مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكغير مصنف

خزانة القـرويين ودورها في خدمة التراث المالكي

الكلام عن القرويين يطرح في تصورنا مسجدًا وجامعة وخزانة.

فالجامعة احتضنت حلقات علمية في فترة قريبة من تاريخ البناء مما يدفع إلى القول بأن جامعة القرويين من أقدم وأعرق الجامعات التي لا زالت موجودة اليوم.

وأما المسجد فقد قامت ببنائه فاطمة أم البنين بالعدوة التي كان لها نفس الاسم بفاس وذلك في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي.

وأما الخزانة فإنها تعد تراثًا معرفيًا كبيرا، ومنهلاً علمياً زاخرًا، ومرجعًا تاريخيًا وحضاريًا عريقًا يستدعي الوقوف عند هذه المعلمة التاريخية لمعرفة أهميتها والتي تبرز من خلال:

* تاريخها العريق.

* ما  تزخر به من ذخائر علمية نفيسة.

* نظام تدبيرها المحكم.

* دورها في الحفاظ على التراث العلمي عامة والمالكي خاصة.

1- تاريخ خزانة القرويين.

رغم احتضان صحن القرويين للدروس العلمية والحلقات المعرفية قبل المرنيين فقد بقيت بدون خزانة حتى عصر المرنيين. وتعتبر مبادرة السلطان يعقوب المريني -الذي فرض على سانشو ملك قشتالة إرجاع ثلاثة عشر حملاً من الكتب النفيسة التي استولى عليها المسيحيون في فترة سابقة وتحبيسها على طلبة العلم بمدرسة الصفارين، والتي كان قد بناها بجوار القرويين – خطوة أولى في تأسيس خزانة علمية خاصة بالطلبة.

 ونظرًا لكون أبي عنان المريني رجلاً فقيها يناظر في الفقه العلماء الأجلة، ولكونه عارفاً بالمنطق وأصول الدين وله حظ صالح من العربية والحساب وكان حافظًا للقرآن، عارفًا بناسخه ومنسوخه، حافظًا للحديث، عارفًا برجاله، فصيح القلم، كاتبًا، بليغًا حسن التوقيع.(الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام ج/1 ص:344 تأليف العباس بن إبراهيم السَّملالي الطبعة الثانية 1413هـ 1993م)، فقد عمد بمجرد وصوله إلى الحكم عام 750هـ/ 1350 إلى إنشاء خزانة علمية متخصصة بالقرويين وخزانة أخرى خاصة بالمصاحف. ولقد حبس السلطان أبو عنان على الخزانة العلمية رصيدًا هامًا من المخطوطات والمؤلفات، وعين عليها قيمًا من العلماء ليسهر على تدبير شؤونها وصيانة ذخائرها وكنوزها من الكتب، ووضع نظامًا صارمًا لتدبير الاستفادة من كتبها كما توضح ذلك الكتابة المنقوشة التي لا تزال تزين مدخل الخزانة المرينية، ومما جاء فيها:

«أنشأ هذه الخزانة السعيدة الجامعة للعلوم الحميدة المشتملة على الكتب التي أنعم بها من مقامه الكريم المحتوية على أنواع العلوم…حرصًا منه أيده الله على طلبة العلم وإظهاره وإتقانه واشتهاره وتسهيلاً لمن أراد القراءة والنسخ منها والمطالعة والمقابلة وليس لأحد أن يخرجها من أعلى المودع التي هي فيه ولا يغفل المحافظ عليها والتنويه… ». (تاريخ مدينة فاس من التأسيس إلى أواخر القرن العشرين الثوابت والمتغيرات تأليف مجموعة من الأساتذة الباحثين ص:127- 126 ط د ت).

وفي أوج الدولة السعدية سيقوم ملك آخر، عالم مشارك كأبي عنان ببناء خزانة ثانية بالقرويين. وهو أبو العباس أحمد المنصور الذهبي الذي تولى الحكم سنة 986/ 1578 بعد وقعة وادي المخازن. وقد جمع هذا الملك إلى جانب الحنكة السياسية المشاركة في العلوم كلها. ويرجع  بناؤه لخزانة ثانية بالقرويين إلى سببين:

السبب الأول: حبه للعلم واتصاله الوثيق بعلماء فاس مثل شيخه أبي المحاسن يوسف الفاسي، وأبي عبد الله محمد بن يوسف الزياتي، وأبي مالك عبد الواحد الحميدي، وأبي زكرياء يحيى السراج، وأبي عبد الله ابن قاسم القصار.

والسبب الثاني: إرادته مباهاة خزانة أبي عنان المريني بخزانة أخرى بجامعة القرويين، مثلما بنى قصر البديع بمراكش من أجل مزاحمة المآثر المعمارية التي تركتها الدول السالفة بالمغرب.

أما تاريخ بناء خزانة المنصور فهو غير معروف بالتدقيق إلا أن بعض المصادر تشير إلى تحديد ذلك في السنوات الأخيرة للقرن العاشر الهجري/ أواخر القرن السادس عشر الميلادي.

وخزانة أحمد المنصور السعدي هي التي ستبقى إلى يومنا هذا بالقرويين مع التغيرات التي طرأت عليها مع مرور الزمن.(فهرس مخطوطات خزانة القرويين لمحمد العابد الفاسي ج/1 ص: 23- 24.الطبعة الأولى 1399- 1979.

وقد حظيت الخزانة أيضًا باهتمام ورعاية الملوك العلويين.فنجد السلطان المولى رشيد وجه عناية بالغة إليها ثم قام بعده السلطان المولى إسماعيل بترتيبها وإغناءها بالكتب التي كان يحصل عليها بمختلف الطرق.

ومن الطريف أن نجد المولى إسماعيل يستغل وقوع بعض الرهائن الأجانب تحت يديه ليطلب من دول تلك الرهائن أن تعطيه في مقابل« الخمسين أسيرًا نصرانيًا» من المائة التي كانت عنده خمسة آلاف كتاب: مائة كتاب عن كل نصراني يكون الكتاب من كتب الإسلام الصحيحة المختارة المحجوزة في خزائنهم بإشبيلية وقرطبة وغرناطة وما والاها من المدن والقرى. وقد قيل في وصف الخزانة الإسماعيلية أنها جمعت من التصانيف وأنواع الدفاتر وأسماء التآليف ما لم تحوه خزانة بغداد ولا علق بحفظ الأستاذ.

وبعد السلطان المولى إسماعيل أضاف السلطان المولى عبد الله عددًا كبيرًا من الكتب العلمية للخزانة كان منها كتاب الطب لسيدي محمد الصنهاجي وذلك في تاريخ 22 رجب 1156.هـ

أما السلطان محمد بن عبد الله فقد عرف عهده كثرة النساخين مما جعله يحبس عددًا من النسخ على خزائن مصر القاهرة والإسكندرية كما فعل بنسخ من تاريخ ابن خلدون، ووفيات الأعيان، وقلائد العقيان، والأغاني، ونفح الطيب وغيرها. وفي المقابل كان السلطان يجلب المزيد من المخطوطات الفريدة والنادرة من المشرق.

وفي عهد السلطان المولى سليمان اتسعت الخزانة حيث قام رحمه الله بإضافة الخربة التي كانت بجوارها المنسوبة إلى أولاد الفرديس.

ولم يفت السلطان المولى عبد الرحمان أمر الخزانة فقد ترك بصمة خالدة في سجل ما عرفته من إصلاح وتجديد.

وأبرزت ظهائر السلطان المولى الحسن مدى العناية الكبيرة التي حظيت بها الخزانة في عصره.

وفي عهد الحماية حاول الجنرال كورو أن يظهر لأهل فاس اهتمامه بهذه المدينة وبالقرويين بصفة خاصة ولا سيما بعد الأيام الثلاثة الدامية التي عرفتها المدينة إثر التوقيع على معاهدة الحماية. فعهد إلى بعضٍ إعداد تقرير حول مكتبة القرويين، فكتب هذا في 20 ذي الحجة هـ1330هـ و30 نوفمبر 1912م يقول:” وجدنا المكتبة غاية الضياع والتلاشي والتفرقة، ووجدنا كتبًا كثيرة لا توجد بالخزانة… كثيرة جدًا بحيث لا ينطبق الموجود على ما في الدفتر، ولذلك عينا العدول لمعاينة الموجود، وعملنا دفترًا وأطلعنا الحاكم القبطان ميلي على أصوله”…

أما الملك سيدي محمد بن يوسف فقد أصدر الأمر في جمادى الآخرة 1348هـ (نوفمبر 1929 م) بإضافة ثلاثة أبهاء جديدة بجوار الخزانة السعدية، خُصِّص فيها جانب للمحافظ. وكانت مناسبة لإحداث إصلاحات في الناحية، تناولت فتح باب إضافي للخزانة من جهة الخربة، من شأنه أن يحقق رغبة الزوار الأجانب.

وبعد نحو من عشر سنوات كانت الحاجة قد ألحت على زيادات أكثر وأشمل، ولهذا نجد العاهل سيدي محمد بن يوسف يضع الأساس لخزانة كبرى ذات قاعة فخمة من ثلاثة وعشرين مترًا على عشرة أمتار، وقد كتب على رخامة التأسيس« الحمد لله وحده أسس هذه الخزانة العلمية، ووضع الحجر الأساسي بها جلالة السلطان المعظم سيدي محمد بن يوسف نصره الله وأعزه في فاتح ربيع النبوي الأنور عام 1359هـ -1940م ». وقد أخذ يغدق عليها المخطوطات التي كانت تضمها بعض الخزانات القديمة. وهكذا نرى في الخزانتين المحمديتين امتدادًا للخزانة الأحمدية السعدية التي كانت أَزْرًا للخزانة المريينية.

وقد أضاف الملك محمد الخامس إلى هذا محمدة أخرى بما أعاد إلى خزانة السلطان أبي عنان القديمة من حياة فخصصها للكتب التي تعتمد عليها الدراسة النظامية في الجامعة.(جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس لعبد الهادي التازي ج/2 ص:  670. دار الكتاب اللبناني- بيروت).

2- نظام الخزانة:

أما نظام خزانة القرويين فقد عرف اهتمامًا كبيرًا وضبطًا محكمًا ينم عن مدى العناية والرعاية التي حظيت بها القرويين من طرف الحكام. فقد عين لها أبو عنان قيمًا يسهر عليها وأجرى له على ذلك جراية مؤبدة تكرمة وعناية منذ تاريخ تأسيسها.

أما الملك أحمد المنصور فقد كان يرغب عند تأسيس خزانته بالقرويين تعيين أحد أبناء أبي المحاسن يوسف الفاسي على رأسها، لكن أبا المحاسن اعتذر تباعدًا منه عن رجال السلطة. وبعد مرور خمسة أجيال على طلب أحمد المنصور نجد أول قيم لخزانة القرويين من ذرية أبي المحاسن يوسف الفاسي وهو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن امحمد بن عبد القادر بن علي بن أبي المحاسن الفاسي، المتوفى سنة 1179 هـ.

ثم نجد على رأسها أبا عبد الله محمد الطيب بن عبد السلام القادري في عهد السلطان مولاي عبد الرحمان. ثم أبا الحسن علال بن جلون في عصر السطان سيدي محمد بن عبد الرحمان، وبعد ذلك أبا عبد الله محمد بن التهامي الوزاني عام 1311هـ، وأبا العباس أحمد بن محمد المهدي بن محمد ابن العباس البوعزاوي المتوفى عام 1337هـ.(فهرس مخطوطات القرويين لمحمد العابد الفاسي ج/1 ص: 25).

وقد أنيطت مهمة الإشراف على الخزانة إضافة إلى العلماء إلى القضاة ونظار الأحباس.

فقد ورد في ظهير حفيظي مؤرخ في 29 جمادى الثانية 1329هـ/27 يونيو1911م، وموجه إلى القاضي السماط محمد بن رشيد العراقي يقول بعد الحمد والصلاة على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم« يعلم من هذا المسطور الكريم، المتلقى أمره بالإجلال والتعظيم أننا بحول الله وقوته، وشامل يمنه ومنته، أقررنا الفقيه القاضي السيد محمد بن رشيد العراقي مع قاضي مقصورة الرصيف ونظار أحباس القرويين على تعاهد خزانة الكتب العلمية بخزانتي القرويين والرصيف وتفقد ما فيهما من الكتب…. » (فهرس مخطوطات القرويين لمحمد العابد الفاسي ج/1 ص:25).

3- التراث العلمي في خزانة القرويين:

تعتبر خزانة القرويين كما سبق الذكر من أعرق الخزانات فهي تحتوي على عدد مهم من المخطوطات يعود تاريخ كتابتها إلى القرن الثاني الميلادي، كما تضم مخطوطات فريدة بعضها بخط مؤلفيها ومن بينها: مؤلفات لابن خلدون وابن طفيل وابن رشد ومؤلفات مختلفة لبعض ملوك المغرب.

يقول الأستاذ الحاج أحمد بن شقرون:

وسَلْ عن الخزانـة العــلميــة         وما بها من تحــف سَــنِيَّـــــة

تجدْ من المخطوط ما يَعِــــزُّ         وفي المعـــــــارف الذي يَبُـزُّ

(أرجوزة من زهر الآس عن جامع القرويين بفاس عبر القرون للأستاذ أحمد ابن شقرون ص:26. 1414هـ -1994م).

ومن أهم المخطوطات داخل الخزانة كتب لها قيمة تاريخية حيث ارتبطت بخزانات ملوك كان لهم وزن في تاريخ المغرب كبعض أجزاء من موطأ الإمام مالك كتبت لخزانة علي بن يوسف بن تاشفين على ورق الغزال. وكتاب محاذي الموطأ الذي ألفه المهدي بن تومرت ووضعه في خزانته ثم خزانة عبد المومن وكتاب البيان والتحصيل لابن رشد الجد. (خزانة القرويين وآفاق إشعاعها الديني والثقافي ندوة تكريمية لعميدها عبد الوهاب التازي سعود).

ومن بين الكتب القيمة الأخرى بخزانة القرويين: شرح مختصر أبي القاسم بن الجلاب المصري المالكي، وقطعة من كتاب النوادر والزيادات على ما في المدونة في موضوع الإقرار لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، وكتاب المعاني في شرح حرزالأماني للشاطبي من تأليف أبي عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي المعروف بابن آجروم وغيرها.

4- دور خزانة القرويين في خدمة التراث العلمي والمالكي خاصة:

ساهمت خزانة القرويين منذ القديم إلى يومنا هذا في فتح باب التواصل العلمي والإشعاع المعرفي فكانت ولا زالت قبلة الباحثين ومحط أنظار المهتمين بالتراث الإسلامي. وذلك بفضل ما تزخر به من مخطوطات نفيسة وكتب فريدة ذات أصول متعددة الوجهة الجغرافية، فهي إما ذات طابع شرقي أو أندلسي أو شمالي إفريقي ومغربي.

أما ما هو أندلسي فقد عرف طريقه للخزانة نظرًا لطبيعة الاتصال الوثيق بين بلدان الغرب الإسلامي بما فيها الأندلس حتى سقوط آخر قلعة إسلامية بها.

وأما ما هو شرقي فقد كان يصلها بشتى المناسبات خاصة بعد زيارة العلماء المغاربة إلى البلاد الشرقية وعودتهم منها. وزيادة على ذلك، فقد اعتاد ملوك المغرب أن يبعثوا إلى البلاد العربية والإسلامية الأخرى بمن يقتني الكتب وينتسخها ويعود بها إليهم، كما كانوا يتوصلون بمؤلفات مهداة إليهم من مؤلفيها ويوافون هؤلاء المشارقة بما يتم نسخه بالمغرب كما فعل السلطان محمد بن عبد الله بنسخ ابن خلدون، وغيرها.

كما أن رسائل أحمد المنصور السعدي في هذا المجال، صارت اليوم غنية عن التعريف. ففي إحداها، وهي موجهة إلى بدر الدين القرافي، يقول المنصور:” وها خدام جنابنا العلي واردون على تلكم الديار برسم جلب ما لعلكم تستفرغون فيه الوسع من الكتب لخزانتنا العلمية… الحافلة.. وأما التشوق لموضوعكم على مختصر أبي مودة خليل فشيء لا يكيف، ومعهود لا يحتاج أن يعرف…”

ويقول في رسالة أخرى إلى نفس العالم المصري: “وأما ما توجه فيه استدعاؤكم من الكتب العلمية، والتآليف التي تعلقت بها رغبتكم السنية فيصلكم منها شرح العلامة أبي مرزوق على مختصر خليل.. وبقية الكتب التي وجهتم عنها سيصلكم إن شاء الله كل ما انتسخ منها.. ثم اعلموا أننا بالأشواق إلى تآليفكم الحسان، وتصانيفكم المملوءة بالإفادة والإجادة والإحسان، فلتسعفوا أملنا بدفعها إلى أصحابنا بقصد استنساخها هناك وجلبها، إن شاء الله إلى أعتابنا” فهرس مخطوطات خزانة القرويين لمحمد العابد الفاسي ج/1 ص:29- 30. الطبعة الأولى 1399-1979.

وهكذا وكما سلف الذكر فقد نالت خزانة القرويين مكانة هامة منذ العصور القديمة، ولا زالت تحظى بهذه المكانة رغم الأطوار التي مرت بها عبر عمرها الطويل،  ولازال دورها في نشر العلم وبث المعرفة وخدمة أهل العلم وطلبته ومساعدة الباحثين والمؤلفين، شاهدًا على كونها مثالاً نادرًا ونموذجاً عاليًا وعزيزًا للمكتبة الإسلامية التي يستمر وجودها ويثبت كيانها، ولا يأفل نجمه، ولا يخف إشعاعها، ولا يُجْحَدُ فضلها في حفظ الكنوز الثمينة والذخائر النفيسة لحضارتنا المشرقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق