مركز الأبحاث والدراسات في القيمدراسات عامة

داعش وادعاء إمامة التغلب ” قراءة في أسس التولية والحكم في الإسلام”

شكلت فكرة المتغلب أحد الأوجه البارزة في التطورات الراهنة، خصوصا في سياق ما يصطلح عليه بالربيع العربي المعاصر، وعلى وقع التحولات السياسية التي عرفتها بعض دول المنطقة العربية، كان طموح المجتمعات الإسلامية إعادة النظر في أسس الدولة وتقويم مدى شرعية الممارسات السياسية بغرض التأسيس لعمل سياسي جاد ومسؤول، وذلك عن طريق كل الوسائل السلمية والمشروعة، وبعيدا عن كل أشكال العنف والاقتتال والهيمنة، وإسقاط كل المسوغات لنهج الاستيلاء على الحكم بالقوة والغلبة.ومن المؤكد أن فكرة المتغلب تعتبر من الأفكار الرائجة في الفقه الإسلامي وفي الثقافة الإسلامية قديما وحديثا، بمعني أن من استولى على الخلافة أو الإمارة بالقوة والسيف حتى قهر خصومه واستولى على البلاد وسلم له العباد. فهو إمام شرعي تجب طاعته ولا تجوز معصيته ولا الخروج عنه، وهو ما كان يصطلح عليه في أدبيات الفقه الإسلامي بإمارة الاستيلاء وولاية المتغلب...وبالرغـم من تعدد مواقف الفقهاء حول إمامة المتغلب، إلا أن السواد الأعظم من أهل الفقه اعتبروا أن الإسلام لم ينص على مشروعية هذه الطريقة في تولي الحكم، ولا هو أرشد إليها ولا أقر وقوعها ولو في نازلة واحدة، فلا نجد شيئا من هذا لا في القرآن الكريم، ولا في السنة الشريفة، ولا في سنة الخلفاء الراشدين[1].وفي الوقت الذي ذهب السواد الأعظم من أهل الفقه والسياسة إلى أن تولي الحكم بالقوة والغلبة والاستيلاء قد انتهى زمانه وتمحض بطلانه[2]، يطالعنا الواقع المعاصر بأنموذج جديد في مجال الحكم والسياسة يتخذ من الاسم "تنظيم الدولة الإسلامية" أو "تنظيم داعش" ومن فكرة "إمامة المتغلب" موضوعا له، لإقامة دولته المزعومة على منهاج الخلافة الإسلامية، في تجاوز وتجاهل تام لكل الأسس التي قامت عليها الدولة في الإسلام من حيث النظرية والتطبيق.وبعيدا عن التعبيرات التراثية التي نسجت مسوغات فكرة إمامة المتغلب من حيث قبول ورفض المفهوم، تبقى التجربة الإسلامية في غاية الفرادة والتميز من حيث المبادئ والأسس التي تنبني عليها دولة الخلافة الأولى، واقترابها من فكرة الإمام المتغلب يكاد يكون مستحيل الحدوث، وذلك بالنظر إلى متانة القواعد الشرعية وقوة نفاذها في الإسلام.وعليه يكون الحديث عن الحكم القائم على الغلبة والقهر و التسلط يقتضي إعادة طرح الأسئلة القديمة الجديدة حول شرعية مثل هذه الطرق في الحكم،خصوصا في سياق التطورات السياسية التي تعرفها بلداننا العربية في زمننا الراهن،وحالة التفكك والتمزق والاقتتال والفوضى الأمنية التي أسهمت في بناء طرائق جديدة في الحكم، والظاهرة الداعشية تمثل إحدى الأوجه البارزة لفكرة إمامة المتغلب في زمننا الراهن،وعليه نضع بين يدي هذه المقالة الإشكالية التالية:هل تعتبر الظاهرية الداعشية تجسيدا لفكرة المتغلب في وجهة نظرها المعاصرة؟ وما مدى تمثل أسس الدولة الداعشية بالخلافة الإسلامية من حيث التولية والحكم؟إمامة المتغلب بين الفقه والتاريخمما يقرره ويردده الفقهاء والأصوليين أن النصوص متناهية والوقائع لامتناهية، وأنه يتعذرالتنصيص على كافة الحالات والاحتمالات والوقائع الممكنة عبر التاريخ بكل تقلباتها وتشكلاتها التي لا تنتهي، فيبقى كثير منها -أو أكثرها- للاجتهاد والتفاعل بين الفقه والتاريخ.وفي موضوعنا نجد أن الطرق والأساليب المتبعة في تولي الحكم وتدبير شؤونه عبر التاريخ لا تقف عند حد ولا تلتزم بقيد . ومن هنا وجد الفقهاء أنفسهم أمام دول تقوم وتسود، وليس فيها مكان للشرعية السياسية للدولة، أي شرعية الشورى والاختيار، ولكنها على كل حال دول تدين بالإسلام، وتحكم باسم الإسلام، وتنفذ كثيرا من أحكام الإسلام...ووجدوا -من بين ما وجدوا- أن التاريخ يضعهم أمام حكام تغلبوا وتمكنوا، واستولوا على الحكم وأقاموا دولتهم، لا بالشورى والاختيار من أهل الحل والعقد، ولكن بفضل شوكتهم وقوة عصبيتهم، وربما بفضل سيوفهم وسيوف أنصارهم[3].ولئن وجد بعض الفقهاء مسوغات معقولة لإمامة المتغلب في عصور سابقة، على الأقل في بعض حالاتها، فإن السواد الأعظم من جمهور الفقهاء والمتكلمين ذهبوا إلى أن إمامته لا تنعقد إلا بالرضا والاختيار، لكن يلزم أهل الاختيار عقد الإمامة له، فإن اتفقوا أتموا؛ لأن الإمامة عقد لا يتم إلا بعاقد[4]ويمكن مشاهدة هذا الاتجاه نحو الاختيار لدى العديد من الفقهاء والأصوليين كالماوردي والفراء في كتابيهما "الأحكام السلطانية" حيث قال الماوردي " الإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما باختيار أهل العقد والحل.....[5] و"أن أهل الاختيار تقوم بهم الحجة وببيعتهم تنعقد الخلافة".[6] ويقول الفراء "الإمام الذي يجتمع عليه كلهم يقول هذا إمام" وعلق عليها قائلا:"ظاهر هذا أنها تنعقد بجماعتهم".[7]وبالرغم من محاولات المزج بين نظرية الشورى أو الاختيار وبين نظرية الغلبة والقهر والقوة، مما دفعهم إلى التحدث عن إمامة المتغلب والتعامل مع بعض حالاتها، إلا أن المعتبرلدى كثير منهم هو القول بالاختيار والشورى كإحدى الطرق الشرعية التي يقوم عليها نظام الحكم في الإسلام، وضرورة تجنب الإكراه والإجبار في البيعة  "لأنها عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار"[8]يقول الإمام الجويني في هذا الصدد " أن الاختيار من أهل الحل والعقد هو المستند المعتقد والمعول المعتضد"[9] ويضيف "ومن ناحية أخرى يشترط رضاهم في اختيار الإمام"[10] وقال "إن بايع رجل واحد مرموق كثير الإتباع والأشياع مطاع في قوم، وكانت بيعته تفيد ما أشرنا إليه انعقدت الأمة"[11].وعليه، فالغلبة على الحكم ليست طريقاً مشروعة لتولي الأمر؛ لأنها إهدار لإرادة الأمة وغصب لها واعتداء على حقوقها، والإقرار بشرعيتها يؤدي إلى فوضى وتهارج بين المسلمين وتجرئ كل من شعر أن لديه قوة لأن يسطو على الحكم، وأما قبول ولاية المتغلب بعد تحقق تغلبه وقهره للناس، فهذا من باب الضرورة؛ كأكل الميتة إنما يجوز في حالة الضرورة فقط، وليس ما أبيح للضرورة يباح في غيرها، وكذلك قبول ولاية المتغلب، وهو ليس بإطلاق، وإنما بشروط وضوابط.أما ما جاءنا عن طريق الشورى ومؤسساتها، من اختيار وتولية وبيعة، أو من عزل وإعفاء وإلغاء، أو من "حل وعقد" فهو شرعي ومشروع، وهو من الإسلام وإليه، لكونه مأمورا به في القرآن والسنة، ومعمولا به في سنة الخلفاء الراشدين.نقض لأسس "الظاهرة الداعشية " من حيث التولية والحكم جاء في كلمة "هذا وعد الله" للعدناني: "وننبه المسلمين:أنه بإعلان الخلافة، صار واجبا على جميع المسلمين مبايعة ونصرة الخليفة إبراهيم حفظه الله، وتبطل شرعية جميع الإمارات والجماعات والولايات والتنظيمات، التي يتمدد إليها سلطانه ويصلها جنده، قال الإمام أحمد رحمه الله، في رواية عبدوس بن مالك العطار: ومن غلب عليهم بالسيف، حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين: فلا يحل لأحد يؤمن بالله أن يبيت ولا يراه إماما، برا كان أو فاجرا، وإن الخليفة إبراهيم حفظه الله: تتوفر فيه جميع شروط الخلافة التي ذكرها أهل العلم، وقد بُويع في العراق مِن قبل أهل الحل والعقد في الدولة الإسلامية، خلفًا لأبي عمر البغدادي رحمه الله، وقد امتد سلطانه على مناطق شاسعة في العراق والشام، وإن الأرض اليوم: تخضع لأمره وسلطانه مِن حلب إلى ديالى، فاتقوا الله يا عباد الله، واسمعوا وأطيعوا لخليفتكم، وانصروا دولتكم؛ التي تزداد كل يوم بفضل الله عزة ورفعة، ويزداد عدوها انحسارًا وانكسارًا. .. وأما أنتم يا جنود الفصائل والتنظيمات؛ فاعلموا أنه بعد هذا التمكين وقيام الخلافة: بطلت شرعية جماعاتكم وتنظيماتكم، ولا يحل لأحد منكم يؤمن بالله: أن يبيت ولا يدين بالولاء للخليفة..." انتهى.أول ملاحظة نسجلها تعليقا على هذا الكلام هو الخلط في مسألة قيام الخلافة المزعومة: فتارة يقال قامت الدولة بمبايعة أهل الحل والعقد، وتارة أخرى يقال بالتغلب وهما أمران متناقضان لا يجتمعان، فإما أن تقام الدولة على الاختيار أو تقام على التغلب.والحقيقة أن الفكرة التي بنيت عليها إقامة الدولة والخلافة المزعومة، هي فكرة التغلب وليس البيعة من أهل الحل والعقد. ولهذا دافع أتباع البغدادي وجماعة تنظيمه عن هذه الفكرة بقولهم في بيان "هذا وعد الله" قال الإمام أحمد رحمه الله، في رواية عبدوس بن مالك العطار: ومن غلب عليهم بالسيف، حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين:فلا يحل لأحد يؤمن بالله أن يبيت ولا يراه إماما، برا كان أو فاجرا..."كما يظنون أنّ أهل الحل والعقد هم أعضاء التنظيم، وهذا خطأ؛ لأن أهل الحل والعقد هم من تتوفر فيهم شروط النيابة والتعبير عن رأي غالبية الناس الذين يعيشون في القطر الذي بويع فيه للخليفة؛ لأن السلطان للأمة وهم ينوبون عن الأمة ويمثلونها. قال الماوردي في الأحكام السلطانية: "أَهْلُ الِاخْتِيَارِ فَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِيهِمْ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا: الْعَدَالَةُ الْجَامِعَةُ لِشُرُوطِهَا. وَالثَّانِي: الْعِلْمُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْإِمَامَةَ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا. وَالثَّالِثُ: الرَّأْيُ وَالْحِكْمَةُ الْمُؤَدِّيَانِ إلَى اخْتِيَارِ مَنْ هُوَ لِلْإِمَامَةِ أَصْلَحُ، وَبِتَدْبِيرِ الْمَصَالِحِ أَقْوَمُ وَأَعْرَفُ..."[12]. ونحن لا نعلم عنهم أي شيء. ويظنون أنّ الشورى بمعنى أخذ الرأي غير الملزم.وعليه فمن الأسس التي قامت عليها الخلافة المزعومة هي عدم وجود الشورى أي قيامها دون أخذ رأي أهل الحل والعقد كما يزعمون.وهذا خطأ فاحش لان الشورى هي الأساس الذي تقوم عليه الدولة ويجري عليه اختيار الحاكم ،وهذا ما لا يمكن ان يتحقق في ظل إمامة المتغلب،فلا يجوز أن يفرض على الأمة حكامها دون إرادة واختيار منها،ولا يجوز أن تسلب الأمة حقها في اختيار حكامها بدعوى الحفاظ على وحدتها أو رعاية مصلحتها،أو بعث امجادها أو غير ذلك من الدعاوى،وقد كان عمر ابن الخطاب واضحا حين قرر أن من حاول أن يفرض نفسه أو عيره دون رضا المسلمين المبني على مشاورتهم يجب أن يعاقب عقاب المفسدين في الأرض "فلا يحل لكم الا أن تقتلوه"[13]وخلاصة القول: إن الخلافة عقد، والعقد قائم على الرضا والاختيار، والتغلّب على الحكم اغتصاب لحقّ المسلمين في الاختيار،بل إنّ الاعتراف بإمامة المتغلّب هدر وهدم لأهم مبادئ الشريعة الإسلامية، وهي الشورى في التولية والحكم "ولو فتح الباب لكل متغلب من غير مسوغ لهدمت الشورى".

الباحث: عبد الصادق بطني


[1]  - احمد الريسوني، امامة المتغلب بين الشرع والتاريخ، مقال بموقع الجزيرة نت[2]  - احمد الريسوني، مقالة بعنوان:امامة المتغلب ليست من الاسلام وأسوء من الرق والقرصنة،موقع الجزيرة نت[3]  -احمد الريسوني، امامة المتغلب بين الفقه والتاريخ، مقالة بموقع الجزيرة نت[4]  - الماوردي، الاحكام السلطانية ،1/28[5]  - الماوردي ، الاحكام السلطانية،ص: 7[6] - المرجع نفسه،ص:15[7] - الفراء، الاحكام السلطانية،ص:28[8] - المرجع نفسه،ص:8 والماوردي ص:29[9] - الجويني،غياث الامم في التيات الظلم،الصفحة:68[10]  - المرجع السابق،ص:125[11] - المرجع نفسه،ص:88[12] - الماوردي ، الاحكام السلطانية،ص: 2[13] - محمد سليم العوا،في النظام السياسي للدولة الاسلامية:الصفحة:86
Science

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. مقال جميل يحلل الواقع العربي في ظل التحولات الاسلامية (داعش)كفكر ظلالي ظلامي المؤسس على البطلان لأن تعاليم الدين الاسلامي بعيدة كل البعد عن قواعدها المزعومة على اعتبار أن قيام الدولة لها اسسها التي تنبني عليها دعائم الدين والوحدة من خلال ارساء مبدأ الشورى ثم الاهليه لمن سوف يسر هذه الامة اجدد شكري وامتناني لك على مقالك ومزيدا من العطاء والاستمرارية اخي عبد الصادق

  2. مقال جميل جمع بين الماضي و الحاضر و قراءة للوقت المعاصر في ظل التحولات التي شهدتها المنطقة ، فتحية للكاتب الذي استطاع ان يجمع بين ماهو واقع و كائن بما هو مقرر في كليات الشريعة و مقاصدها

  3. مقال رائع جدا يحلل كيفية قيام الدولة المدنية من خلال مبدا الشورى والاختيار، انطلاقا من النصوص الشرعية – الكتاب والسنة- بعيدا عن اي مصالح شخصية او نزعات فردية، ويعالج قيام الدولة الاسلامية التي نسمع بها حاليا في الامة العربية ما يسمى ب" داعش" التي لا تمت للاسلام بصلة بل هي بعيدة كل البعد عن الاسلام واهله، شكرا جزيلا اخي عبد الصادق ومسيرة موفقة ان شاء الله

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق