرر بآراء أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر  الباقلاني وأبي بكر بن فورك وأبي المعالي إمام الحرمين الجويني إلا دليل قاطع على صلته الوثيقة بالمذهب الأشعري ودراسته لمؤلفات أعلامهم في الاعتقاد، كما أنه يصف الباقلاني وابن فورك بقوله:(من أئمتنا)، كما أن مناقشات عياض العميقة لآراء المعتزلة وللفرق الاعتقادية الإسلامية على اختلاف مذاهبها تطلع الدارس لعياض على معرفته الواسعة بالمذاهب الاعتقادية وآراء أصحابها، وعلى اختياره لمعتقد الأشاعرة والتزامه به وصدوره منه للرد على مخالفيه باعتباره معتقد أهل السنة والجماعة».
ثم ختم حديثه عن القاضي عياض بقوله: «وهكذا فصلة القاضي عياض بعلم الكلام وما يتبعه من جدل ومناظرة ومعرفته بدقائق آراء المخالفين لأهل السنة فيه تصل بنا إلى أن المدرسة التي أخرجت القاضي عياضا وشيوخه الذين تعلم عليهم الكلام وأصول الدين والعلماء المغاربة الذين اشتغلوا بعلم الكلام واشتهروا به وترجم لهم في “ترتيب المدارك”هذه المدرسة كانت على علم تام بالجدل والمناظرة وأصول الدين والكلام على مذهب أبي الحسن الأشعري، وإن كتب الأشاعرة في علم الكلام كانت معروفة بين رجالها يتدارسونها في كافة أنحاء المغرب، وهذه الفئة من العلماء هي التي صمدت في وجه الفقهاء المتزمتين، وظلت تحافظ على تجذير العقيدة الأشعرية في المغرب وتدافع عنها».

2- موقف الرفض ومحاربة الأشعرية:

ثم انتقل الأستاذ عبد الله غاني إلى الجزء الثاني من مقالته لذكر موقف الرفض من العقيدة الأشعرية مجسَّدا في موقف ابن حزم الظاهري.    
– ابن حزم الظاهري:
واجه الأشاعرة والأشعرية بالمغرب الإسلامي خصما عنيدا هو ابن حزم الذي أعطى للمذهب الظاهري نفسا جديدا بالأندلس وأحياه في عصره.
وبعد ذكر تعريف عن ابن حزم وأدواره العلمية، قال عن مصنفاته: «وله مصنفات كثيرة جليلة القدر شريفة المقصد في أصول الفقه وفروعه على مهيعه الذي يسلكه ومذهبه الذي يتقلده وهو مذهب داود بن خلف الأصبهاني الظاهري ومن قال بقوله من أهل الظاهر ونفاة القياس والتعليل»، ثم أضاف في نفس الموضوع  قائلا:  «فكان أول تعبير عن ذلك أن خرج عن المذهب المالكي الذي كان سائدا بالمغرب والأندلس من باب (خالف تعرف) بعد أن ترك المذهب الشافعي الذي اعتنقه أياما، ثم جميع المذاهب الأخرى لأنها بنيت على القياس الذي ينتقده ولا يقبله، وأخذ بمذهب داود بن علي الأصبهاني رأس المذهب الظاهري في الشرق، فغدا بذلك رجلا جديدا في بيئته، لقد سبق له أن درس واطلع على جميع المذاهب فلم يرتض لنفسه منها شيئا، لذلك وضع لنفسه مذهبا يرضيها، وأخذ يهاجم بقية المذاهب من جبهة ليس معه فيها نصير ضد من ناصبهم العداء، فأخذ يشن هجماته عليهم ويسفه آراءهم الكلامية المختلفة، وعقد مناظرات مع أهل المذاهب الشائعة اتسمت أكثر الأحيان بإغلاظه القول لمناظريه والتهجم عليهم بالتسفيه تارة وبالتفسيق بل وبالتكفير أخرى..»
ثم قال: «والذي يعنينا من مؤلفاته في بحثنا هذا هو كتابه”الفصل في الملل والأهواء والنحل” ومقدمة كتابه”المحلى”، فقد كرس كتابه”الفصل” لإظهار سمو الدين الإسلامي على الديانة اليهودية والنصرانية، وفي داخل الإسلام لإظهار سمو فريق أهل السنة والجماعة والذي يعني به المذهب الظاهري على باقي الفرق..»
ثم أضاف قائلا:«عارض في الأشعرية ميلها إلى التوفيق بين موقف النصيين والعقليين، واتهمها بأنها جنحت بذلك نحو إفساح مكان لعنصر التأمل والنظر في العقائد معتبرا ذلك تحريفا لها، ولعل هذا ما يفسر لنا عنف لهجته في مخاطبة الأشاعرة والرد عليهم..وهو تارة يجمع كل الأشعرية في أحكامه عليهم بالكفر والشرك، مما يدل على غيظ وحنق دفين يعمي البصر عن تمييز الحق من الباطل وعن تحري الصواب والأمانة العلمية في نقل الأقوال وإصدار الأحكام..»
 ثم ذكر أن اتهامات ابن حزم للأشعرية تصدر من منطلقين:
1-    من إشاعات و أقوال أعداء الأشعرية وخصومها الذين حاربوها وحاولوا إلصاق التهم بها، وأورد مجموعة من النصوص للتدليل على ذلك، وعقب عليها بقوله: «هكذا يتبين أن ابن حزم لم يعتمد أقوال أصحاب الشائعات من أعداء الأشعرية الذين عملوا على تلطيخ سمعتها واكتفى بذلك، بل إنه ساهم بدوره في اصطناع أحداث وتلفيق أقاويل».
2-    والمنطلق الثاني الذي صدر عنه ابن حزم في موقفه هذا هو نظرته الظاهرية لأقوال الأشاعرة، فكان يحمل أقوالهم على غير معناها الذي قصدوه، ويعمد إلى تشويه أقوالهم وبترها من سياقها، ثم أورد مجموعة من النصوص توضيحا  لذلك، خاصة في مسألة القول بالجزء الذي لا يتجزأ، والكلام في الأحوال، وأورد كذلك بعض الردود عليه.

 

الهوامش:

 

[1] مقال منشور بمجلة دار الحديث الحسنية-العدد:9-1412هـ/1991م-ص: 95-150
[2] ذكره المالكي في رياض النفوس-ج1/ص:188- حققه: بشير البكوش-راجعه: محمد العروسي المطوي-دار الغرب الإسلامي/بيروت-الطبعة الثانية/1994
[4-3] شجرة النور الزكية لمحمد بن محمد مخلوف-تحقيق: علي عمر-مكتبة الثقافة الدينية-الطبعة الاولى/2006-ج/1-ص:276
[5] تبيين كذب المفتري-لابن عساكر-تحقيق: احمد حجازي السقا-دار الجيل/بيروت-الطبعة الالى/1995-ص:123
[6] معالم الإيمان للدباغ-تحقيق وتعليق: محمد ماضور-المكتبة العتيقة بتونس/مكتبة الخانجي بمصر-(د.ت)-ج3-ص:140
[8-7] القصة مذكورة في الأنيس المطرب لابن أبي زرع الفاسي-دار المنصور للطباعة والوراقة/الرباط(د.ت)- ص:122-والبيان المغرب لابن عذارى المراكشي-تحقيق: عبد الله محمد علي-دار الكتب العلمية/بيروت-الطبعة الاولى/2009 ج4/ص:7-8-9-والاستقصا للناصري-منشورات وزارة الثقافة والاتصال/2001-ج2-ص:163
[9] المعجب في تاريخ المغرب لعبد الواحد المراكشي-ج/4-ص: 50 فما فوق
[10] إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي-تحقيق: سيد عمران-دار الحديث/القاهرة-طبعة/2004-الجزء الأول-(كتاب العلم) –ص:38 فما فوق.
     

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق