مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةشذور

حكميات عطائية: “سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار”

إن الهمة هي قوة في النفس يتحصل عند توجهها إلى الشيء بإذن الله تأثير، وقد أشار سيدي ابن عطاء الله السكندري بالسبق إلى قوة التأثير وسرعته، وحيث أطلقت فتعلقها بالفضائل واستعمال كل وسيلة من وسائل الخيرات؛ لطلب المنازل العالية ورفيع الدرجات، وسني الحالات، والنزوع عن مواطن الرذائل والغفلات، إلى فسيح المكارم ونيل المقامات، وبواهر الكرامات .

وكل همة إلى غير ما ذكر فهي من المكر، ولكن تدخل من حيث حدّ الهمة.

ومع كونها مؤثرة سريعة التأثير فهي موقوفة على مشيئة الله وقدرته، فمتى لم تجد نفوذا في سور القدر الإلهي، لم يكن لها تأثير في شيء البتة؛ فالتخصيص الإرادي والإبراز القدري أصل بروز الممکنات، والهممُ السوابق والعزائم الخوارق آثار وفروع عنهما؛ فلا تتعدى همة دون قدرة الله وإرادته[1]، فخرج بذلك أن الهمم ثلاثة: همة قاصرة، وهي: لا تقتضي فعلا ولا انفعالا، وهمة متوسطة، وهي: التي تقتضي الفعل فقط، وهمة سابقة، وهي: التي تقتضيهما، ولكن لا تأثير لها، فالشيء يقع عندها لا بها…[2].

فمثال القاصرة أن يعزم العبد على العمل ويقول مثلا: إن رزقني الله مالا تصدقت به، ولأكونن من الصالحين… إلى غير ذلك، فرزقه الله مالا فبخل به، فنزل قوله تعالى: ﴿ومنهم من عاهد الله [التوبة، الآية:76] فهذا العزم لا يقتضي الفعل فضلا عن الانفعال[3].

ومثال السابقة قول سیدنا عمر رضي الله عنه:  «لأن أُقَدَّمَ فتضرب عنقي في غير حدّ، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر الصديق، اللهم إلا أن تسول لي نفسي عند القتل شيئا لا أجده الآن»[4] فإنه قد وجد من نفسه العزم الجازم والمحبة الصادقة في أنه لا يتأمر مع وجود أبي بكر، وأكد ذلك بما ذكره من العمل…؛ فقد يوجد العزم ولا ينتهي إلى الرضى بالقتل، وقد ينتهي إلى الرضى بالقتل، وكل منهما يقتضي الفعل إما مطلقا أو بشرط، ثم مع اقتضاء الفعل قد لا تقتضي الانفعال؛ فلا تطاوعها الأشياء عند المحاولة والمباشرة إذا حقت الحقائق ووقع التمكن، فينحل حينئذ العزم وتغلب الشهوة، ولهذا استثنى عمر رضي الله عنه فقال: «… إلا أن تسول لي نفسي عند القتل شيئا لا أجده الآن»، فأشار إلى شدة الوفاء بالعزم على النفس، ولهذا قال تعالى: ﴿رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [الأحزاب، الآية: 23]، فأشار إلى أن دوام العزم عند تحقق الحقائق وهيجان الشهوات هو الصدق الحقيقي[5].

أما المتوسطة: فبينهما، ارتفعت عن القاصرة، وانحطت عن السابقة.

وبهذا يعرف أن لا تأثير لهمة الولي، فالمصاحب له من آدابه أن يعتمد على الله، ويعتقد أن ما قدر له من خير على يديه فهو إليه واصل، وما لا فلا، فإن وصل إليه نفعٌ من قِبله، شاهده من الله، وأنه هو الذي سخره على يده، فحمده وشكره، وشكر الواسطة وقام بحقها، وإلا عذره ولم يتغير خاطره عليه، لعلمه أن الله لم يسخر ذلك على يديه، فيسلم من آفات الصحبة في الحالين، ولا يتقلب حاله، ثم الظاهر أنه شبه الأقدار بالذخائر النفيسة العزيزة في الصيانة والحفظ، والمبالغة في الحجب بتعديد الأسوار الحاجبة، وكنّى عن ذلك بإثبات الرديف، أي: الأسوار، فإذا كانت الهمم السوابق لا تخرق تلك الأسوار، فأحرى أن لا تصل إلى ما هي أسوار لها[6].

فهمة العارف تتوجه للشيء فإن وجدت القضاء سبق به كان ذلك بإذن الله، وإن وجدت سور القدر مضروبا عليه، لا تخرقه بل تتأدب معه وترجع لوصفها وهي العبودية، فلا تتأسف ولا تحزن بل ربما تفرح لرجوعها لمحلها وتحققها بوصفها…، قال سيدي علي رضي الله عنه: «نحن إذا قلنا شيئا فخرج فرحنا مرة واحدة، وإذا لم يخرج فرحنا عشر مرات»[7] وذلك لتحققه بمعرفة الله.

والهمة: قوتها وضعفها على قدر ما عند الإنسان من الاستعداد، والهمة سفينة العارف في بحار الوجود؛ بها يترقى عن حضيض الشهوات والحظوظ، وبها يخترق المنازل الروحانيات.

وهي براق السالكين، وبرهان الواصلين، وبها سار من سار على الماء، وبها طار من طار في الهواء؛ لكنْ قوةُ نفوذها وسرعة تأثيرها على قدر ما عند السالك من الاستعداد، فإذا توجهت في فعل شيء لم تبرزه القدرة… عادت كليلة، أو في دفع شيء وقد سبق في سابق العلم تقديره… ظهر في الوجود تأثيره، ولم تدفع عنك الهمة تقديره[8].

وفي ذلك قال أبو محمد علي بن عبد الله بن أحمد باراس (ت1094هـ):

إن الهمم تحت حكم الأمر دائرة           فــلـــيـــس تــنفـــذ فيما صـانه القدر

فهمة المرء مالم تــلــق مـنفذها            في سور الأقدار لا يظهرْ لها أثر[9]

الهوامش:

[1] شفاء السقم ص: 123.

[2] شرح ابن زكري على الحكم، (مرقون) ص: 86.

[3] شرح ابن زكري على الحكم، (مرقون) ص: 88 بتصرف

[4] صحيح البخاري كتاب الحدود، باب: باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، بلفظ: “والله أن أقدم فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك من إثم، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند الموت شيئا لا أجده الآن”، رقم: 6830

[5] شرح ابن زكري على الحكم، (مرقون) ص: 87-88 بتصرف.

[6] شرح ابن زكري على الحكم، ص: 89-90 بتصرف.

[7] إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ابن عجيبة، ص: 16.

[8] شفاء السقم ص: 123-124

[9] شفاء السقم، ص: 124.

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق