مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

حفظ الصحة العامة في السنة النبوية: انتقاء، وتخريج، وشرح

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

أما بعد؛

فإن ما يمر به العالم اليوم بسبب انتشار جائحة كورونا، وأثرها على جميع مناحي الحياة، سيما وأن هذا الوباء ينتقل بالعدوى، ويؤثر على الصحة العامة، فإني ارتأيت أن أجمع جملة من الأحاديث في الموضوع، مع شرح لطيف لبعض الأئمة مبثوثة في كتبهم، تتناول بعض الأحكام والفوائد والدرر في حفظ الصحة العامة، وهذه الأحاديث انتقيتها من كتب الصحاح معزوة إلى أصولها، وهي مرتبة على الأصحية، وهي ستة:

1-حديث: أسامة بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها».

التخريج: هذا الحديث رواه الشيخان: البخاري في صحيحه؛ كتاب: الطب، باب: ما يذكر في الطاعون، ومسلم في صحيحه؛ كتاب: السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، والإمام مالك في موطأه؛ كتاب: الجامع، ما جاء في الطاعون[1].

الشرح: قال ابن عبد البر (المتوفى عام: 463هـ): “فيه عندي والله أعلم النهي عن ركوب الغرر، والمخاطرة بالنفس والمهجة؛ لأن الأغلب في الظاهر أن الأرض الوبيئة لا يكاد يسلم صاحبها من الوباء فيها إذا نزل بها، فنهوا عن هذا الظاهر، إذ الآجال والآلام مستورة عنهم”[2].

وقال القاضي عياض (المتوفى عام: 544هـ): “في هذا الحديث من العلم: توقي المكاره ومن منها قبل وقوعها، وفيها التسليم لأمر الله وقدره إذا وقعت المصائب والبلايا … قال بعض أهل العلم: لم ينه عن دخول أرض الطاعون والخروج عنها، مخافة أن يصيب غير ما كتب عليه، ويهلك قبل أجله، لكن حذار الفتنة على الحي، من أن نظن أن هلاك من هلك من أجل قدومه، ونجاة من نجى لأجل فراره”[3].

وقال محمد الفضيل الشبيهي (المتوفى عام: 1318هـ): “فلا تدخلوها: لئلا يصيب الداخل شيء بتقدير الله، فيقول لولا أني دخلت هذه الأرض ما أصابني، مع أنه لابد أن يصيبه ما قدر له، دخل أو لم يدخل. فلا تخرجوا : لأنه هروب من القدر، ولئلا تضيع المرضى والموتى، فالأول تأديب وتعليم، والثاني تفويض وتسليم”[4].

2-حديث: أسامة بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يوردن ممرض على مصح».

التخريج: هذا الحديث رواه الشيخان: البخاري في صحيحه؛ كتاب: الطب، باب: لا هامة، ومسلم في صحيحه؛ كتاب: السلام، باب: لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، ولا نوء، ولا غول، ولا يورد ممرض على مصح، والإمام مالك في موطأه؛ كتاب: الجامع، عيادة المريض والطيرة [5].

الشرح: نقل ابن بطال (المتوفى عام: 449هـ) عن يحيى بن يحيى الأندلسي قوله: “لا يحل من أصابه جذام محلة الأصحاء، فيؤذيهم برائحته وإن كان لا يعدو، والأنفس تكره ذلك. قال: وكذلك الرجل يكون به المرض لا ينبغي له أن يحل موردة الأصحاء إلا أن لا يجد عنها غناء فيرد”[6].

وقال أبو العباس القرطبي (المتوفى عام: 656هـ): “نهى عن إيراد الممرض على المصح، مخافة الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من اعتقاد ذلك، أو مخافة تشويش النفوس، وتأثير الأوهام، وهذا كنحو أمره صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم، فإنا وإن كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي فإنا نجد من أنفسنا نفرة، وكراهية لذلك، حتى إذا أكره الإنسان نفسه على القرب منه وعلى مجالسته تألَّمت نفسه، وربما تأذت بذلك ومرضت، ويحتاج الإنسان في هذا إلى مجاهدة شديدة ومكابدة. ومع ذلك فالطبع أغلب، وإذا كان الأمر بهذه المثابة، فالأولى بالإنسان ألا يقرب شيئًا يحتاج الإنسان فيه إلى هذه المكابدة، ولا يتعرض فيه إلى هذا الخطر، والمتعرض لهذا الألم، زاعمًا أنه يجاهد نفسه حتى يزيل عنها تلك الكراهة، هو بمنزلة من أدخل على نفسه مرضًا إرادة علاجه حتى يزيله. ولا شك في نقص عقل من كان على هذا، وإنما الذي يليق بالعقلاء ويناسب تصرُّف الفضلاء، أن يباعد أسباب الآلام ويجانب طرق الأوهام، ويجتهد في مجانبة ذلك بكل ممكن، مع علمه بأنه لا ينجي حذر عن قدر، وبمجموع الأمرين وردت الشرائع وتوافقت على ذلك العقول والطبائع”[7].

3-حديث: أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد».

التخريج: هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه؛ كتاب: الطب، باب: الجذام[8].

الشرح: قال أبو الوليد الباجي (المتوفى عام: 474هـ): “ظاهر هذا يقتضي أنه يستضر به استضرارا غير التكره لمجاورته؛ لأنه إذا قدر على الصبر على مجاورته فلا معنى لنهيه صلى الله عليه وسلم إلا أن يريد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، إنك إذا استضررت برائحته وكرهت مجاورته، فإنه مباح أن تفر منه فرارك من الأسد، والله أعلم. وقد قال: يحيى بن يحيى في القوم يكونون في قريتهم، شركاء في أرضها ومائها وجميع أمرها، فيجذم بعضهم، فيردون المستقى بآنيتهم، فيتأذى بهم أهل القرية، ويريدون منعهم من ذلك، إن كانوا يجدون عن ذلك الماء غنى من غير ضرر بهم، أو يقوون على استنباط بئر، أو إجراء عين من غير ضرر بهم ولا فدح بهم، فأرى أن يؤمروا بذلك ولا يضاروا، وإن كان لا يجدون عن ذلك غنى إلا بما يضرهم، أو يفدحهم، قيل لمن يتأذى بهم ويشتكي ذلك منهم استنبط لهم بئرا، أو أجر لهم عينا، أو أقم من يستقي لهم من البئر إن كانوا لا يقوون على استنباط بئر، أو إجراء ويكفون عن الورود عليكم، وإلا فكل امرئ أحق بماله، والضرر ممن أراد أن يمنع امرأ من ماله، ولا يقيم له عوضا منه”[9].

4-حديث: عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم «إنا قد بايعناك فارجع».

التخريج: هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه؛ كتاب: السلام، باب: اجتناب المجذوم ونحوه[10].

الشرح: قال أبو بكر ابن العربي (المتوفى عام: 543هـ): “صرف المجذوم ولم يبايعه مصافحة، لئلا يحتج بذلك على أصحائه فيتأذون في نفوسهم بمخالطة، أو بضر بعد مباشرة النبي له، والله لطيف بعباده”[11].

وقال القاضي عياض: “قالوا: وكذلك يمنع من المسجد واختلاط الناس”[12].

وقال أبو العباس القرطبي: “لم يأخذ بيده عند المبايعة، تخفيف عن المجذوم والناس؛ لئلا يشق عليه الاقتحام معهم، فيتأذى هو في نفسه، ويتأذى به الناس”[13].

 5-حديث: عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الفار من الطاعون، كالفار من الزحف».

التخريج: هذا الحديث رواه أحمد في مسنده[14].

الشرح: نقل ابن حجر (المتوفى عام: 852هـ) عن الطحاوي قوله: “الذي يظهر والله أعلم أن حكمة النهي عن القدوم عليه؛ لئلا يصيب من قدم عليه بتقدير الله، فيقول: لولا أني قدمت هذه الأرض لما أصابني، ولعله لو أقام في الموضع الذي كان فيه لأصابه، فأمر أن لا يقدم عليه حسما للمادة، ونهى من وقع وهو بها أن يخرج من الأرض التي نزل بها؛ لئلا يسلم، فيقول مثلا: لو أقمت في تلك الأرض لأصابني ما أصاب أهلها، ولعله لو كان أقام بها ما أصابه من ذلك شيء”[15].

ونقل أيضا عن الغزالي قوله: “الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر البدن، بل من حيث دوام الاستنشاق، فيصل إلى القلب والرئة فيؤثر في الباطن، ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير في الباطن، فالخارج من البلد الذي يقع به، لا يخلص غالبا مما استحكم به، وينضاف إلى ذلك أنه لو رخص للأصحاء في الخروج لبقي المرضى لا يجدون من يتعاهدهم، فتضيع مصالحهم، ومنها ما ذكره بعض الأطباء: أن المكان الذي يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة، وتألفها وتصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم، فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة، لم يوافقهم بل ربما إذا استنشقوا هواءها، استصحب معه إلى القلب من الأبخرة الرديئة التي حصل تكيف بدنه بها فأفسدته، فمنع من الخروج لهذه النكتة”[16].

6-حديث: ابن أبي مليكة: أن عمر بن الخطاب مر بامرأة مجذومة، وهي تطوف بالبيت، فقال لها: «يا أمة الله، لا تؤذي الناس، لو جلست في بيتك، فجلست، فمر بها رجل بعد ذلك، فقال لها: إن الذي كان قد نهاك، قد مات، فاخرجي، فقالت: ما كنت لأطيعه حيا، وأعصيه ميتا».

التخريج: هذا الحديث رواه مالك في موطأه؛ كتاب الحج، جامع الحج[17].

الشرح: قال ابن عبد البر: “في هذا الحديث من الفقه الحكم بأن يحال بين المجذومين وبين اختلاطهم بالناس لما في ذلك من الأذى لهم وأذى المؤمن والجار لا يحل، وإذا كان آكل الثوم يؤمر باجتناب المسجد وكان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما أخرج إلى البقيع فما ظنك بالجذام وهو عند بعض الناس يعدي وعند جميعهم يؤذي. وأما قول عمر للمرأة لو جلست في بيتك بعد أن أخبرها أنها تؤذي الناس، فإن ذلك كان منه والله أعلم من لين القول لها والتعريض بأنه لم يكن يقدم إليها ورحمها بالبلاء الذي نزل بها فرق لها وكان أيضا من مذهبه أنه كان لا يعتقد أن شيئا يعدي وقد كان يجالس معيقيب الدوسي وكان على بيت ماله وكان يؤاكله وربما وضع فمه من الإناء على ما يضع عليه معيقيب فمه”[18].

هذه الأحاديث وغيرهما من الأحاديث التي دعت إلى حفظ الصحة العامة، تهدف إلى حفظ النفس من الوقوع في الهلاك، ولهذا فقد كان لزاما على الجميع، كل من موقعه مؤسسات وأفراد، أن يسهم في تخفيف أثر هذه الجائحة، التي ابتلي بها العالم، حتى نمر إلى بر السلام آمنين مطمئنين.

****************

هوامش المقال:

[1]– صحيح البخاري (7 /130)، رقم الحديث: 5728، صحيح مسلم (4 /1738)،رقم الحديث: 2218، الموطأ (رواية يحيى الليثي) (5 /1319)، رقم الحديث: 3330.

[2]– التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (12 /260).

[3]– إكمال المعلم بفوائد مسلم (7/ 132-133).

[4]– الفجر الساطع على الصحيح الجامع (12/ 396).

[5]– صحيح البخاري (7/ 131)، رقم الحديث: 5771، صحيح مسلم (4 /1743)، رقم الحديث: 2221، الموطأ (رواية يحيى الليثي) (5 /1380)، رقم الحديث: 3483.

[6]– شرح صحيح البخاري (9/ 450).

[7]– المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (5 /624-625).

[8]– صحيح البخاري (7 /126)، رقم الحديث: 5707.

[9]– المنتقى شرح موطأ الإمام مالك (7 /265).

[10]– صحيح مسلم (4 /1752)، رقم الحديث: 2231.

[11]– المسالك في شرح موطأ مالك (7 /470).

[12]– إكمال المعلم بفوائد مسلم (7/ 164).

[13]– المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (4 /75).

[14]– المسند (41 /74)، رقم الحديث: 24527.

[15]– فتح الباري بشرح صحيح الإمام البخاري (10 /158-159).

[16]– فتح الباري بشرح صحيح الإمام البخاري (10/ 160).

[17]– الموطأ رواية يحيى الليثي (3 /625)، رقم الحديث: 1603.

[18]– الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار (13/ 355_357).

******************

جريدة المراجع

الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة-مصر، دار الوعي، حلب- سوريا، الطبعة الأولى: 1414 /1993.

إكمال المعلم بفوائد مسلم لأبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبى، تحقيق: يحيى إسماعيل، دار الوفاء للطباعة، المنصورة-مصر، الطبعة الثالثة: 1426 /2005.

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (ج12) لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي، تحقيق: سعيد أحمد أعراب، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط- المغرب، 1403 /1983.

شرح صحيح البخاري لأبي الحسن علي بن خلف بن عبد الملك ابن بطال، تحقيق: ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض- السعودية، الطبعة الثالثة: 1425 /2004.

صحيح مسلم بشرح النووي لأبي زكريا يحيى بن شرف، تحقيق: عصام الصبابطي، حازم محمد، عماد عامر، دار الحديث، القاهرة-مصر، الطبعة الرابعة: 1422 /2001.

الفجر الساطع على الصحيح الجامع، لمحمد الفضيل بن محمد الفاطمي الشبيهي، تحقيق: عبد الفتاح الزنيفي، مكتبة الرشد، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى: 1430 /2009.

فتح الباري بشرح صحيح الإمام البخاري لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، بولاق- مصر، الطبعة الأولى: 1300، مصورة مكتبة ابن تيمية القاهرة.

المسالك في شرح موطأ مالك لأبي بكر محمد عبد الله بن العربي المعافري، تحقيق: محمد السليماني، عائشة السليماني، دار الغرب الإسلامي، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى: 1428 /2007.

المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (الصحيح) لأبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة- مصر، الطبعة الأولى: 1412 /1991، مصورة عن دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان.

المسند لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، تحقيق: جماعة من الباحثين، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى: 1421 /2001.

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي تحقيق: محيي الدين ديب ميستو، أحمد محمد السيد، يوسف علي بديوي، محمود إبراهيم بزال، دار ابن كثير، دمشق– سوريا، بيروت-لبنان، دار الكلم الطيب، دمشق-سوريا، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى: 1417 /1996.

المنتقى شرح موطأ الإمام مالك لأبي الوليد سليمان بن خلف بن سعد الباجي الأندلسي، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الأولى: 1332.

موطأ الإمام مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني (رواية: يحيى بن يحيى الليثي)، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، منشورات مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية، أبو ظبي- الإمارات، الطبعة الأولى: 1425 2004.

راجع المقال الباحث: عبد الفتاح مغفور

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق